في ديوان «مدينون لك أيها اليأس» للشاعرة المصرية مروة أبو ضيف ثمة استصحاب دائم للخراب الداخلي، والالتفات إلى الماضي، وكأن هناك رعاية واستئناسا خاصين به، وهناك في الوقت ذاته ترقب خفي للقادم، وإن كانت النصوص كلها تلحّ على قيمة الانعتاق من الأمل والقادم، والسير في مساحة ثابتة كاشفة عن الحركة في ظل القصور الذاتي في المساحة الرمادية التي تتكشف بعد التجارب الكبرى والانتباه إلى مآلاتها الكاشفة عن الخيبة والخواء.
في الديوان غياب كامل للعناوين، واستبدالها بالأرقام، وهذا مؤشر لافت في تلقي العمل، لأن غياب العنوان إشارة للانفتاح على عوالم النص من دون مرشدات سابقة، فالعنوان يصنع فضاء فيه نوع من الجاهزية، ويصنع في الوقت ذاته أفقا – ولو محدودا- للتأويل. فغياب العنونة فيه الكثير من حرية التلقي والمواجهة بالنسبة للقارئ، وفيه شيء آخر، يمكن أن نسميه انتعاشا متواليا لحالة نصية متشابكة. الديوان أشبه باللوحات الفنية التي تختلف فيما بينها، لكنها في النهاية تتلاحم بانشدادها إلى جذر معرفي، فالقارئ في هذا الديوان أمام جدارية متوالية كاشفة عن حالات متشابهة ومتلاحمة للوجود الإنساني.
والجدارية النصية – نظرا لطبيعتها – لا تتمدد متتابعة وفق خط وحيد، أو أفق دلالي واحد متنام، بل تظل مشدودة لتكرارات وتجاوبات جزئية كاشفة عن الحال النامية، وقد يشعر القارئ أن هناك تكرارا أو ثباتا للحالة أو للجزئية السيرية، لكنه يكتشف أن هذا التمدد الكاشف عن تكرار حزم دلالية ما، تمدد ينبع من طبيعة الحالة الشعرية التي تتأبى عن التجلي بشكل نهائي من دفقة واحدة، فالأمر يحتاج إلى محاولات عديدة، وكل محاولة- وإن انتمت إلى جذر معرفي أو إلى حالة تمثل جزءا من الجدارية أو الجداريات- تضيف جزءا أو تمددا، قد يكون مكمّلا أو كاشفا أو مفضيا إلى نمو خاص.
الجدارية السيرية
في نصوص الديوان يجد القارئ نفسه أمام جدارية نصية، تعترف فيها الذات للآخرين ولنفسها بخيباتها المتراكمة، وكأن في الاعترف بداية للإدراك، وبداية للبحث عن طريق تتحرّر فيه من أزماتها. والنصوص في إفضائها بالصور أو اللوحات المتوالية للسيرة تستند إلى ضمير المتكلم من جانب، وتتأسس في إطار فكرة العرض والكشف، والانفتاح على هشاشة هذه الذات من جانب آخر، فليست هناك مساحة من التواري. تكشف النصوص بلوحاتها المتتابعة عن ذات تعرض بؤسها وتعرّيه، في مواجهة واقع ضخم، لا تتوجه نحو تفصيلاته، بل تعرض له مجتمعا بشكل كلي.
يمكن أن نقف عند حدود اللوحة/ النص رقم (4)، لندرك مدى مشروعية التوجه، وأننا أمام جدارية أو لوحات متتابعة، كاشفة عن الداخلي الباطني، ولكن اللوحة لا تحتوي على كتلة فنية وحيدة، فهناك الكثير من الكتل التي تحدث بتجاورها وتجاوبها انفتاحا على الحال الفردية، وهي تتشابك مع كتل أخرى داخل إطار اللوحة. فالكتلة الأولى في اللوحة تقول (حين منحتكم أصابعي/ وضعتموها في مزهرية جميلة/ فرحت وصدقت أنني حديقة)، وهي تمثل بداية الانفتاح على الآخر، في ظلّ وعي مختزن، يؤمن بمشروعية القيم والمثل، وكأنه وجود مثالي أولي قبل الاندماج والنزال.
