صدر لهاردي ميريمان وباتريك كويرك وآش جين كتاب «رعاية الموجة الديمقراطية الرابعة: دليل إرشادي لمواجهة مخاطر التسلط». يقسم فريق البحث أشكال المطالبة الشعبية بالتبديل السياسي إلى ثلاثة أقسام. أفعال المشاركة (العصيان والتظاهرات وإقامة الحواجز). وأفعال الإلغاء بهدف تعويق النظام مثل، شجب المصارف الحكومية وعدم دفع الضرائب، وأخيرا تأسيس هياكل بديلة (مثل حكومة في المنفى). ويجدر بنا التفريق بين الاحتجاج الذي يأخذ شكل فورة مؤقتة تقاطع الحياة الطبيعية لعدة ساعات، والمقاومة المدنية التي تديرها هيئة منظمة تعمل لفترات أطول. أول موجة ديمقراطية ظهرت عام 1828 واستمرت حتى 1926 (والكلام لصموئيل هنتنغتون)، وشهدت دعم الحكومات الديمقراطية، وانتهت بنهاية الحرب العالمية الأولى. الموجة الثانية بدأت عام 1945 بعد كسب قوات التحالف للحرب، وانتهت عام 1962 بنكسة شهدتها بعض الأنظمة الديمقراطية. الموجة الثالثة محصورة بين 1974 و2006. وبدأت بانتصار ثورة البرتغال، وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. ولكن قاطعت هذه الموجة نكسات محدودة خلال التسعينيات. وإذا حالف الحظ الموجات السابقة، إلا أن الموجة الرابعة يقف أمامها عاملان. الأول هو تلاقي مصالح الأنظمة المتسلطة، والثاني هو التأقلم مع الفساد والتخلف، ونجمت عن ذلك نقاط ضعف بنيوية منها الفكر الشعبوي، والتقاطب، وخنق تكنولوجيا الاتصالات، والتراكم (بمعنى تسلل حب السيطرة والتسلط بين أفراد المجتمع العاديين)، والديماغوجية. وأشد ما يقلق في كلام ميريمان وفريقه، الدعوة العلنية للاتكال على دعم الغرب والولايات المتحدة. وبمثل هذه الرؤية تفقد أي حركة استقلاليتها وترتبط بدولاب سياسة الدول الحاضنة، إن لم يساعد ذلك، على نشر البلبلة والفوضى، كما حصل في البلقان. كما أنه يعطي المبرر للسلطات لطلب الدعم من جهة خارجية. ولكن يمكن دائما التعويل على الضغط المتجه من أسفل نحو الأعلى (وتحشيد البنية التحتية إن استعملنا مفردات يمقتها ميريمان وفريق بحثه)، حتى يتم دفع حدود الفضاء السياسي بعيدا عن المركز. ويضع فريق البحث 3 شروط لتلقي الدعم من الخارج.
الأول، أن يكون امتدادا لحركات الاحتجاج، لا أن يحل محلها.
الثاني، أن يكون مرنا بطرق تأييده للعمل الثوري.
الثالث، أن يوجد تنسيق بين الجهات الخارجية الداعمة.
ولا ضرورة للتأكيد أن مثل هذه الشروط غير عملية (وإذا تحققت في ظرف استثنائي مثل حرب الخليج الثانية يستحيل تكرارها بعد عودة الحرب الباردة بين المعسكرين). ثم إن أي ضغط خارجي سرعان ما يحول الثورات لنظام سياسي يحل محل نظام سابق، وهذا يكفي لوأد الشعارات الديمقراطية، وإلهاب النزاع بين الفرقاء. ويعترف ميريمان وفريقه بهذه المشكلة، حينما يتناولون هذا الدعم في المرحلة الخامسة لأي ثورة (يسميها مرحلة ما بعد الانتقال أو التحويل). ويعتقدون أن وحدة المجتمع الجديد ستكون مفتوحة على واحد من عدة احتمالات كلها تصب في النتيجة في تجزئة الجهود، وتقسيمها، وتجميد التعبئة demobilization. وبذلك تتهيأ الظروف للتآمر على مستقبل الثورة، وعودة عدوها السابق (كما جرى في الانقلاب على حكومة الرئيس القوتلي في دمشق). وقد فتح باتريك سيل هذه الملفات، وأشار إلى التناحر العلني بين الإنكليز والفرنسيين، لدفن أحلام وأطماع الأتراك في المنطقة، بالإضافة لأمريكا التي اكتفت بدور المتفرج، مع تسريع وتيرة اهتمامها بثروات الخليج العربي. وعلى ما يبدو (كما نفهم من باتريك سيل – وفي مرحلة لاحقة من السياسي اللبناني كريم بقردوني) أن نظام الانتداب السابق اختار أسلوب التنمر، بينما ركزت القوة الأمريكية الصاعدة على أسلوب الانتشار والتوسع الناعم. ولا أستطيع أن أجد في كل هذه الأنشطة أي مجال للديمقراطية، بل بالعكس ضمنت خنقها. وبعد أكثر من مئة عام من هذا الدعم، لا يزال الشرق الأوسط أكبر عدو للتحويل الديمقراطي. ويشجع مريمان وفريقه الدول القوية على اتباع سياسة حظر تستهدف المؤسسات والأفراد المعادين للديمقراطية. وقد أثبتت هذه السياسة سوء نواياها، فهي مفصلة فقط لتغيير جزئي في الأنظمة، بمعنى إجبارها على عقد صفقات تخدم أحد الأطراف الأساسية المتورطة بالنزاع الدولي على النفوذ. وهو اتجاه واضح في الملف النووي الإيراني. ولكن كلما اشتد الحظر، زادت درجة الإفقار وتوسعت موجات الهجرة، حتى إن الحل الأخير تنقصه العفوية ويبدو انتقائيا لخدمة سياسة غامضة لا تستطيع أن تعرف من يمولها ويرعاها. وبكل تأكيد الحروب تؤجل الثورات أو تلغيها وتحجمها. وهي حيلة من بعض الأنظمة لإعادة تجميع الصفوف وملء الفراغ (كما هو حال حكومة رابين في السبعينيات وحكومة نتنياهو في الوقت الراهن). ولكن بعد إحلال السلام، ولو أنه حرج وغير دائم، يمكن لأي مجتمع أن يمر بست مراحل لتفعيل المستقبل الديمقراطي.
