مدخل الديمقراطية لبناء الحداثة الذاتية

أشغلتنا أحداث الوطن العربي المأساوية طيلة الأسبوعين الماضيين عن إتمام مناقشة الباقي من المداخل الضرورية لبناء الحداثة العربية الذاتية. وكنا قد ذكرنا بأن المدخل الأول الضروري هو انتقاء المكونات القيمية والأخلاقية الإنسانية والدينية المستنيرة المبثوثة في التراث العربي الإسلامي، وأبرزنا بعضاً من أهمها.
اليوم سنناقش مدخلاً ثانيا بالغ الأهمية، كمنهج قانوني وتنظيمي ميسر لبناء مكونات تلك الحداثة النهضوية العربية التي ننشدها، وهو توفّر أسس ونظم وممارسات الديمقراطية في تنظيم المجتمع العربي وقيام دولته، ونقترح أن يكون العرض ضمن المعطيات التالية:
أولاً ـ حسم موضوع الخلاف العبثي بشأن وجود تعارض بين نظام الشورى الإسلامي والنظام الديمقراطي الحديث. فمنذ القرن التاسع عشر أكّد مفكّرو النهضة والإصلاح، أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم الكثير، مقاربة الديمقراطية من مبادئ الشورى ومقاربة الشورى من ضوابط منهجية وممارسة الديمقراطية المعاصرة. ولعل الشيخ الأزهري الشهير محمد الغزالي أفضل من لخّص عبثية النقاش بقوله «إن الشورى لا علاقة لها بالعقائد والعبادات والحلال والحرام… ومع أن ذلك معلوم لدارسي أصول الفقه، فإن من هواة الكلام في الإسلام جماعة رفضت أن تكون الأمة مصدر السلطات؛ لماذا؟ لأن الحاكمية لله لا للشعب. وظاهر أن ذلك لعب بالألفاظ، أو جهل بالتشريع، أو خدمة للاستبداد السياسي». ويؤكد الكثيرون من جيل المفكرين الإسلاميين الجدد أن نظام الحكم في الإسلام ليس نظاماً ثابتاً فصّلته النصوص.. لكن القرآن والسنة المؤكدة يؤكدان مبادئ الشورى في تقرير أمور المجتمع، ومبدأ مسؤولية الحكام عن أعمالهم، ومبدأ سيادة التشريع على كل سلطة وجماعة ومبدأ احترام حقوق الأفراد وحرياتهم، وجميع ذلك في صلب الديمقراطية الحديثة، وذلك قبل أن تحدث التراجعات الكثيرة في مسيرتها في السنين الأخيرة التي تجعلنا نتكلم عن أهمية وجود ديمقراطية مختلفة عما هي عليه في الحضارة الغربية الحالية. ولعلّ من أهم نتائج تلك المناقشات التأكيد على أن الشورى ملزمة وليست اختيارية، وهو تأكيد تام على خضوع أية سلطة للمساءلة والمحاسبة من الجهات التي يقرّرها الدستور الشرعي المتسامي في مبادئه الحقوقية نحو الأفضل عبر السنين.

للديمقراطية أرضية متواضعة تبدأ منها، ولكن ليس لها سقف على الإطلاق. فهي عملية تطوير دائم لها لتصل إلى هدفها المثالي المتمثل في «حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب

