الرباط ـ «القدس العربي»:الناظور عروس تطل على البحر الأبيض المتوسط، يصفها بعض عشاقها بـ«ساحرة المتوسط»، فيما يلقبها الموقع الرسمي لمجلس البلدية بـ «باب أوروبا». لكن الأهم أنها تشكل عاصمة إقليم يحمل الاسم نفسه، ولها من المميزات الجغرافية والتراثية والثقافية والطبيعية والاجتماعية والاقتصادية ما يجعلها قلبا نابضا للجهة الشمالية الشرقية، وإحدى المدن المغربية اللافتة للانتباه بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية وطاقاتها البشرية.
هي مدينة ساحلية في شمال المغرب، تلامس المتوسط وتشكل جزءا من الجهة الشرقية، وتمزج بين الأصالة والمعاصرة، كما تصعد مدارج التنمية بثبات وتشترك مع باقي مدن المغرب في كل تفاصيل المعيش الاجتماعي مع خصوصيات المنطقة خاصة الانتماء الأمازيغي لقبائل الريف التي تشكل المكون الأساسي لساكنتها.
ليس هناك اختلاف كبير حول أصل تسمية الناظور، فقد رجّح المؤرخون انها تعود إلى قبيلة تحمل اسم «آيت الناظور»، بينما يسود اعتقاد بأنه يعود إلى كونها كانت قاعدة متقدمة لمراقبة المحتل الإسباني أثناء حرب الريف 1921-1926. أما تأسيس المدينة رغم حداثته في بداية القرن العشرين، إلا أن جذور المنطقة تعود إلى عصور قديمة، فقد كانت مفترق طرق للحضارات الفينيقية والقرطاجية والرومانية ثم الإسلامية. وسكانها الأصليون يرجعون إلى قبائل أمازيغية مثل قبيلتي آيث نصار وآيث سيدال وغيرها من القبائل في الريف الشرقي.
وتفيد بعض المصادر أن المنطقة كانت موطنًا لعدد من الملوك المغاربة، ومن أبرزهم السلطان عمر بن إدريس الثاني والسلطان المرابطي يوسف بن علي بن تاشفين، الذي استقر مع قواته في جبل تمسمان في الريف. أما سلاطين الأسرة العلوية، فقد أولوا المنطقة ذاتها اهتمامًا خاصًا نظرًا لموقعها الاستراتيجي المتميز. وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله قد اختار موقع الناظور كنقطة تجمع لقواته أثناء حصار مليلية. كما أن السلطان محمد بن عبد الرحمن استقر لفترة طويلة في قصبة سلوان بصفته ممثلًا عن والده في المنطقة. وكان هذا أيضًا هو الحال بالنسبة للسلطان المولى سليمان والمولى إسماعيل والحسن الأول الذين خصّوا المنطقة بعدد من التحصينات لمواجهة أطماع الإمبراطوريات الاستعمارية.
ومع ذلك، يبقى اسم الناظور مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالملاحم الكبرى التي أبلى فيها أهل المنطقة البلاء الحسن في مواجهة الاحتلال الإسباني. ومن أبرز هذه المعارك، تلك التي خاضها أبناء الريف، تحت قيادة الشريف محمد أمزيان ضد القوات الإسبانية، بالإضافة إلى معركة أنوال الشهيرة التي قادها الزعيم المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، سنة 1921، حيث جرّع الجيش الإسباني مرارة الهزيمة.
ساحرة المتوسط
الجولة في ساحرة المتوسط أو الدخول من باب أوروبا، لا تتطلب عبورا في المكان فقط، بل عبورا في الذاكرة والموروث والأصالة التي تحملها ملامح أهلها، لكنها كقبلة سياحية تظل واحدة من معالم المنطقة، فطبيعتها جميلة وخلابة، كما أن مناخها متوسطي معتدل، فيما معالمها تتعدد بين الشاطئ والجبل والبحيرة.
الزائر إلى الناظور لا يمكنه إلا أن يقيم فيها قليلا حتى ينهل من معين الإبهار لديها، فتلك بحيرة مارتشيكا (تعني باللغة الإسبانية البحر الصغير)، مساحتها 120 كلم مربعا، وطولها 24 كلما، ويوجد بينها وبين البحر الأبيض المتوسط شبه جزيرة بوقانا، وهو الاسم نفسه للممر البحري لها إلى المتوسط.
