ارتفع النداء في أعقاب الحادي عشر من أبريل/ نيسان بعد عزل الرئيس المخلوع عمر البشير بعبارة واحدة هي (مدنية) كمطلب عاجل بضرورة تسليم السلطة إلى حكومة مدنية تكمل إستحقاقات الفترة الانتقالية وتعبّد الطريق نحو العملية الانتخابية المنتظرة ، مدنية هذه الكلمة ذات الأربعة أحرف بلغت ذروتها عند الثوار والثائرات حتى استطالت أحرفها ونبتت لها ألف زائدة عند المنتصف فصاروا يصيحون بها هكذا (مدنياااااااو) فيما يشبه الزئير.
ثلاث ديمقراطيات تعرضت للإجهاض
ومنذ أن علقت المدنية بأفواه الثوارفي السودان صار لزاماً نطقها هكذا من دون تراخٍ وإذا ما فكوا إرتباطها بالاف فما ذلك إلا لزجها بحرارة أكثر وغضب عاتٍ لتستطيل وتبلغ ذروتها مقترنة بالعدالة وحكم القانون فيرددون (جيبوا حكومة الحكم المدني ودم الكوز الكتل الطالب \ الصائم).
إذا كانت الدولة المدنية نموذجاً تتطلع اليه جل الشعوب فنحن السودانيين أكثر توقاً لهذه التجربة التي لم تعمر على أرضنا سوى أعوام قليلة مؤرخة بثلاث ديمقراطيات متفرقة ومحدودة سرعان ما تعرضت للإجهاض عبر الانقلابات العسكرية التي تمت إزاحتها بثورتين شعبيتين ثم جسم آخر انقلاب عسكري أطاح بالحكومة المدنية المنتخبة في يونيو/حزيران 1989 لثلاثين عاماً نجحت أخيراً ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة في الإطاحة برموزه وما زالت تحاول تفكيك بقايا دولة النظام السابق. وعلى قصر عدد سنوات الحكم الديمقراطي في السودان إلا أنها كانت كافية ليتعرف السودانيون على تجربة عظيمة وناجحة ويتعاملوا معها كإرث قديم تقدموا به على شعوب كثيرة لكنه فضل تلحق به مرارة الفقد دائماً عند النظر إلى سودان اليوم ، فكيف تستقيم الحياة لشعب عرف الممارسة الديمقراطية باكراً وبنى مؤسسات الخدمة المدنية العريقة أن يظل مختطفاً لثلاثين عاماً أُفرغت خلالها كل مكتسبات الدولة المدنية وأستُبدلت بأخرى على نمط الهيمنة وقلة الكفاءة والبيع والخصخصة.
ينادي السودانيون بحكومة مدنية لأنهم يريدون أن يحققوا شعارات ثورتهم على الأرض، يريدون دولة المواطنة والحقوق المتساوية ونظام الحكم الذي يقف على مسافة واحدة من الجميع، يريدون أن يتحرروا من العنصرية البغيضة والتمييز الذي قصم البلاد إلى نصفين وانتهى بها إلى دولتين بشعب واحد. يعرف السودانيون أن المدنية هي أولى خطواتهم نحو دولة القانون والسلام والعدالة والحرية التي نادوا بها من دون مواربة ومن دون مداراة. يتوقون إلى عودة مؤسسات مدنية قوية وأقتصاد قوي كمّي وكيفي بنمو أقتصادي وتنمية إقتصادية يسهمان في تحسين الحياة وخط إنتاج ثابت وسوق مفتوح في دولة تمتلك كل مقومات النجاح الاقتصادي وتتأخر عنه.
يشهق السودانيون (مدنياااااو) لأنها طريقهم الوحيد نحو الخلاص من جحيم الحرب وويلاتها ، طريقهم إلى إغلاق معسكرات النزوح وإعادة الحياة إلى السودانيين في تلك المناطق ، طريقهم إلى كفكفة دموع النساء والرجال والأطفال هناك ومقاسمة حزنهم في ما بينهم من دون تمييز. يحلم السودانيون بحكومة مدنية تخصص ميزانيتها ومواردها لبناء سودان قوي متماسك خالٍ من النزاعات والحروب، يحلمون بأن لا يقتلون بعضهم البعض، أن يشهروا الحب والسلام في ما بينهم وأن يحتضنوا ثقافاتهم المتعددة باحترام من دون إقصاء ومن دون استعلاء.
