مذكرات نزار حمدون: غزو الكويت… الصعود الى الهاوية «3»

يعتقد نزار حمدون أن الإدارة الأمريكية لم تتقصد (الدلال) للعراق لأسباب مؤامراتية كما يتخيل البعض، وإنما لأسباب تتعلق بالفهم العام لمنطق النظام في العراق، وعلى قاعدة الترضية أملاً بالثمن المقابل لدور أمريكا الداعم للعراق في حربه مع إيران. لقد أسست هذه المرحلة لبرامج التسليح العراقية الهائلة للتمهيد لعملية غزو الكويت، التي استهدفت في جوهرها تحقيق حلم صدام حسين (البسماركي) كقائد للأمة العربية! لقد موّلت أمريكا العراق 5 مليارات دولار بين عامي 1983-1989 لغرض شراء القمح والمواد الغذائية الأخرى، إلا أن العراق حوّلها إلى شراء الأسلحة وتمويل برامج التسليح الكبيرة التي شملت أسلحة دمار شاملة. إلا أن الأجواء بدأت تتوتر بين بغداد وواشنطن منذ منتصف عام 1988 بعد تصاعد الاتهامات التي تنشرها وسائل الإعلام العراقية ضد الإدارة الأمريكية، كونها تزود إيران بمعلومات استخباراتية عن العراق وتتدخل في شؤونه الداخلية، بينما كان الرئيس العراقي يعلن عن آفاق إيجابية في العلاقات الثنائية عبر رسالته الموجهة إلى ريغان بعد قبول قرار وقف إطلاق النار في 8 أغسطس/آب 1988، في الوقت ذاته قد تكون الآفاق منعطفاً في اتجاه أوضاع غامضة وخطرة لا تحقق هدف شعوب المنطقة والعالم في السلام.
اتجهت العلاقات بين البلدين نحو التأزم منذ مطلع عام 1990، في فبراير/ شباط منه احتجّ العراق على تعليق لإذاعة صوت أمريكا، فيه إشارة إلى حقوق الإنسان في العراق، وفي أبريل/نيسان أُبعدَ أحد الدبلوماسيين الأمريكيين من سفارتهم في بغداد، رداً على طرد أحد دبلوماسيي السفارة العراقية في واشنطن، باعتباره عنصراً تابعاً لجهاز المخابرات. تبع ذلك بأيام تصريح صدام بامتلاك العراق الكيميائي المزدوج القادر على حرق نصف إسرائيل، إذا ما أقدمت على فعل ضد العراق، وهو ما أقام الدنيا في العالم ولم تقعد. كان من الواضح، يقول حمدون: أن العراق بدأ يصعّد من جانبه وتيرة العداء، ويدفع في اتجاه التهديدات غير المبطّنة باللجوء إلى ضرب القواعد العسكرية الأمريكية، في الوقت الذي كانت برامج التسليح الضخمة تجري بشكل متواصل، وكان حسين كامل وزمرته يجوبون الأرض طولاً وعرضا، يحملون ملايين الدولارات لشراء ما تحتاج ماكنتهم العسكرية، في حين كان الاقتصاد العراقي يئن تحت تراكم الديون، وقلة السيولة النقدية، والبطالة تهدد المتسرحين من الخدمة العسكرية.