الكتلة الثانية تدخل القارئ مباشرة لفعلي النزال والتجريب، في ظل تداخل بين الذات والعالم على تنوّع جزئياته، حين يقول نص الكتلة (حين منحتكم ظلّي/ قمتم بسلخه على العتبات/ ومسحتم أحذيتكم/ فظننت أني أضحية مباركة/ وفرحت). فمنح الظل يمثل عطاء، لأنه وجود متخيل لكائن فيزيائي، وحين يتحوّل إلى عتبة تمسح فيها أحذية البشر، يدرك القارئ أن ذلك وجود خاص لتقابل المثالي في اللوحة السابقة مع الواقعي التجريبي في هذه اللوحة.
وإذا كانت هذه اللوحة جزءا من الجدارية السيرية، وبداخلها كتل وأيقونات كاشفة عن عنف الرحلة، فإن الكتلة الأخيرة في النص أكثر وضوحا في الإشارة إلى البون أو المساحة الشاسعة بين البداية تحت سطوة المثال، والبداية في ظل سطوة الواقع، وما تحدثه بالبشر من انحناءات وتحولات تصيب النموذج المثالي المتخيل، خاصة بعد الإشارة إلى الشكل النهائي (البهلوان)، فالمتخيل حين يتطابق مع الذات، لا يخلو من نضارة وحيوية، ولكن (البهلوان) في الأخير إشارة إلى حجم التغيير، يقول النص (تصفيقكم الحاد يا سادة/ جعل من كل هذا شيئا جميلا/ حتى وإن كنتم تقذفون الطماطم الفاسدة/ والحجارة/ وتهتفون بهلوان فاشل).
في بعض النصوص، تتحوّل الكتلة النصية إلى لوحة نهائية كاشفة عن المآلات والنهايات الخاصة بالذات، وهي مآلات متخيلة منتظرة، تقدّم شعريا في شكل لوحة مرسومة بدقة، ففي الجدارية رقم (5) يتشكل توقّع المآل أو النهاية للذات من معاينة النماذج التي تبصرها في الواقع، وتتمثل في المشردين في الشوارع الذين لا بيت لهم يأوي عظامهم، يقول النص:
«وأنا أنزوي تحت أعمدة الإنارة الخافتة
تخففت كثيرا من الأشياء من حولي
الجمال
العمر
التجربة
ينكمش الجلد
يخبئ بين طياته الكثير
عشّاقا
أصدقاء
نجاحات ممكنة».
في هذه الكتلة ثمة تشكيل للتحولات العديدة التي لامست الذات في العمر والتجربة والجلد، بوصفها أشياء حسية ملموسة، ولكن اللوحة لم تقف عند حدود الملامح الشكلية، وتحديد مكان التشرد أسفل عمود الإنارة، ففي بقعة لونية/ نصية أخرى يتوجه النص وجهة مغايرة ترتبط بمتغيرات الروح، والإيمان بالقدرة على تحقيق الآمال المطروحة بداية من لحظة الوعي والانتباه، تبدو المتغيرات وثيقة الصلة بالثبات والحركة داخل المكان بالقصور الذاتي، والتخلي عن الغضب معادل التمسك بالأمل والمعافرة من أجل تحقيق الرسالة (صدري الذي كان دائما بحرا/ لم يعد قادرا على الغضب/ لم يعد راغبا فيه).