حلم التغيير
يمضي السودانيون نحو خيارهم الذي خبروه بعقول متقدة ومنفتحة على تجارب العالم المشتاقة إلى الحياة بعد أن مكثوا ثلاثين عاماً يحلمون بالتغيير ولا يأتي. قد يستغرب الناس إذا علموا أن المهارات والمقدرات الفائقة التي أظهرها الشبان والشابات خلال ثورة ديسمبر/كانون الأول ماهي إلا نتاج كد وجهد شخصي ساهمت فيه الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا الحديثة والاستعداد الفطري لدى السودانيين للمعرفة في بلاد لا توفر أدنى مقومات اللحاق بعجلة التطور. لا غرو أن يحلم الشباب في السودان على نحو خاص بحكومة مدنية تبني بلادهم وعقولهم، تنمي مقدراتهم وتطورها. ينادون بحكومة مدنية لأنهم لا يريدون أن يقضوا بقية حياتهم وأوقات فراغهم وأنسهم يتحلقون جلوساً عند ناصية الحي وتحت ظل البنايات عند (ستات الشاي) هؤلاء السيدات المبهرات اللاتي خلقن لنا تجمعات حية رغم ما يعانينه يومياً.
حكومة مدنية
يريد السودانيون حكومة مدنية تهتم بصناعة وتوفيرالحقوق الأساسية اليومية لحقهم في حياة عادية مثل بقية خلق الله ومثل بقية الشباب في أعمارهم في منطقتهم وفي كل العالم، يذهبون إلى النوادي يمارسون الرياضات العادية يسبحون ويلعبون البينج بونج ، يجلسون في النوادي العامة والمكتبات العامة ، يريدون أن يتابعوا حركة النشر ويلهثوا خلف دور الكتب. يريد السوداني أن يقتني صحيفته اليومية هذه العادة الجميلة التي لم يتخلَ عنها بعد وما زال يقتطع لها من قوت يومه فيتمنى أن يجد فيها ما يسد جوعه للحقيقة والمعرفة والخبر والرأي الحر. يريد السودانيون أن يقرأوا بحرية ويكتبوا بحرية وتحفظ حرياتهم شخصية، يريدونها مدنية تحفظ حقوقهم وتكف عن كرامتهم الأذى حتى لا يُجلدون بسياط قانون النظام العام وتُجلد وتُحبس النساء لمجرد إرتدائهن بنطالاً.
ينادي السودانيون بحكومة مدنية قوامها الخبرة والكفاءة حتى لا يفاجئهم الخريف سنوياً كما ظل يفاجئهم لثلاثين عاماً تعامله السلطات كحدث لن يتكرر يكفي نزول المطر لساعات قليلة ليشل حركة الشوارع ، حتى لا تخرج عليهم جداول قطوعات الكهرباء مستبقه صيف كل عام. يريد السودانيون المدنية ليبنوا حقهم الذي تأخروا عنه وينعموا بشوارع مرصوفة وحياة نظيفة وبنية تحتية جيدة.
ينادي السودانيون بالمدنية حتى يتخطوا حاجز العيش وكأنهم في قرية كبيرة معزولين عن عوالم التطور، لينعموا بالحياة العادية ويدخلوا السينما ويستمتعوا بالعروض المسرحية ويعبروا عن ثقافتهم المتعددة البهيجة من دون مصادرة ومن دون تقييد. يريدون أن لا يغيبوا عن المشهد الثقافي في محيطهم كما غابوا ثلاثين عاماً.
يريد السودانيون دولة مدنية تعيد لهم النظام التعليمي القوي الذي كانوا يُعرفون به ويفاخرون، وتعيد زهو جامعاتهم العريقة وصيتها، تعيد أبواق القطارات وضجيج السكة الحديد التي فقدوها. يريدونها مدنية تعيد الشوق إلى ساعي البريد الذي ما عاد يُرى في الشوارع.
ينادي السودانيون بالمدنية لأنها حلمهم المفقود، جنتهم التي أُخرجوا منها قسراً.
لأنها توقهم للحياة ولأنهم يريدون أن يعيشوا.
ينادي السودانيون بالمدنية لأنهم يستحقونها، هكذا ببساطة.
صحافية سودانية
مقال رصين… فعلا السودانيين يستحقون المدنية لانهم ضحوا من اجلها بدماء الشباب.