اشتهرت البادية السورية، منذ أقدم العصور، بمدن وقصور ومنشآت، من كل نوع، رائعة التخطيط، مترفةَ البنيان، اندثر أكثرها فلم يبقَ قائماً منها اليوم سوى خرائب متناثرة في جَلبات الواحات، وبين الرمال. وربما تحدّت بعض الأعمدة الرشيقة، والجدران والنقوش عوامل الزمن وافتئات الإنسان، فظلّت منتصبةً تُثير الخيال، عندما يمرُّ المسافرون من أمامها، أثناء تنقلهم عِبْرَ قرونَ من الصمت إلى عهودٍ كانت تضجّ فيها بالنشاط والفن والرفاه.
من تلك الروائع، وهذه المواقع، عشرات اتفق على تسميتها بالمدن الميتة، شرقي حماة، وفي جبل الزاوية، بين حماة وإدلب، وفي جبل باريشا، وجبل العُلا إلى الشمال الغربي من حلب، ومنها آثار قصر ابن وردان، ودير صليب، وقصر أثريا، ومن أهمّها جميعاً تدمر، ودورا أوروبوس، وماري، ومنها القصور الأموية الحير الغربي، والحير الشرقي، وأسيس، في سوريا وقصر عمرة، والمشتى، وخربة المفجر، وخزانة، في الأردن، وقصر عنجر في لبنان، وغيرها كثير.
ومن المدن والقصور، لا يزالُ مطموراً تحت رمال البادية السورية، تُظهره معاولَ المنقبين وجهودهم الحثيثة سنة بعد سنة.
والرَّصافة، واحدة من تلك الروائع، التي يزدانُ بها الكنز الأثري في سوريا، وان لم تكن تَنال بعد ما تستحق من عناية باحثينا والآثاريين رغم الجهود الحثيثة، التي أولتها إياها المديرية العامة للآثار والمتاحف، بإمكاناتها المتوافرة.
وقد ورد ذكر الرّصافة في النصوص الآشورية، وفي سفر الملوك الرابع من العهد القديم، وقد جاء أسمها بصيغة راصف، ثم تحوّل أسمها فيما بعد إلى الراسابة، ثم الرّصافة وهو ضمُّ الشيء إلى الشيء، كما يُرصفُ البناء، وقد دُعيت بعد القرن الرابع سر جيو بوليس، أي مدينة سرج، أو سرجيس، نسبةً إلى سانت سرجيس الذي قتل فيها نحو سنة 305 على عهد ديوقلتيانوس.
طريق القوافل القديم
إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب على بعد 180 كيلومتراً تقع الرّصافة، وتبعد عن مدينة الرّقة 40 كيلومتراً إلى الجنوب. شيّدت فوق منطقة تضمُّ بعض المرتفعات، ويرى الناظرُ عندما يُطلُ من خرائبها فضاءً منبسطاً، لا تحدّه سوى خطوط الأفق البعيد.
تحيط بالمدينة من الجهتين الجنوبية والشرقية هضاب تضم آثاراً لم يُكشف إلاَّ عن جزء منها حتى الآن. وتقع ضمن واحة وادي الملح، التي كانت توصل مياهه إلى صهاريج بناها هشام بن عبد الملك، لمّا وقَع الطاعون بالشام، وكان يسكنها في الصيف، كما ذكرها بعضهم، ووجد في أخبار ملوك غسّان، ثم ملك النعمان بن الحارث بن الأيهم، وهو الذي أصلح صهاريجها، وصنع صهريجاً عظيماً، وقد كانت ماثلةً للوجود قبل عهد الإسلام بدهر ليس بالقصير، ولعلَّ هشاماً عمَّر سورها، أو بنى بها أبنية يسكنها. وقال أحمد بن يحيى: وما رصافة الشام فيها وبرٌ عجيب، وعليها سورٌ، وليس عندهم نهر، ولا عين جارية، إنما شرّبهم من صهاريج عندهم داخل السور، وربما فرغت أثناء الصيف، فللأهل الثروة منهم لهم عبيد وحمير، يمضي أحدهم إلى الفرات، العصر فيجيء بالماء في غداة غدٍ، لأنه يمضي أربعة فراسخ أو ثلاثة ويرجع مثلها، وعندهم آبار طول كل بئر مئة وعشرون ذراعاً فأكثر، وهو مع ذلك ملح رديء في وسط البرية، ولبني خفاجة عليهم خفارة يؤدونها إليهم صاغرين، وبالجملة، لولا حب الوطن لخربت، وفيها جماعة من أهل الثروة لأنهم بين تاجر يسافر إلى أقطار البلاد، ومقيم فيها يعامل العرب، وفيها سويق عدّة دكاكين، ولهم حذقٌ في العمل، وكل رجل عظيم، مهما كانت حالته، إن كان فقيراً يغزلُ الصوف ونسائهم ينسجن الخوص ويصنعن السدو.