في اللوحات أو الجداريات النصية النثرية، تتجذّر هذه النهايات والمآلات، والتوسع بها للتأكيد على وجودها وفاعليتها أفقا مطبقا. في اللوحة النصية رقم (15) هناك بداية بطرح سؤال: كيف تعالج اليأس؟ ثم توجه تدريجي لرسم الطريقة أو النسق المتبع مع هذه النتيجة المرتبطة باليأس، ويتوزع التوجه إلى ناحيتين: تتمثل الأولى في الانعتاق من الآمال والأحلام، والإيمان بعدم القدرة على تحقيقها مع كل بداية صباحية، وهو توجه مغاير لحال التعرّف الأولى، فكل الصور في بداية المقطع تؤسس للثبات أو لحركة قائمة على مراقبة القصور والوقوف (كيف تعالج اليأس؟ تبتلع أحلامك كل صباح…). أما الأخرى فإنها نابعة من ثبات اللحظة الآنية وجفافها، فتتوجه نحو الماضي، لمعاينة التطلعات الأولى، فالذات في ظل ثبات الآني تعاين الماضي بشكل مغاير، فيحلّ الحنين إلى الأشياء، مؤسسا لفعل الاجترار اليومي.
الجدارية النصية لا تصنع فقط بتتابع النصوص أو اللوحات ذات الكتل المتناثرة بداخلها، لكنها في كثير من الأحيان تصنع بالتجاور، حيث لا تكون النقلة واضحة بين نص وآخر، أو بين لوحة وأخرى، ولكن يجد القارئ مجموعة نصوص أو لوحات لتشكيل مساحة من الجدارية السيرية، أو للوعي وتحوله من التهويمي إلى التجريبي. فإذا كان النص السابق يرتبط بالسكون والصمت والقصور الذاتي في الحركة، ففي جدارية تالية أو في نص نثري تال، يكتسب هذا السكون ملمحا يقوّي هذا التوجه ويؤسس له في شكل ليس بعيدا عنه. وبين سطري البداية والنهاية (أعرت وجهي للغريب)، و(لأني سئمت غربتي) تتشكل مساحة التداخل والتماهي بين الذات والغريب المصنوع، للتعبير عن حالها من جانب، ومن جانب آخر لصناعة تماه بينهما في مقابل الأشياء المحيطة التي تمت للتكوين الجديد الذي انتهت إليه الذات بصلة، مثل (بائع الجرائد) أو (أطفال الشوارع).
الجدارية وتراتبية التجاوب
يأتي غياب العنوان وإحلال الرقم مكانه، وثيق الصلة بالرؤية والتصور للعالم، رؤية تحدث ميوعة ومرونة لافتة للحدود الفاصلة بين النصوص، فهناك حركة دائمة، لا تبقي على حال ثابتة، فالواقع سريع التحوّل، والنصوص تشير إلى ذات اختارت عزلتها ويأسها، تنتابها دائما حالات واسترجاعات متناقضة، لأسباب لا تتجلى بشكل مباشر، نظرا لطبيعة النص الشعري. فالنصوص في غياب العنوان – حيث يضع شبهة الحد الفاصل وشبهة تحديد التوجه القرائي – تغطّي في عطائها الدلالي مساحة من الفيض الذي يجاوز الحدود، ويطفو فوقها، وتصبح النصوص سيمفونية حزينة ممتدة في ترجيعاتها الصوتية لآهات وأحزان ذات تحبسها وتختزنها.
فالثبات أو السكون الذي رأى القارئ ملامحه في الجداريات الأولى نابع من الفراق الذي يجذّر الذات في مساحة الوقوف، والارتباط بها واستحلابها، فتتم عملية الاستعادة بشكل دوري خيالا، وكأنه – في تقابل مع الوقوف الآني والفعلي – بنية مؤسسة للحياة ولبثّ نوع من الاستمرارية فيها، فالحياة في ظل الفراق- واستمراره بشكل متوال كأنه تطابق في المآل- ليست إلا إيغالا في التمسك بالخسارات، والوقوف عندها. الفراق في منطق النص الشعري أو الجدارية (هي اللحظة الوحيدة التي أتوقف فيها حقيقة/ عن الأمل/ عن الانتظار/ هي اللحظة الوحيدة التي أنشغل فيها حقّا/ بالحياة/ وأنا على وشك خسارتها).