وإلى جانب كونها تعتبر أكبر البحيرات الساحلية في القارة الأفريقية، فهي محمية طبيعية تقصدها الطيور المهاجرة سنويا بالآلاف، مما شجع على التفكير في مشروع «مارتشيكا ميد» السياحي والذي يهدف إلى جعل المنطقة قطبا سياحيا إيكولوجيا عصريا. كما أنها شاهدة من التاريخ حيث عرفت مرور عدة حضارات متوسطية، خاصة الحضارة الرومانية.
الشواطئ من جهتها تحكي فتنة الناظور الطبيعية بين بوقانا وأركمان وتيبوذا، وتفتح بهجتها الصيفية أمام الزوار الذين يتوقون إلى النهل من جمالها والسباحة في مياهها الصافية، خاصة شاطئ «كازابلانكا» الشهير الذي يعتبر واحدا من عناصر الجذب السياحي للمنطقة، ولا مناص للزائر من التوقف به لأنه يستحق أن يكون محطة استجمام، فهو مساحة شاسعة من الرمال البيضاء والمناظر الخلابة التي تبقى راسخة في الذاكرة.
ولا تتوقف الناظور عن الإبهار طبيعيا، ويحضر الجبل في هذه الفسيفساء الفاتنة، وينادي جبل غوروغو على عشاق المشي والمرتفعات للقيام بجولة منعشة جسديا ونفسيا بهواء متوسطي تنفسه قوم من حضارات مختلفة تتقاسم العيش على ضفتيه. الجبل الذي قالت مصادر جيولوجية وتاريخية إنه كان عبارة عن بركان، يبلغ ارتفاعه 900 متر ويوفر إطلالة على مدينة الناظور ونواحيها، كما يطل على مدينة مليلية المحتلة، ويحتفظ بجماله كمكان يستحق فعلا أن يكون محطة استجمام أخرى من طبيعة مغايرة للشواطئ.
غوروغو ليس جبلا فقط، بل غابة أيضا تحمل الاسم نفسه تمتد على مساحة 1300 هكتار كلها أشجار كاليبتوس وصنوبر، وتتميز بدورها بتنوع بيولوجي حيث جرى تصنيفها كموقع له أهمية بيولوجية وبيئية، وينصح بزيارتها في الفترة ما بين آذار/مارس وحزيران/يونيو، لأنه على امتداد تلك الفترة الزمنية تتكاثر النباتات وتتحوّل الغابة إلى فضاء من الهواء النقي الذي يختلط بروائح زكية مثل الزعتر والنعناع وإكليل الجبل.
كما يحرص محبّو الطبيعة البكر على زيارة رأس الشوكات الثلاث، الواقع على بعد نحو 25 كيلومترًا من مركز المدينة. ويتميّز هذا الموقع الساحلي بمناظره البرية وهدوئه، بعيدًا عن صخب السياحة. وهو مثالي للتخييم في أجمل فصول السنة، خصوصًا لمن يرغب في الابتعاد عن إيقاع الحياة الحديثة والانغماس في أحضان الطبيعة.
أما كورنيش الناظور، فهو تحفة حضرية تمتد بمحاذاة بحيرة المدينة، وتُعدّ من أجمل الفضاءات المفتوحة للتنزه والاسترخاء. وتكون اللحظة المثالية لزيارته عند غروب الشمس، حين تنعكس أضواء المدينة على سطح الماء في مشهد شاعري يأسر الألباب. وعلى جنبات الكورنيش، تنتشر المقاهي والمطاعم التي تقدم أشهى الأطباق المحلية.
وبعيدًا قليلاً عن المدينة، تقع مغارة إفري نعمار التي تعدّ من أهم المواقع الأثرية في المنطقة. وتحتضن المغارة آثارًا وشهادات من العصر الحجري القديم، مثل الرسوم الجدارية وبقايا الأدوات، ما يجعله قبلة لعشاق التاريخ والآثار. ولمحبي رياضة المشي الجبلي، يبرز جبل ويكسان، الواقع على ارتفاع 674 مترًا. ورغم أنه مأهول، فإن الجبل يحتفظ بجاذبيته الطبيعية، ويشبه في خصائصه جبل غوروغو الشهير، مع تنوع بيولوجي غني يتيح للزوار مشاهدة أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات والأعشاب العطرية، علاوة على الاستمتاع بإطلالات بانورامية خلابة تصلح لتوثيقها بأجمل الصور.