وتكمن أهمية الرّصافة في موقعها على طريق القوافل القديم، وهو الطريق الذي يُخلّف الفرات، في موقع سوار، ويسير باتجاه البحر المتوسط ماراً بتدمر ودمشق. وتدل أقدم الشواهد التاريخية على وجود تجمّع بشري فيها في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وعندما أدرك الرومان أهمية الطريق المؤدية إلى البحر من الفرات، أصلحوها وأقاموا لحمايتها عدداً من الحصون الصغيرة، وكان واحد منها في الرّصافة، وتم تشييد أبنيتها من الحجر الكلسي المشرق البياض، فهي تُلمحُ في نور الشمس كأنها أبراجٍ من الزجاج.
السور والقصر القديم
أقام الإمبراطور جو ستنيان أسوار الرّصافة لحمايتها من الهجمات، وتختصُّ أحجارها الجصّية التي بنيت بها أسوارها من الحجارة الجصّية المتبلورة، وتمتد هذه الأسوار على شكل مستطيل يتجه باتجاه الجهات الأصلية، ويبلغ طول ضلعه باتجاه الشمال 536 متراً، والجنوب 550 متراً، وطول الضلع الشرقي 350 متراً، والغربي 411 متراً، ولها في منتصف كل ضلع من هذه الأضلاع باب، والبابان الرئيسيان هما الشمالي والجنوبي، ويعتبر الباب الشمالي أجمل الأبواب الباقية، في الرّصافة، حالياً، بزخارفه ومداخله، وأعمدته وتيجان نقوشه النباتية، الرائعة فوق العَمَد، كما تزيّن الإفريز الأعلى نقوش حيوانية، تمثل ثوراً وأسدين وكباشاً.
أما سور الرصافة فيبلغ سمكه ثلاثة أمتار، وله أبراج متعدّدة مضلعة الشكل، وأبراج الزوايا الأربع في السور مستديرة، وداخل هذه الأسوار مزدوج، استعملت فيه الأكتاف، أو الدعامات بدل الأعمدة، لإقامة أروقة ذات أقواس مدوّرة، تحتوي على نوافذ تقذف النبال، وهذا يدل على أهميتها في أغراض الدفاع.
لقد اتبع في تخطيط الرّصافة، أسلوب المعسكر نفسه في العصر البيزنطي، إذ كان المهندسون في هذا العصر، يقيمون المعسكرات على شكل مربع، أو مستطيل، قريب من المربع، مما يساعد حسب رأي جوليوس الافريقي على إجبار العدو المهاجم، على توزيع جنوده موجهاً القوى الكبرى نحو الواجهة، وأول ما يلاحظ في الداخل، عندما تشرع في الدخول إلى المدينة، من الباب الشمالي، تشاهد كنيسة الشهادة، المارتيريوم، والى الجنوب تقوم بازيليكا سانت سرجيوس، وهي من أضخم أبنية الرّصافة المتبقية، وأوقعها في النفس، ولا تزال تحتفظ بأكثر أجزائها الأصلية، وفي الزاوية الجنوبية الغربية من السور تقوم منشآت صهاريج أربعة جبّارة معقودة السقوف، ولا تزال في حالة سليمة تدعو للإعجاب، وتوحي بصلاحيتها للاستخدام، لولا تهدم أقسام صغيرة من سقوفها، وكانت تفيد في اختزان كميات احتياطية من ماء المطر، تكفي لظروف الحصار.