الجداريات ـ بالرغم من هذا التوزّع أو التناثر لنصوصها – تحتوي أو تخلق بعضا من التتابع للحكاية أو للسيرة، وإن كان تتابعا يخلقه ويثبت ملامحه التأويل، فالدخول من الآني الذي يرافقه- بالضرورة- التوجه نحو الماضي لمعاينة لحظات خاصة، يتبعه- وكأن ذلك شيء ضروري ومتطلب من متطلبات السيرة وتفسير انعطافاتها- وقوف عند معاينة الكائن (الحب) الذي ولد وترعرع، ومات في النهاية في الجدارية رقم (32)، ويتمدد التوجه ذاته في الجدارية النصية رقم (33)، حيث يؤسس النص وجوده اللافت بين الحال الأولى للشعور بالحب وميلاده، وما يوجده ويشيعه من موسيقى وجمال متناغمين مع الحياة، والحال الأخيرة، وما توجبه من صديد وعويل وصراخ، وكلها نزوعات تعبر وتكشف عن صعوبة الرحلة المهلكة.
وقد عرض النص أو الجدارية للحالين، مؤسسا براءة وانسجاما للأولى، وإلى تنبّه وتساؤل واندهاش للأخيرة، في ظل مقابلة تأسيسية بين الجنة والجحيم، ففي الأولى انسجام واكتمال، وفي الأخير تشظ وهشاشة واهنة. في نصوص جداريات الديوان هناك حالات ليست قليلة يشعر القارئ فيها أن هناك إصرارا بفعل التجاوب والتكرار، للإشارة إلى الأفكار التي تتناسل فيما بينها لإيجاد أو تشكيل قراءة للحالة. ففي نص الجدارية رقم (37) هناك استناد- مع كثير من المغايرة والتهويم، كما رأينا في النصين (32) و(33) – إلى نصوص من شعر التفعيلة المعاصر، وخاصة إلى نصّي صلاح عبد الصبور (العائد) و(طفل)، لتشكيل منحوتات متشابهة ومتغايرة في آن، متشابهة في التوجه المعرفي العام، ومتغايرة في الدرجة والحدة.
الماضي في نصوص الديوان – بالرغم من حالات التكرار والعودة إليه – لا يتجلى في هيئة واحدة، ولكن في أكثر من هيئة، تمارس فيها النصوص أو الجداريات نوعا من التوسيع، أو نوعا من النفي والتحرير، لإضافة دلالة قائمة على التناقض والتباين مع كل ما سبق. فالماضي في الجدارية رقم (26) لا يتجلى بوصفه- كما في الجداريات الأولى- مساحة للاستقواء، أو لتفعيل القدرة على الاستمرار في مناوشة الحياة، ومقاومة جهامة الآني، بالرغم من الهزيمة والسكون، بل نراه يتجلى في شكل مباين في تعلّقه وتشابهه مع الآني بكل ثقله.
تأمل النصوص الشعرية في التحامها المتوالي، يثبت حركة بنائية للجداريات النصية، قد تقوم على التجاور المكاني، أو على التجاور الموضوعي المعرفي، على نحو ما يمكن أن نرى في الوقوف عند فكرة الفراق، في الجدارية رقم (19)، بوصفه سببا أو مكونا أساسيا للحالة الآنية، حيث يتجلّى فعلا الصعود والهبوط مذاكرة يومية واستعادة للفراق، ويتجاوب مع هذا الأفق الدلالي (تربية الجمال الخائن) في الجدارية رقم (31). يمكن بقليل من التروي معاينة كثير من التداخلات القائمة على التجاوب أو التنافر في تعالقها مع أفكار شائكة تتصل بالأب أو الأم أو المرض والوحدة.
مروة أبو ضيف: «مدينون لك أيها اليأس»
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2023
105 صفحة.