ليس جديداً أن تعمد قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى اجتياح مدينة جنين ومحيطها، فاقتحام المخيمات والقرى والبلدات والمدن الفلسطينية سياسة منهجية قديمة ومتأصلة تتفاوت توقيتاتها وتتنوع أغراضها طبقاً لاعتبارات طارئة أو أخرى دائمة، لكنها تنبثق على الدوام من داخل الطبيعة الاستيطانية والعنصرية والعسكرية والأمنية التي انتهى إليها الكيان الصهيوني، كما تقترن بسلسلة أوهام الاحتلال في ترسيخ استراتيجية اعتماد القوّة المفرطة لردع المقاومة الفلسطينية في شتى تعبيراتها وطرائقها.
لافت، مع ذلك، أن العملية الإسرائيلية الجارية في جنين المدينة والمخيم لا تندرج في إطار المعطيات آنفة الذكر فقط، بل تذهب أبعد من حيث إشراك وحدات النخبة من الجيش والشاباك والمستعربين والاحتياط وبأعداد تتجاوز الـ1000 عنصر، وباستخدام أكثر كثافة للطائرات المسيرة والدبابات والمدرعات، وتجريف الطرقات والدروب والأزقة عن طريق البلدوزرات الضخمة. وإذا كانت الدلالة الأولى خلف هذه المظاهر لا تخرج عن سياقات تضخيم القوة المفرطة وإنزال خسائر أكبر في صفوف المقاومين وإلحاق الأضرار الأكبر الممكنة في البنى التحتية للعمران الفلسطيني، فإن دلالات تالية تشير إلى اضطرار الاحتلال الإسرائيلي إلى خيارات أكثر إفراطاً في وجه تعاظم أعمال المقاومة وارتقاء أساليبها وأدواتها وتكتيكاتها القتالية.
ليس أقل مغزى أن قرع طبول الحرب ضد الفلسطينيين لم يقتصر هذه المرة على وزراء التطرّف والتشدد والفاشية في ائتلاف بنيامين نتنياهو، بل شاركت فيه معظم القوى التي تطلق على نفسها صفة المعارضة سواء داخل الكنيست الإسرائيلي أو حتى في التظاهرات التي تشهدها تل أبيب أسبوعياً ضد مشاريع الحكومة بصدد التعديلات القضائية وتجريد المحكمة العليا من أبرز صلاحياتها. ليس هذا فقط، إذ تقصدت سلطات الاحتلال إسباغ صفة دينية على اجتياح جنين، فجرى تصوير الجنود والضباط في مشاهد صلوات وخضوع وأدعية تناشد المباركة في المعركة الوشيكة.
الصحافة الإسرائيلية كشفت أن قرار اجتياح جنين تمّ اتخاذه قبل 10 أيام بمصادقة من نتنياهو ووزير الحرب الإسرائيلي، وأن الإدارة الأمريكية أُبلغت بالقرار من دون تحديد التاريخ، الأمر الذي لا يضيف جديداً هنا أيضاً لأن إرادة البيت الأبيض لا يُعتد بها أصلاً في أنشطة دولة الاحتلال العدوانية من جهة أولى، ولأنه ليس من عادة الإدارات الأمريكية أن تعترض أو تردع أو تمنع تلك الأنشطة من جهة ثانية. ومع ارتفاع أعداد الشهداء الفلسطينيين إلى ثمانية، وعشرات المصابين وبينهم حالات خطيرة، لم تلجأ الخارجية الأمريكية حتى إلى خدمة الحدود الدنيا فتحث الاحتلال على «ضبط النفس» أو السماح للفرق الطبية الفلسطينية بالدخول إلى المخيم المحاصر وإسعاف الجرحى.
المنطق البسيط يقول إنه كلما طال زمن الاجتياح الإسرائيلي في جنين، غرق الاحتلال أكثر فأكثر في مستنقع مفتوح، وتعاقبت أسباب فشل الأهداف المرجوة من الاقتحام، وترسخت مجدداً الدروس السابقة حول عقم اللجوء إلى استراتيجية القوة المفرطة في كسر روحية المقاومة لدى أبناء الشعب الفلسطيني، وترسخت العناصر الجديدة المرتبطة بأجيال المقاومين الشابة وارتقائها فوق التمايزات الفصائلية، وعدم الاكتفاء باستلهام التراث الكفاحي للانتفاضتين الأولى والثانية بقدر العمل الحثيث على إعادة إحيائه.