مخيم ومدينة: صور وشهادات وفيديوهات توثق كيف محت إسرائيل جباليا وسكانها

إبراهيم درويش
حجم الخط
1

لندن- “القدس العربي”:

نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” تقريرا معززا بالصور والخرائط وصور الأقمار الصناعية والفيديو، يُظهر كيف قامت إسرائيل بتدمير مدينة ومخيم جباليا، وتروي فيه قصص بعض سكان المخيم.

وقد أعد التقرير مجموعة من مراسلي الصحيفة، وجاء فيه: “في اليوم الذي نفد فيه الدقيق أخيرا، ولم يعد سقف منزلهم المنهار المكون من طابقين قادرا على صد الأمطار، حملت عائلة عبد الله أبو سيف، الجد البالغ من العمر 82 عاما برفق على عربة يجرها حمار، وفرّت من جباليا”.

و”بعد أن أصابه الجوع والصمم بسبب شهور من الغارات الجوية، وإدراكه أنه قد لا يعود أبدا، طلب أبو سيف من أصغر أحفاده أن يسنده. كان يريد أن يرى للمرة الأخيرة معالم حياته: قاعة الزفاف حيث تزوج أربعة من أبنائه، والمدرسة التي درس فيها، ثم درّس فيها؛ والمقبرة التي دفن فيها والداه”.

ولكن في ذلك اليوم من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، “لم يكن هناك ما يمكن رؤيته، لم يتبق شيء، فقط الأنقاض والحطام. لقد تم محو حياته بالكامل. كل ما تبقى هو ذكرياته”، بحسب ما قاله ابنه إبراهيم.

وتقول الصحيفة إنه لم يسلم أي مكان في غزة من القوة التدميرية للجيش الإسرائيلي وقصفه العنيف منذ هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 على إسرائيل، والذي أشعل فتيل الحرب.

ولكن لم يتعرض أي مكان للدمار بشكل أكثر اكتمالا من جباليا، وهي مدينة قديمة أعطت اسمها بعد حرب عام 1948 لمخيم اللاجئين القريب.

لقد نما المخيم ليصبح واحدا من أكبر المخيمات في الأراضي الفلسطينية، حيث يعيش في مخيم جباليا والشوارع المحيطة به حوالي 200,000 شخص، بما في ذلك أكثر من 100,000 لاجئ سُجلت أسماؤهم رسميا، وفقا للأمم المتحدة والمسؤولين المحليين.

ويتتبع تاريخ المخيم، القوسَ المأساوي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث وُلد في نهاية حرب ودمر في أخرى، ليصبح مقبرة للذكريات غير المرتبطة بالمعالم التي كانت تحافظ عليها في مكانها ذات يوم.

ولم يصف أحد مدينة جباليا بأنها جميلة، وخاصة المخيم نفسه. ولكن كان هناك دائما جانب صاخب ونابض بالحياة الفلسطينية فيها: الصلاة في مسجد العودة، والاحتجاجات مع وجبة جانبية من الشاورما عند دوار الشهداء الستة، والأعراس في قاعة بغداد القريبة.

وكان المتسوقون يأتون من جميع أنحاء غزة إلى سوق المخيم المزدحم، منجذبين لأسعاره الرخيصة، وكذلك الآيس كريم والكعك من متجر الزيتون الشهير في قلب السوق.

وكان مبنى القاضي “الحلويات الشرقية” التاريخي المكون من ثلاثة طوابق، والذي يبيع المعجنات بما في ذلك البقلاوة المحشوة بالفستق، بمثابة عامل جذب آخر.

كان السكان يتجمعون لحفلات أعياد الميلاد في قاعته، بينما كان الآلاف من الناس يطلبون مسبقا أطباق المعجنات للاحتفال بنتائج امتحانات الثانوية العامة.

وكان نادي جباليا الرياضي مركزا لهوس غزة بكرة القدم، حيث استضاف مباريات محلية، بينما كان مقهى “رابعة” القريب يعرض مباريات تتراوح من دوري أبطال أوروبا إلى الدوري المصري الممتاز. وكان الفنانون يغنون ويعزفون على العود في ليالي الموسيقى بالمقهى.

