مدينون نحن دائما

«مدينٌ أو غير مدين»، ينصرف الذهن دائما في تحديد أي منهما، على ما جرت به العادة، أن الديْن مال أو متاع أو أي شيء مادي عيني، وأن إبراء الذمة يتحقق فحسب برد هذه المستحقات إلى أهلها الدائنين.
مع نظرة موضوعية، ونأي عن تأثير المادة، ومصارحة مع الذات، تنكشف لنا تلك الحقائق المندثرة، بفعل طغيان لغة المادة، نكتشف أننا مدينون، مدينون جدا، وأبدا، مدينون للكثيرين من حولنا من دون أن ندري، إنها ديون معنوية لا يخلو أحدنا من التلبّس بها، ولا تبرأ منها ذمة أحدنا، تستوجب أولا اعترافا داخليا في أنفسنا بأننا مدينون، يترجم إلى كلمة شكر، أو ربما جاء في صورة تسامح وعفو عن زلات أولئك ندين لهم هذا الدين، بموجب أن الحُر من راعى وداد لحظة.
مدينون نحن إلى أولئك الذين ربتوا على أكتافنا في غمرة الحزن، وأعربوا لنا عن عجزهم في فعل شيء، يرفع عن كواهلنا بعضا مما أثقلها من هموم، فجاءت تلك المواساة المجردة بلسما على قلوبنا، حين علمنا أن هناك من يشاركنا مآسينا، ويفكر بنا، ويهتم لأمرنا.. مدينون نحن، إلى أولئك الذين دعمونا وقت الانكسار، وأمطرونا بعبارات التشجيع والتحفيز وقت العثرات، ونفثوا في هممنا بأنفاس الصدق الحارة، فاشتعلت حماستنا ومضينا في طريقنا نتوكأ على صدى كلماتهم.. مدينون نحن، إلى أولئك الذين إذا نظرنا إلى وجوههم الصافية تسللت إلينا مشاعر التفاؤل والأمل، والشعور بأن ثمة خيرا في هذه الدنيا يتمثل في أصحاب تلك القلوب، الذين لا يحتاجون إلى أن يتحدثوا بيننا، بل هم قادتنا إلى السعادة، من دون أن يشعروا.. مدينون نحن، إلى كل من ألقى إلينا معلومة عفوية، رفعت عنا جهلا، وأماطت عن عقولنا لثام الغموض، أو استدعيناها في وقت ما، لتكون لنا تتمة فكرة ناقصة، أو أغاثتنا عند إرادة بذل النصح لغيرنا.. مدينون نحن، إلى أولئك الذين أنستنا الأيام أسماءهم، ولم يعد في الذاكرة سوى ملامحهم، ثم جاءونا بعد حين من الدهر، ينطقون أسماءنا بكل لهفة، ويخبروننا أن لقاءهم بنا كان إحدى أمنياتهم، فكشفوا لنا أننا ذوو شأن ومكانة لدى غيرنا.

عندما نطلق لأرواحنا إشراقها، ونتخفف من سيطرة المادة على طرائق تفكيرنا، سوف يتسع إدراكنا ليبصر كل مسحة خير تلوح من هنا أو هنالك

مدينون نحن، إلى أولئك الذين انتقدونا وصوّبوا أخطاءنا، ثم امتعضنا ولو في قرارة أنفسنا، واستبد بنا الحنق، ثم جلسنا مع أنفسنا ساعة من الصفاء، لنكتشف أن نقدهم كان أجمل الهدايا التي جاء بها القدر.. مدينون نحن، إلى أولئك الذين نهونا يوما عن ظلم أو باطل، وقاموا بعملية إنقاذ لإنسانيتنا وقيمنا، وأعانونا على تجاوز شِباك الغضب. مدينون نحن، إلى أولئك الذين كانوا أكثر منا كرما، وأسرع منا بذلا، وبادروا بالهدية تأليفا للقلوب، وغرسا لبذور المحبة، فتنعّمنا وإياهم بثمارها بعد حين، فكان لهم السبق، وتعجلوا بما غفلنا نحن عنه.. مدينون نحن، إلى من أقالوا عثراتنا، وتغافلوا عن زلاتنا، وآثروا العفو والمسامحة، ووسعتنا قلوبهم رغم أخطائنا، ولم يستبدلوا بالضغينة وِدّنا.. مدينون نحن، إلى أولئك الذين ردوا غيبتنا، ودافعوا عنا بكلمة طيبة ووقفوا في وجه الذين يأكلون لحومنا من وراء ظهورنا، وذبوا عن أعراضنا التي أُطلقت ألسنة في الخوض فيها، ومثلهم أولئك الذين تعهدونا بالدعوات الطيبات في صلواتهم وخلواتهم ونحن لا ندري، مدينون لهؤلاء أيضا.. مدينون نحن، لأولئك الذين ألهمونا الفكرة وقد أجهدنا البحث عنها، بكلمة منهم، أو فعل لهم، أو حتى بسمْتهم، فطِرنا بها فرحا على غرار أرخميدس: «وجدتها، وجدتها»، بل مدينون نحن، لوجوه العجائز الباسمة اللاتي يبعن المناديل في الطرقات، وهن يبتسمن إلينا فتظهر على ملامحهن آثار السنين، نبتاع منهن فتشيعنا دعواتهن طيلة الطريق، فتنشرح صدورنا بتلك الدعوات.
مدينون نحن، لمن أظهر لنا احتراما، أو ألقى علينا التحية وهو لا يعرفنا ولا تربطه بنا منافع أو مصالح، واقتبسنا منه تلك العادة وصارت لنا ديدنا.
مدينون نحن، لأولئك الذين قالوا لنا شكرا، لأمرٍ فعلناه هو واجب علينا وتكليف لنا، ولم يضنّوا علينا بالثناء لمجرد أنه فعلٌ واجب، فحبّبوا إلينا بصنيعهم هذا فعل ما ينبغي علينا.. مدينون نحن، لأولئك الذين لم يفعلوا شيئا ذا بالٍ لنا، سوى أنهم نأوا بأنفسهم عن أن يكونوا سببا في هزيمتنا أو إحباطنا أو خذلاننا. ولم لا نقول إننا مدينون، لأولئك الذين تخلوا عنا وظنوا أننا سنسقط، فاكتشفنا في أنفسنا القدرة على الصمود بهذا التخلّي، وقبلنا خوض التحدي، ثم التفتنا إليهم بعدما قطعنا المسافات ونحن نبتسم فخراً.
عندما نطلق لأرواحنا إشراقها، ونتخفف من سيطرة المادة على طرائق تفكيرنا، سوف يتسع إدراكنا ليبصر كل مسحة خير تلوح من هنا أو هنالك، حينها نكتشف أننا نسير على الأرض بديون كثيرة، تستوجب على الأقل كلمة الشكر، فشكر الناس هو دلالة الفطرة السليمة، والسبيل الأعظم لتحفيز النبلاء على الإبقاء على مسالكهم وتدفعهم لبذل أجمل وأثمن ما لديهم عن طيب خاطر. وكما جاء في الحديث النبوي (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اثير الشيخلي - العراق:

    اذاً بالتاكيد شكراً لكم على هذا المقال و تذكير الناس بالقيم السامية التي وردت فيه .

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    و هناك المدينون للبنوك !
    الأفضل من كلمة الشكر عندي : الوفاء !!
    لازلت أترحم على أبي وأمي وزوجتي بجميع صلواتي !!!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول ابو محمد من الشابورة:

    مقال جيد..

  4. يقول عامر عريم:

    كلام جميل.
    الحقيقة يجب ان نشكر الله سبحانه وتعالى الذي هدانا الى الاسلام وجعلنا من المسلمين
    الحمد لله الذي ارسل خاتم الأنبياء والرسل نبينا محمد عليه افضل الصلاة السلام الذي كان خير معلم الامة.
    وكذلك نشكر الاباء والامهات على ما فعلوه من اجلنا
    وكذلك
    نشكر من علمونا ونصحونا نصيحة خالصة لوجه الله
    وكذلك نشكر من نفع الناس جميعا.

  5. يقول رواية من أغمات:

    سأل صحافي احدى الممتلات الامريكيات المشهورات لا اذكر اسمها ولا اذكر البرنامج كالعادة حينما تروم ذاكرتي الى نسيان الاسماء والاماكن البعيدة التي لا تجد طريقا ينفد الى دهاليز عقلي المكتظة بينما تتعمد كعادتها ان تترك حظا وافرا لوجداني ليتذكر جيدا ما تعتري العوالم من أفكار ومشاعر جديرة بالتأمل . الدي فاجأني هو ان سؤال المذيع كان نمطيا يسأل به عادة الصحافيين ضيوفهم لعل جوابهم يأتيهم بخبر جديد او بمزحة قابلة للترويج ! ، مالذي تريه ينقصك بعد كل هده الشهرة والتراء ؟ ، يعني ما الاشياء التي تحزنك رغم كل ما وصلت اليه ؟! سألها قائلا بشغف يلفه التطفل والفضول …فصمتت قليلا تم أجابته بنبرة يعتريها الحزن والتحسر : “أصعب شئ في هده الدنيا ومع كل هدا النجاح الدي دكرت ان ابقى عاجزة لارد ولو درة جميل لاشخاص مازلت لحد الساعة مدينة لهم بأشياء لا استطيع تعويضها لهم الان بعدما ارى اني فقدتهم للابد” . ترى من الصعب استرجاع الايام التي كان يجب ان تبادل اشخاصا حبهم وإخلاصهم لك بدون مقابل ولا شكورا ، نعم فعلا نحن مدينون بكتير لأولئك الدين يمضون بدهاب تلك اللحظات التي لن تعود .

  6. يقول محي الدين احمد علي رزق مواليد:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مدينون نحن دائما. إلى الجميلة الكاتبة المحترمة إحسان الفقيه. كل يوم الاثنين انتظر مقالك الجميل الذي اعتبره ( المقال الإصلاحي ) وهذا الأسبوع بعد قراءة المقال قررت عدم كتابة تعليق رغم الموضوع جميل جدا وموضوع إنساني وبه من المبادئ الكثير. وعدم كتابة تعليق مني لأني من الذين وهبة حياتي لخدمة أي مجتمع اتواجد فيه والحمد لله معروف على اعلى مستوي في البلد الذي أعيش فيه ومعروف عند بلدي الام أيضا على اعلى مستوي ومع ذألك لم اسمع كلمة شكر بل غدر غدر غدر المهم لم اسمع في حياتي كلمة شكرا. وتعرضت للاغتيال ثلاث مرات. وشكرا

  7. يقول Hamed Arab:

    كلام عاقل وواعي جداً…

اشترك في قائمتنا البريدية