يبدو أن هذا النمط من السلوك مخطط له في عقل الرئيس والمجموعة من حوله منذ زمن، كي يُختتم بغزو الكويت وابتلاعها، للوصول إلى الخليج العربي والسيطرة على 20 في المئة من المخزون النفطي العالمي. التقى حمدون بالسفيرة الامريكية (كلاسبي) بعد منتصف ليلة 24-25 يوليو/تموز 1990، بصدد الردّ على الشكوى العراقية حول المناورات البحرية الأمريكية المشتركة مع دولة الإمارات العربية، وبدورها كانت تستفسر عن مغزى آلاف الجنود من الحرس الجمهوري المتوجهين إلى الحدود مع الكويت، وتطلب بإلحاح معرفة نوايا العراق. في 25 يوليو التقت كلاسبي صدام، ومن خلال الاطلاع على محضر اللقاء، يعتقد حمدون أن السفيرة كان يمكن اعتبارها واضحة في التعبير عن الموقف الأمريكي الصحيح لو أنها كانت تكلم شخصاً آخر غير هذا الرجل، أو أنها كانت تتحدث مع شخص يفهم العقلية الغربية والأمريكية بمقاييس العصر وبموجب معطيات مصالحها ورؤاها قبل رؤيته هو، لذلك لا يستبعد أن يكون الرجل فهم منها ما شجّعه على المضي بمغامرة الكويت، في الوقت ذاته، لا يتهم حمدون الإدارة الأمريكية أو كلاسبي شخصياً في محاولة تضليل صدام حسين وتشجيعه على ذلك. كان من المفرض كما يعتقد بناءً على فهم عقليته، وهوسه، وسلوكه المغامر أن تكون أمريكا أكثر وضوحاً في التهديد بالعواقب والتحذير من اللجوء إلى القوة. في 2أغسطس وقعت الكارثة، ورغم الأسباب والدوافع والتداعيات، كان صدام وهو في زهو (النصر) واهماً أن المندوب السامي البريطاني برسي كوكس لم يكن عادلاً في رسم حدود دول المنطقة عام 1922، فلم يترك مساحة كافية على الخليج العربي ليبني فيها العراق موانئه، فتعذر أن يكون دولة تطل على الساحل تتحكم بالملاحة والتجارة الدولية ومنابع النفط. فابتلع صدام الأرض والمياه في لحظة خاطفة، ليدفع ثمنها العراقيون غالياً لغاية هذا اليوم. لم يعد الحدث منطقياً بالنسبة لحمدون: بموجب أي من الحسابات التي يفترض بقيادة أي بلد أن تحسبها قبل الدخول في مثل هذه المغامرة. في الأيام الأولى من أغسطس 1990 صدر عن مجلس الأمن الدولي القرار 660. ثم تبعته سلسلة قرارات تضمنت العقوبات الاقتصادية والقانونية المترتبة على الغزو، في نهاية العام وجّه المطرب الأمريكي الشهير فرانك سيناترا رسالة مؤثرة ورقيقة إلى صدام حسين يناشده اللجوء إلى السلام. أطّلع أحد أصدقاء حمدون على الرسالة وأعجب بها، وقال بحسرة: لو كانت هناك ذرّة عقل لتمّ التعامل معها بشكل إيجابي، ولربما كان فيها ما يؤدي إلى حل.
أخيراً وقعت الواقعة في 2 أغسطس على الرغم من كل ما بذله المجتمع الدولي لوقفها، وصف حمدون الساعات الأولى منها: حملات إعدام للكويتيين الذين رفضوا التعاون، منهم فيصل الصائغ (من قياديي البعث السابقين في الكويت) أشرف حسين كامل وسبعاوي وعلي المجيد بتوجيه مباشر من الرئيس على عمليات القتل، وتفكيك المستودعات والدوائر والمخازن والمؤسسات ونهب الممتلكات العامة والخاصة، كانت كذبة كبرى ابتدعوها اسمها (يوم النداء) إنهم لا يستحون.
وكذبة الأسرى والمرتهنين الكويتيين الستمئة، حاول النظام أن يمررها على المجتمع الدولي، في الوقت الذي تم فيه تصفيتهم برصاصة في الرقبة وليس الرأس، كان يطلقها عصام خضر، حسب وصية سيده سبعاوي له، لأنها أضمن للموت. إلى جانب هؤلاء كان آلاف العراقيين قد شاركوا عمليات النهب ومئات (الرداحين) يرقصون لنشوة (النصر) ومئات الكتّاب والإعلاميين سخّروا أقلامهم وأدواتهم لتبرير (الانتفاضة والفعل الثوري). كانت الحسابات في ذهن القيادة العراقية (الفرد القائد) مبنية على دواعي الشعور بالعظمة والرغبة في التوسع، والتحول إلى دولة عظمى. الحرب عبر التاريخ، كما يصفها نزار حمدون، شعار ووسيلة لتحقيق أهداف وغايات غالباً ما تكون مختبئة خلف دخان الشعارات، وبالنسبة لصدام كانت وسيلة لبناء مجده الشخصي، وتتناسب مع نزعته الفطرية للعنف والدماء. النتيجة ملايين من القتلى والمعوقين والمعذبين خدمة لرغبات فرد واحد، ولعائلته، فهم أسياد البلد دون منازع، وكل ما فيه مزارع يغرفون منها ما شاؤوا.
لا بد من سؤال يطرح في ختام هذه القراءة: ما الذي يميز هذه المذكرات عن سواها من المذكرات التي كتبها سياسيون، وقياديون، ومسؤولون ينتمون إلى النظام السابق؟ في الإجابة على هذا السؤال تكمن الإشكالية الأولى، وهي أنها صدرت عن مسؤول رفيع في دوائر الخارجية والإعلام، كان قد اطّلع أو احتفظ بمئات الوثائق ومحاضر الجلسات والاجتماعات التي تتضمن آلاف الأسرار في السياسة العراقية، فأراد نزار حمدون أن يكون شاهداً أميناً في نقل الحقائق، كما زعم في مقدمة مذكراته، ونحسب هذا الزعم صادقاً، حسبما أملاه عليه ضميره، أو وفق ما تيسر له من سبل في التحري والبحث والتسجيل. ويحسب لصاحب المذكرات أنه أدان السياسة الخاطئة للنظام، ونبّه بشجاعة إلى نتائجها الخطيرة في أكثر من موقف بموضوعية ووضوح. إلا أن ما يؤاخذ عليه «في تقديري» أن نزار حمدون كان مفرطاً في التفاؤل في الحديث عن (براغماتية) الإدارة الأمريكية الجديدة، بعد فوز بوش الأب بالرئاسة، الذي وصفه بأنه يمثل الاتجاه المعتدل في الحزب الجمهوري، وأن هذه الإدارة أقل تشدداً عن سابقتها، وابتعد عن موضوعيته بضرورة حل الصراع العربي – الإسرائيلي، لأجل استقرار العلاقة العربية – الأوروبية، مع أنه أشار إلى صعوبة التنفيذ في تكييف الحالة، ووضع سياقاتها الزمنية.
وغالباً ما يتحدث عن حاجة النظام العراقي إلى تهديدات لها صدقية وفيها من الوضوح، ما يمنع الغموض وسوء الفهم، بسبب القناعة بأن أمريكا غير جادة في تهديداتها منذ نهاية حرب الخليج الأولى، وعبر كل السنوات، خاصة في ما يتعلق بقضيتي حقوق الإنسان والديمقراطية في العراق، ما يوحي بأنه يقف إلى جانب الولايات المتحدة في سياستها ضد العراق،
إن فهماً مشوشاً، أو خلطاً للأوراق قادا حمدون إلى ضبابية الموقف في هذه القضايا الشائكة تحديداً. مع ذلك، تكمن أهمية المذكرات في إجابتها على العديد من الأسئلة التي ما زلنا أسرى لتداعياتها، وهو يسجل تجربته الغنية بالمفاجآت، ويعيد تأليف المخفي من تجربته الحزبية، كاشفاً عن أساليب وممارسات كثيرة.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد الحسنات:

    شكرا للتقديم ولعرض لمذكرات نزار حمدون، عن فترة حساسة جداً وخطرة في
    تاريخ المنطقة العربية مشرقاً ومغربآ، ما تزال أسبابها وتداعياتها وإرتداداتها
    تعصف بالبلاد والعباد شرق المتوسط ، فهل نعيد قراءة تحليلية مقارنة في
    ضوء ما تيسر نشره وتم التأكد من مطابقتة للوقائع والحقائق، حول عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين

  2. يقول محمد شهاب:

    فيصل(عبدالحميد)الصانع، و ليس الصائغ
    نائب كويتي سابق
    يقال أنه تعرّف على صدام حسين أثناء تواجد الأخير لاجئاً في القاهرة أوائل الستّينات إثر هروبه من العراق لإشتراكه في محاولة إغتيال عبدالكريم قاسم قائد إنقلاب ١٤ تموز ٥٨ الدموي.
    أعتقل فيصل الصانع بسبب رفضه التعاون إثر غزو الكويت آب ١٩٩٠
    من أوجه عقم حسابات صدام حسين في القيام بعمل أخرق مثل غزو الكويت في عدم الإهتمام بردود الفعل الدولية و لكن أيضاً ، و قد كان مجلس الامة الكويتي آنذاك منحلاً بسبب خلاف بين النواب و الحكومة ، أن صدام حسين إعتقد أن نواب المعارضة الكويتية سيؤيدوه….
    و يبدو أنه إغتاظ من رفض فيصل الصانع و هو الذي قيل عنه أنه بعثي كويتي التعاون معه فأعتقل و تمت تصفيته.
    و رحم الله الجميع

  3. يقول مراقب خط:

    عرض الدكتور حميد عبدالله هذه المذكرات على قناته تلك الايام في ٣ حلقات ،،، قال فيها المختصر و المفيد والمهم … عرض الكتاب في مقالات على صفحات الصحف العربية غير ناجح في الاعلام العربي ، الصحفي الغربي عندما يعرض كتاب في النيويورك تايم ،، لا تستطيع ك قارئ الا ان تكمل المقالة. عرض الكتب ، review , فن لايجيده كل من كتب . ارجو اعادة النظر . خالص احترامي

اشترك في قائمتنا البريدية