لقد كان الهجوم الإسرائيلي لا يرحم، وكذا التدمير الذي كان شاملا -ليس فقط في جباليا، بل أيضا في بيت لاهيا وبيت حانون المجاورتين- إلى الحد الذي جعل وزير دفاع إسرائيلي سابق، يصف أواخر العام الماضي تصرفات الجيش في شمال غزة، بأنها “تطهير عرقي”.

وقال موشيه يعالون لقناة تلفزيونية محلية: “لم تعد هناك بيت حانون، ولا توجد بيت لاهيا. إنهم [الجيش الإسرائيلي] يعملون حاليا في جباليا، وهم في الأساس ينظفون المنطقة من العرب”. وبعد إدانته بسبب تعليقاته، عزز موقفه، وقال لمحاور ثان، إن “هذا تطهير عرقي، ولا توجد كلمة أخرى لوصفه”.

ومن الجو، تحول مخيم جباليا إلى مساحات من الأنقاض على مدى الرؤية التي تستطيع المسيرات رؤيتها، وشوارعه التي كانت تعج بالسكان ذات يوم، مدفونة تحت أنقاض عشرات الآلاف من المنازل.

قال إبراهيم الخرابيشي، وهو محام رفض مغادرة المخيم، إن المشهد من الأرض مرعب ولا يمكن تصوره. خلال الغارات الإسرائيلية، اختبأ هو وزوجته وأطفاله الأربعة في زاوية من منزلهم. وهو يتفادى الطائرات المروحية الإسرائيلية عندما يخرج خفية للحصول على الطعام للبقاء على قيد الحياة.

وقال: “نرى جثثا لا يجرؤ أحد على إزالتها على مدى الرؤية. نسمع الجرحى ينادون طلبا للمساعدة ويموت بعضهم. كل من يشعر بالشجاعة الكافية للذهاب لنجدتهم يسقط بجانبهم ثم نسمع صوتين يصرخان طلبا للمساعدة بدلا من صوت واحد”.

ونشأ الشاعر مصعب أبو توهة في بيت لاهيا القريبة. فرّ أولا إلى مصر، ثم إلى سيراكيوز في نيويورك. كل ما تبقى له لينقله إلى أطفاله هو القصص.

لقد دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية مكتبته التي تضم عدة آلاف من الكتب. وكتب في قصيدة: “أترك باب غرفتي مفتوحا، حتى تتمكن الكلمات في كتبي من الفرار عندما تسمع القنابل”.

وقال إن هذه هي مأساة تجربة اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948: النزوح القسري المتكرر أثناء الصراع، حتى من المنازل المؤقتة في مخيمات اللاجئين بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وكل ذلك مع التمسك بالأمل في العودة إلى منازل الأجداد في يافا أو حيفا أو الرملة.

وقال: “نحن نُدفع بعيدا أكثر فأكثر عن وطننا والذكريات التي يجب أن نحافظ عليها. بالنسبة لنا، الآن بعد تدمير هذا المخيم، فإن هذا يعني أيضا تدمير تاريخ اللاجئين الذي دام حوالي 76 عاما”.

ويحتل مخيم جباليا مكانة كبيرة في تاريخ الصراع، فقد اندلعت الانتفاضة الأولى من أزقته المزدحمة في عام 1987 بعد أن صدم سائق شاحنة إسرائيلي ثلاثة فلسطينيين من المخيم وقتلهم، مما أدى إلى إطلاق العنان لعقود من الغضب العارم تجاه الاحتلال الإسرائيلي للقطاع.

ولكن نمو المخيم الكثيف والفوضوي، من مخيم مؤقت بعد حرب عام 1948 إلى غابة خرسانية لا تزيد مساحتها عن كيلومترين مربعين، أبرز أيضا مشكلة مستعصية في قلب الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني: حق العودة للفلسطينيين الذين فرّوا من ديارهم فيما أصبح في النهاية إسرائيل، وأجيال من أحفادهم.