شيدت أسوارها في العهد البيزنطي
أما إذا ترك زائر المدينة، من ثغرة إلى الشمال الشرقي، من السور على بعد مئتي متر تقريباً، فانّه يلتقي ببقايا قصر أموي كان بدون شك، قصر هشام بن عبد الملك، الذي كشفت عنه البعثة الألمانية برئاسة دورن، والقصر مربع الشكل، طول كل جانب منه قرابة 80 متراً، ويحمي كل جانب برجان مستديران يرتكز كل منهما على قاعدة مربعة، ولقد تم تشييد أسوار الرّصافة الضخمة في العهد البيزنطي، وكذلك بناء الصهاريج العميقة لجمع المياه كما تركزت حامية تتناسب مع أهمية المدينة، وأثناء تولي الامبراطور أناستازيوس، عرش بيرزنطية، دعيت الرّصافة أناستازيابوليس، على اسم هذا العاهل، الذي شيّد فيها بناء البازيليكا الضخم، ويمكن للمؤرخ أن ينسب للعاهل بناء أسوارها وصهاريجها الضخمة، فكل شيء يدل على أنها تسبق زمن يوستنيان الذي أصطلح على نسبتها لعهده.
واستوطنت المدينة في تلك الفترة، قبائل الغسّانيين، وجعل أميرهم المنذر بن حارثة ـ القرن السادس ـ مقرّه خارج الأسوار ولا يزال نقش باللغة اليونانية على واجهة الكنيسة المربعة، يذكر المنذر الملك العربي. وكانت توجد حامية بيزنطية ترابط في الرّصافة في القرن الخامس، حينما هاجمها كسرى الأول ملك الفرس أثناء توليه حملة على سوريا الشمالية، ولكنه فشل في هجومه، بفضل أسوارها المنيعة ولم يستطع الوصول إلى كنوزها، غير أن ابنه كسرى الثاني تمكن من التغلب على المدينة ونهبها رغم تجديد الحصون الذي قام به موريكيوس، وظلت الرّصافة بعد ذلك النهب مهدمة حتى حلول العهد الإسلامي.
أعمال التنقيب
أما عن أعمال التنقيب الأثري في الرّصافة فقد بدأت في العام 1952 ويعود الفضل في ذلك للدكتور الألماني الفونس شنايدر الذي أوصى أول من عمل فيها بعثة ألمانية برئاسة كوكوتيز، ومن ثم برئاسة الدكتور الألماني أولبرت وهو لم يتوقف عبر الزمن الممتد منذ بدايته.
إنَّ أهمية المدينة الأثرية دفعت لأن تضع لها مديرية الآثار والمتاحف خططاً لترميميها وصيانتها ولكن..؟
وأمام حجم الأعمال المطلوب ترميمها، وقياساً بمساحة المدينة ومنشآتها فإنَّ الاعتمادات المخصصّة غير كافية، ووفقاً لأدنى التقديرات فإنَّ المبالغ اللازمة لترميمها تقارب الـ 100 مليون ليرة للنهوض بها وعودة الحياة إليها من جديدة كمدينة أثرية مهمّة.
ولم يتوقف الجهد نحو هذه المدينة عند حدود التنقيب والترميم على تواضعه، بل امتد نحو الخدمات الأساسية لها، حيث توجّه اهتمام المحافظة قبل اندلاع الثورة السورية نحو إيصال جميع الخدمات الأساسية لها، من: طرق، ومياه، وكهرباء، واستراحة، ومرافق عامة، والمدينة هي أشبه بتدمر، ولا تقلّ أهمية عنها، وهي واحة تاريخية وأثرية تزيّن صدر بادية الشام، وموضع تلاقي الحضارات.
وسبق وأن شيّد فيها قصرين اكتشف أحدهما، وكانت محفلاً للأنشطة المتنوعة، واستقطبت كبار الشعراء في ذلك العصر ممن امتدحوا هشام والرّصافة، وبينهم الفرزدق وجرير، ولاحقاً شنَّ القرامطة غارةً عليها أدّت لحرقها ونهب محتوياتها.