الأولى مرحلة العصيان المدني. الثانية تحريض النظام على فرض المزيد من الإجراءات القهرية مع بعض التنازلات. الثالثة تعويم الصدوع والشقوق الموجودة مسبقا، ولكن التي يجري التكتم عليها. الرابعة انسحاب شريحة من المؤيدين للنظام وعلى وجه الخصوص شريحة المتسلقين. الخامسة تآكل السلطة من الداخل. السادسة وبعد سقوط الحكومات الأوتوقراطية تبقى تحديات لا بد من معالجتها مثل، البيروقراطية والمدسوسين على الثورة والفساد وبقايا النظام المنهار. وتبين الإحصاءات أن الاحتجاجات السلمية، أثبتت فعاليتها بالمقارنة مع العمل العسكري والدموي. فقد حالف النجاح الاحتجاجات السلمية، التي اندلعت بين 1900 و2006 بنسبة 58% مقابل فشل 35% منها فقط. بينما نجحت الاحتجاجات الدموية بنسبة 7% فقط مع فشل 5% منها. ولدعم رابع موجة ديمقراطية يقترح فريق البحث استهداف أعمدة النظام الأوتوقراطي وهي الأمن والقضاء والجهاز البيروقراطي، ثم المصارف الحكومية ونقابات العمال، وبعد ذلك يأتي دور إضعاف الإعلام وكسب ما أمكن من رموزه، ثم المعاهد الدينية والثقافية، وأخيرا الكتل غير الحكومية كالميليشيات. وربما أذكّر هنا باختيار البابا يوحنا بولص للجلوس على عرش الفاتيكان، خلال انتفاضة نقابة التضامن في الثمانينيات في بولونيا. ولا أعتقد أن منح جائزة نوبل لشولوخوف وباسترناك من الاتحاد السوفييتي، ولمو يان من الصين الشعبية، ومؤخرا لهان كانغ من جنوب كوريا، أمر بعيد عن سياسة الردع الغربي للثقافة الشرقية. وإذا لم تخدم الجائزة لا قراء هؤلاء الكتاب ولا شعوب تلك المنطقة، فهي تؤشر إلى أولوية الثقافة والدين في الغرب وتجنيدها في معركته مع العقل الشرقي وحضارته الجريحة. وبكل تأكيد اقتصاد السوق ظاهرة أيديولوجية ولها آلة للتفكير، وإن كانت مغلفة بشعارات تبدو أنها لا مبالية وعبثية. كما أنها تروج للمبادرة الفردية وللقدرات الاستثنائية الخارقة، وتبث الذعر والخوف من العمل الجماعي. وتدخل في هذا السياق سياسة إسرائيل في الضرب على الرأس – أو اغتيال القيادات، مع أنهم مجرد أسماء وصور لما يقول عنه هيغل الروح التاريخية وصعود الجوهر. وما يذكر لمريمان وفريقه التشديد على حجب الدعم عن أي إجراء غير سلمي، وتأييد كل حركة سلمية تعبئ المجتمع المدني، وتعتبر أنه الضمانة الوحيدة لإجراء التغيير السياسي المنتظر.
*صدر الكتاب عن هيئة الأطلنطي – أتلانتيك كاونسيل للشؤون الإستراتيجية والأمنية، بالتعاون مع المركز الدولي لدراسة النزاعات غير الدموية. واشنطن 2023. (94 صفحة).