وبحلول الوقت الذي ولد فيه الحاج عليان فارس في عام 1955، بدأ المخيم في التبلور. قامت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ببناء منازل صغيرة من الإسمنت وألواح الزينكو، بغرف لا يزيد حجمها عن ثلاثة أمتار مربعة. كانت العائلات بأكملها تتجمع فيها. لم تكن المنازل مزودة بمراحيض، وكان على السكان نقل المياه من صنابير بعيدة.

والآن، بعد أن نزح إلى أنقاض مخيم آخر، أصبح لدى فارس (69 عاما) حلم واحد: إذا انسحبت إسرائيل يوما ما، فسوف ينصب خيمة فوق أنقاض منزله ويعيش هناك حتى يتم إعادة بناء جباليا.

وقال فارس بصوت يكاد يغطي عليه صوت مسيّرة إسرائيلية: “مخيم جباليا مدينتي، إنه مسقط رأسي. كل ما يخصني موجود في جباليا. سأشعر بالغربة في أي مكان خارج جباليا”.

وسجلت وزارة الصحة 2,500 حالة قتل في العملية العسكرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي على جباليا. وتُركت العديد من الجثث لتتعفن في الشوارع، حتى أن بعضها أكلته الكلاب الضالة. ويعتقد المسؤولون المحليون أن العدد الحقيقي للقتلى ضعف هذا الرقم. وقال الأطباء إن المرفق الطبي الوحيد الذي لا يزال يعمل، وهو المستشفى الإندونيسي، بالكاد يعمل.

ونفى الجيش الإسرائيلي أنه ينفذ ما يسمى “خطة الجنرالات”، التي اقترحها مستشار الأمن القومي السابق غيورا أيلاند، والتي تنطوي على إخلاء شمال غزة بالقوة ومنع المساعدات الإنسانية.

ولكن مسؤولا إسرائيليا كبيرا قال إن شمال غزة “لن يعود إلى سابق عهده أبدا”. وأضاف: “يمكنك أن تسميها منطقة عازلة، ويمكنك أن تسميها أرضا زراعية، ويمكنك أن تسميها ما شئت، ولكن سيكون هناك فصل مادي أكبر بين المجتمعات الإسرائيلية والمدن الفلسطينية”.

كان عبد أبو غسان يحتمي في مدرسة بالقرب من المستشفى الإندونيسي. وطوال اليوم، كان يسمع المدفعية والانفجارات بينما يدمر سلاح المهندسين الإسرائيلي حزاما تلو الآخر من المنازل، ونشر العديد منهم مقاطع الفيديو على الإنترنت في لقطات حاولت القوات الإسرائيلية السيطرة عليها. وفي بعض مقاطع الفيديو، يضحك الجنود الإسرائيليون ويعزفون الموسيقى ويرقصون بينما تدمر عمليات الهدم المتحكم فيها المنازل الفلسطينية.

ومن داخل جباليا، يتضاعف الرعب بسبب المستوى الكبير للتدمير. وقال أبو غسان إن أحياء بأكملها سويت بالأرض: الفاخورة والفلوجة وأبو شريف.

وقال وسط الانفجارات: “بقيت على الرغم من المجاعة. نحن أهل الشمال نحب هذا المكان، ولكن الوضع أصبح كارثيا: المجاعة والخوف وتدمير كل مبنى”.

بعد عشرة أيام من حديثه إلى “فايننشال تايمز”، قالت عائلته إن أبو غسان مات: قتل في بلدته الحبيبة بيت لاهيا بغارة جوية إسرائيلية، ومات بين أنقاض شمال غزة التي رفض التخلي عنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    إنه الفكر الاستعماري الصهيوني النازي الفاشي الدموي المجرم الذي يبيد البشر والحجر في فلسطين منذ 1948 بدعم أمريكي بريطاني وغربي غادر حاقد جبان سارق لأرض فلسطين ✌️🇵🇸☹️☝️🚀🐒🔥

اشترك في قائمتنا البريدية