ويجمع الكثيرون على أن أفضل محاولة لممارسة وتطوير الشورى، جرت في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة الأوائل، وأنها كانت ستتطور نحو نظام حكم ديمقراطي تشاركي لو لم يوقفها قيام الملك العضوض الأموي، بكل مغالطاته التي أدخلها في نظام الحكم. لقد دخلنا في كل هذه التفاصيل لأهمية حسم هذا الموضوع في ذهن شابات وشباب الأمة وإنهاء دقّ الأسفين المفتعل ما بين الشورى والديمقراطية وعلى الأخص إقحام البعض موضوع العلمانية الإلحادية في ساحة النضال من أجل الانتقال إلى الديمقراطية.
ثانياً ـ حسم موضوع مسيرة الديمقراطية. من الضروري أن يعرف الشباب أن للديمقراطية أرضية متواضعة تبدأ منها، ولكن ليس لها سقف على الإطلاق. فهي عملية تطوير دائم لها لتصل إلى هدفها المثالي المتمثل في «حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب»، وهو قول يفرض مبادئ ومنهجيات كثيرة لا يمكن المساس بأي منها من دون أن يشوّه ذلك المساس النظام الديمقراطي برمّته، كما سنبين لاحقاً. وحتى الوصول إلى ذلك الوضع المثالي يمكن القبول بالتعريف القائل إن الديمقراطية هي نظام حكم الأكثرية، ولكن بشرط عدم المساس بحقوق الأقلية المشروعة بأية صورة كانت، وبشرط توفّر الخاصيتين التاليتين: الأولى تتمثل في شمول حق المواطنة، بحقوقها ومسؤولياتها، الجماعات والأفراد كافة المكونين للمجتمع، والثانية تتمثل في أن يكون حق المواطنة ذاك حق وقدرة المواطن في مساءلة كل مسؤول في الدولة وتنحيته من منصبه إن لزم الأمر، بالطرق التشريعية القانونية الدستورية العادلة.
ومن المهم أيضاً اعتبار الديمقراطية، منهجا ووسيلة وتنظيما في تغير دائم، وليست عقيدة جامدة لا تتبدّل ولا تمس. ولأنها كذلك فإنها تقبل وتستوعب التكيّف مع عقائد المجتمعات وظروفها الخاصة، ولكن بعيداً عن تلاعبات العصمة، أو الوصاية، أو الأبوة الراعية، أو غيرها من المفردات التي تكرّس الحكم المطلق لهذا الفرد أو لتلك الجماعة، تحت أي مسمّى كان.
تلك أسس كان لا بدّ من الدخول في تفاصيلها قبل أن ندخل في متطلبات ومكونات ومنهجيات الديمقراطية التي تنسجم مع مكونات النهضة والحداثة الذاتية العربية.
كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. رامي:

    مقال جيد…
    بعض المجتمعات العربية ذهبت لصناديق إنتخابات، ولكن الإنتخابات مجرد عملية إجرائية وهي بحد ذاتها لا تعكس وجود ديموقراطية، إذ لابد أن يسبق العملية الإجرائية مباديء تكون قد ترسخت في الثقافة والمجتمع والمؤسسة حتى يكون هناك ديموقراطية… قبل أن تنجح الديموقراطية كنظام للحكم يجب أن تنجح كنظام في المجتمع والثقافة… إلى أن يتحول مجتمع العوام والجماهير إلى مجتمع المواطنين سوف تبقى بلاد العرب لمن غلب…

  2. يقول S.S.Abdullah:

    وأضيف على موقفهم،

    *لمَا اِشْتَدَّ اَلْحِصَارُ عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ فِي اَلْمَدِينَةِ فِي عَهْدِ اَلرَّسُولِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ أَكْلٍ وَلَا شُرْبَ وَأُنْهِكَهُمْ اَلتَّعَبُ،*
    *قَامَ اَلرَّسُولُ صَلَّ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرٍ اَللَّيْلِ وَدَعَا عَلَيْهِمْ ، وَنَحْنُ نَدْعُوَا بِمَا دَعَا بِهِ رَسُولُنَا وَحَبِيبُنَا مُحَمَّدْ صل الله عليه وسلم*

    *اَللَّهُمَّ مَنْزِل اَلْكِتَابِ، وَمَجَرِيَّ اَلسَّحَابِ، وَسَرِيعٌ اَلْحِسَابِ، وَهَازِمَ اَلْأَحْزَابُ، اَللَّهُمَّ زُلْزِلَ اَلْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِ اَلْيَـــ، ـــــ، ــــهُودِ اَلْمُغْتَصِبِينَ يَاعُزَيْزْ يَاكْرِيمْ اَللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ وَمِنْ هَاوَدَهُمْ، وَمِنْ نَاصَرَهُمْ، اَللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِهُمْ فَإِنَّهُمْ لَايعَجَزُونْكْ، اَللَّهُمَّ أَرْسِلْ عَلَيْهِمْ جُنْدُ مِنْ عِنْدِكَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَشَمَائِلَهُمْ وَخُذْهُمْ أُخِذَ عَزِيزٌ مُقْتَدِرٌ…🤲🏻*
    *( إِذَا اِسْتَطَعْتُ أَنْ تُنْشَرَ فَانْشُرْ لِكَيْ يَكْثُرَ اَلدُّعَاءُ لِإِخْوَانِنَا فِي فِلَسْطِينَ )*
    🇲🇷🤲🏻🇵🇸

اشترك في قائمتنا البريدية