جوار الفتنة بكل تأكيد في مدينة الناظور، ليس على مستوى الشواطئ والجبل والغابة، بل أيضا فتنة التاريخ من خلال قصبة (قلعة) سلوان، ذات الصيت الشهير التي تنقل الزائر من الوقت الحاضر إلى الزمن الماضي. هذا الحصن العتيق الذي يعود بناؤه إلى القرن السابع عشر، شُيّد في عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل بن الشريف، ويقع بمحاذاة مدينة سلوان التابعة لإقليم الناظور. ويعتبر من المواقع الأثرية التي تحكي بعضا من حكايات المنطقة عبر العصور، وتبعد هذه القلعة بمسافة 12 كيلومترا عن المدينة، وتحتفظ إلى اليوم بسورها السميك، كما تفتح أمام الزائر أزقتها الضيقة التي تفوح منها رائحة التاريخ وهي تعرض بقايا قرون خلت. وداخل أسوار القلعة، تنفتح أزقة تنبض بعبق الماضي، تتناثر فيها مبانٍ حجرية تعود لقرون خلت، إلى جانب بقايا أثرية تحكي بصمت قصص التاريخ.
حضور اقتصادي وتجاري
شهرة الناظور لا تقتصر على الطبيعة بمختلف تجلياتها، بل هي أيضا حضور وازن على الصعيد الاقتصادي والتجاري، فهي المدينة التي لعبت دورا عسكريا واقتصاديا محوريا بالنسبة لإسبانيا خلال مرحلة الاستعمار، ومنذ الاستقلال عام 1956 تحولت إلى مركز حضري واقتصادي في غاية الأهمية بالنسبة للمنطقة كلها، خاصة في ظل وتيرة النمو المتسارعة التي عرفتها.
وكما هو حال العديد من المدن المغربية، تفتخر الناظور بأسواقها التقليدية التي تعجّ بالحياة، من أشهرها سوق أولاد ميمون وسوق المركب، حيث تختلط روائح التوابل مع ألوان الصناعات التقليدية والمأكولات المحلية، مشكلةً مشهدًا فريدًا يجسّد نبض الحياة الشعبية والمعيش اليومي.
وإلى جانب النشاط التجاري، هناك حضور للصيد البحري ولقطاع الخدمات، ناهيك عن كون الناظور أغنى المدن المغربية من الناحية المالية والمصرفية، وقد صنفت كذلك في عام 2007 بفضل المغتربين المقيمين خاصة في بلدان هولندا وبلجيكا وإسبانيا وألمانيا.
على مستوى البنية التحتية تعيش المدينة تطورا ملحوظا، ونذكر ميناء الناظور غرب المتوسط الذي من المرتقب أن يجعل المدينة قطبا اقتصاديا إقليميا ودوليا، إلى جانب كونها صناعية حيث تتوفر على عدد من المعامل تتخصص في الصلب والإسمنت والأجر، ومن المنتظر أنشاء منطقة صناعية جديدة في سلوان، إلى جانب منطقة حرة في بني أنصار.
ويتعزز الحضور الاقتصادي للمدينة من خلال توفرها على ميناء بني أنصار ومطار العروي، وعلى مستوى الربط مع باقي المدن، تتوفر الناظور على محطة طرقية وطنية للحافلات بجانبها محطة لسيارات الأجرة، الربط السككي أيضا متوفر من خلال محطتي القطار الناظور المدينة والناظور الجنوبية، وكان افتتاحهما في شهر تموز/يوليو من العام 2009 على يد العاهل المغربي محمد السادس.
للناظور هوية أمازيغية تتجلى في قبائل الريف الشرقي، وفي اللغة ومختلف الفنون الأصيلة والعادات المرتبطة بالمعيش اليومي. وهي بذلك وفية لأصالتها التاريخية وتسترجع دورها البارز الذي لعبته في مقاومة المستعمر من خلال حرب الريف التي قادها المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.
فترة ما بعد الاستقلال وعلى غرار باقي مدن المغرب، شهدت الناظور نموا متسارعا على مستوى العمران، وكما هو حال بعض المدن البعيدة عن مركز الرباط والدار البيضاء، لم تكن المدينة في تطورها الاقتصادي والاجتماعي عند تطلعات الساكنة، وكانت الهجرة منفذا بالنسبة لأهل المدينة من أجل تحقيق التوازن في المعيش وتحقيق الأحلام التي يتقاسمها كل شباب المغرب وليس شباب الناظور وحدهم بل كل شباب شمال أفريقيا وخاصة المغرب الكبير.