كاتب سوري
الموجة الرابعة للتغيير الديمقراطي تبرز الحاجة إلى التركيز على المؤسسات باعتبارها العمود الفقري للدولة، حيث تعكس قوة أو ضعف هذه المؤسسات مدى قدرة أي نظام على الصمود أمام التحديات. ففي كثير من الدول، تحولت المؤسسات مثل القضاء والإعلام والنقابات إلى أدوات تُستخدم لتعزيز النظام الحاكم بدلاً من حماية مصالح المواطنين. هذا الواقع يجعل مطالب التغيير تصطدم بحواجز هيكلية عميقة.
الدول ذات المؤسسات الهشة تواجه صعوبة في الاستجابة للمطالب الشعبية دون إحداث اضطرابات، لأن غياب الاستقلالية يضعف الثقة في أي إصلاحات محتملة. وعلى العكس، فإن الدول التي تتمتع بمؤسسات مستقلة وفعالة تكون أكثر قدرة على التعامل مع الضغوط الشعبية من دون تقويض الاستقرار. لذلك، فإن تعزيز هذه المؤسسات يمثل ضرورة حتمية لضمان الانتقال السلمي نحو أنظمة أكثر ديمقراطية…(تتمة)
…التحدي يكمن في كيفية إصلاح هذه المؤسسات تدريجيًا بحيث يتم تقويض سلطة الأنظمة الاستبدادية دون تعريض الدولة للانهيار. التركيز على استقلالية القضاء، تعزيز الإعلام الحر، وتفعيل المجتمع المدني هي خطوات أساسية. الموجة الرابعة لا يجب أن تدعو إلى هدم كامل للبنى القائمة، بل إلى بناء نموذج جديد يعيد التوازن بين قوة الدولة ومطالب المجتمع. المؤسسات القوية والشفافة هي المفتاح لتحقيق تحول ديمقراطي يحفظ الاستقرار ويؤسس لمرحلة جديدة من الحكم الرشيد.
…لكن تجدر الاشارة إلى أنه ليست كل الأنظمة قابلة للإصلاح، فذلك يعتمد بشكل كبير على طبيعتها ومدى مرونتها في مواجهة التحديات. الأنظمة التي تعتمد على القمع، وتكرس المركزية المفرطة، وتعاني من هشاشة المؤسسات غالبًا ما تجد صعوبة في تنفيذ إصلاحات حقيقية، لأن أي تغيير جذري قد يُنظر إليه كتهديد مباشر لاستمرارها.
في المقابل، الأنظمة التي تتمتع بمؤسسات نسبية القوة وتاريخ من الحوار مع القوى الاجتماعية والسياسية تكون أكثر قدرة على التكيف، حيث يمكنها اعتبار الإصلاح وسيلة لتعزيز استقرارها بدلاً من تهديد وجودها.
مع ذلك، عندما يغيب الاستعداد السياسي أو تكون الاستجابة لمطالب التغيير معدومة، يصبح الإصلاح مستحيلًا عمليًا. في مثل هذه الحالات، قد تؤدي حالة الجمود إلى تصاعد الاحتقان المجتمعي وزيادة احتمالية حدوث تحولات مفاجئة وغير مستقرة.
عملية الإصلاح ليست مجرد خطوات تقنية أو سياسية، بل هي نتيجة تفاعلات معقدة بين عدة ديناميكيات سياسية، اجتماعية، اقتصادية و ثقافية. الإرادة السياسية تعد العنصر الأساسي، حيث يحتاج الإصلاح إلى قادة سياسيين مستعدين لاتخاذ قرارات جذرية حتى في مواجهة الضغوط. كما أن الضغط الشعبي والمشاركة المدنية تلعب دورًا مهمًا في دفع العملية، حيث يمكن أن تساهم الاحتجاجات والمطالب الشعبية في تسريع الإصلاحات. في الوقت ذاته، تشكل الظروف الاقتصادية عاملًا حاسمًا، حيث أن الأزمات الاقتصادية قد تدفع الحكومات لتبني تغييرات ضرورية.
التفاعلات الدولية تلعب دورًا أيضا في توجيه الإصلاحات، من خلال الضغوط من المنظمات الدولية والدول الكبرى. على الصعيد الداخلي، لا بد من وجود مؤسسات قوية ومستقلة لضمان تنفيذ الإصلاحات بشكل فعال. كما أن التحولات الثقافية والاجتماعية تساهم في تطور العملية، حيث أن تبني قيم جديدة وتعزيز الوعي الاجتماعي قد يسهم في قبول التغيير…(تتمة)
…يمكن أيضا للتجارب السابقة سواء المحلية أو الدولية أن تؤثر في قدرة الجمهور على تقبل الإصلاحات، وقد يكون الفشل السابق عائقًا أو دافعًا نحو تحسين الوضع. الديناميكيات بين القوى السياسية والنخب الحاكمة تساهم كذلك في تحديد وتيرة الإصلاح، حيث يمكن أن تكون المقاومة من النخب أو الأحزاب السياسية عائقًا أمام تقدم العملية. بشكل عام، العملية الإصلاحية تحتاج إلى توازن بين هذه العوامل لضمان نجاحها واستدامتها.