موروث ثقافي غني
الحديث عن النبض الاقتصادي والاجتماعي يوازيه حديث عن حضور ثقافي حيث الأمازيغية كلغة وثقافة هي الحاضرة بقوة، لكن هذا لا يمنع حضور اللغة العربية والفرنسية أيضا على مستوى التعليم والإدارة.
ويفرض الموروث الثقافي المادي نفسه من خلال عدة مبان تاريخية، نذكر منها مقبرة النصارى والقلوع والكنيسة، إذ تعد كنيسة سانتياغو إل مايّور أحد المعالم المسيحية المعروفة في المدينة. وقد شُيّدت خلال القرن العشرين بأسلوب معماري يمزج بين عدة تيارات فنية في الهندسة.
ولا تنسى الناظور نصيبها من مقابر الأولياء من خلال أضرحة سيدي علي وسيدي يوسف ومولاي بغداد. ونجد في المدينة مداخل وأبواب قديمة ومبان أخرى مثل صومعة ساحة الشبيبة والنادي البحري، كما يتجلى الموروث الثقافي المادي في صناعات محلية أصيلة.
وفي شق الموروث غير المادي تختزن المدينة رصيدا غنائيا ثريا عبر مجموعات غنائية برزت في فترة السبعينيات من القرن الماضي وتواصلت إلى بداية الثمانينيات. الموسيقى الأصيلة لها حضور من خلال ما يعرف بـ «إيمديازن». عموما، تشتهر الناظور بموسيقاها الريفية ولباسها التقليدي الذي يميز سكان المنطقة.
الناظور تبدو للزائر منبسطة مفتوحة تغري بجولة ولو على الخفيف، حيث البداية من شارع سيدي محمد حيث تصادفك سيارات أجرة صغيرة تربط بين مختلف مناطق المدينة حمراء اللون مثل الدار البيضاء، بينما سيارات الأجرة الكبيرة التي تربط المدينة بباقي المدن الأخرى هي بيضاء مثل أغلبية سيارات الأجرة في المغرب. إلى شارع يوسف بن تاشفين ومثل سابقه، الأشجار مكون أساسي على الرصيف وحتى النخل، وصولا إلى المجمّع التجاري البلدي في شارع الحسن الثاني، ومنه إلى شارع الجيش الملكي ثم شارع المتوسط فشارع تويمة حيث ساحة الشباب ومجمع الصناعة التقليدية. ولا تنجح الجولة الخفيفة إلا بالوصول إلى الكورنيش حيث انتصبت لوحة مكونة من اسم المدينة بالحروف اللاتينية يتقدمها قلب كبير هو حتما القلب الأصيل لأهلها.
عبد الكريم الخطابي
لا يمكن ذكر مدينة الناظور من دون التوقف مليا عند أحد أعلامها وهو محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي ولد في أجدير، وهو ينتسب إلى قبيلة «بني ورياغل»، وتفيد بعض الموسوعات أنه «تلقى تعليمه الأولي المتمثل في حفظ القرآن والتعاليم الدينية في أجدير، قبل أن ينتقل للدراسة في مدينة تطوان ثم مدرسة العطارين بفاس، ثم انتقل إلى مدينة مليلية المحتلة التي نال فيها شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) الإسبانية. ثم انتقل بعد ذلك إلى الدراسة في جامعة القرويين بفاس، حيث تتلمذ على يد مجموعة من علماء الدين والسياسة كعبد الصمد بن التهامي ومحمد بن التهامي ومحمد بن جعفر الكتاني».
وسطع نجمه مع حرب الريف حين قاد المقاومين المغاربة في الريف ضد الاستعمار الاسباني، وتوج ذلك في الثاني والعشرين من تموز/يوليو عام 1921، بمعركة أنوال التي وجهت ضربة موجعة للقوات الإسبانية التي كانت تستعمر شمال المغرب.
وينال الخطابي كل التقدير ليس في منطقة انتمائه الجغرافي، بل على المستوى الوطني الرسمي والشعبي، وكان العاهل المغربي محمد السادس قد خص نجلته الراحلة عائشة الخطابي بالتفاتة كريمة حين استقبلها في الذكرى 19 لعيد العرش «عيد الجلوس» في طنجة.
شكرا لكم. مقال شيق سلط الضوء على جانب من المدينة ولا تكتمل الصورة الا بزيارتها والتسوق من أسواقها وهي مدينة تجارية بالدرجة الأولى.