مركزية الفهم والتأويل في مختارات من الإنجازات البصرية الغربية

حجم الخط
0

بعد استبعاد ورفض «الفن الملحمي» الرّسمي الذي فرضه الواقع النازي في ألمانيا بين الحربين، وإدانته من طرف مختلف دوائر القرار العالمي في أوروبا الغربية وأمريكا بتهمة «معاداة السامية»، نظرا لاتّباعه لسياسات عرقية بغيضة ونتيجة لتهميشه لمختلف مدارس وتيارات الفنون الحديثة واعتباره من الأشكال التعبيرية المتدهورة، ومضايقته لمختلف الناشطين الخارجين عن الولاء لنظامه (الرايخ الثالث) الجاثم على الأراضي الألمانية منذ 1933، وتصفيته لعناصر التجريب «السوقية» المغامرة والمقامرة بمجمل المبادئ الجمالية، وتجريمه للانفتاح والتعاطي مع القراءات البصرية والروايات «الخرافية» السائدة المجسدة في عدد معتبر من الأعمال التشكيلية العالمية، فإن الغالبية الساحقة من مشاريع المنتجات الغربية الحديثة والمعاصرة لم تقدم البديل، واكتفت بالاختفاء وسط ظلالها والتماهي مع ضبابية وتمويه سرابها. فبقيت خادمة لمرجعين أساسيين، الأول سماوي (توراتي، إنجيلي) خصّ الأعمال الحديثة والثاني استراتيجي (إثني، دوغمائي) خصّ الأعمال المعاصرة، سواء في تناول المحاور الفنية (المحطات المقدّسة، المهد، عشق المجوس، الهروب إلى مصر، خيانة يهودا، الصلب، الانبعاث)، أو في اعتماد الرّموز والإحالات المشهدية (ألوان رداء العذراء، بياض الملائكة، يد الله، أجنحة المرسلين، هالة يسوع، تاج العرش، القيامة)، أو حتى من خلال تسييق مجرى القراءة وتأطير مضمون الجدال الفكري المحفوظ في مؤلفات ومتون النقاد والمؤرخين والأكاديميين. فاتّضح بالبرهان مجددا عقم التجربة وفداحة المشهد الذي بات يتغذّى من بقايا التّركة الظّلامية القروسطيّة القديمة ويستلهم تعاليمه من عمق المعايير الشوفينية الحديثة.

بعض المراجع البصريّة الكونيّة الغربيّة المعاصرة في التشكيل اتجهت عبر مسار التاريخ الفني القديم والحديث إلى تجاهل بعض المنابع التشكيلية المرجعيّة العتيقة سواء في بلاد الرافدين، أو داخل المجال الافريقي، أو العالم المحلي الهندي في أمريكا وأوقيانوسيا وإندونيسيا، والتنكر للفعل الصيني والآسيوي، الذي أضاف الكثير للثقافة والتعبير البشري. وعبر التاريخ الوسيط تم ذلك بتجاهل الفن الإسلامي، وهو في مرحلة أوجه، وتهميشه بتصنيفات نمطية محدودة تعيد قولبته وتجميده وعدم تصنيفه، والتقليل من شأن الخط العربي بأنواعه وحصره في الباب التزويقي الثانوي. وهو ما فعلوه بالميراث الثقافي العالمي اللاتيني والكاراييبي وبعد ذلك الأندلسي، لأن الهدف العملي كان الحث على الدعوات والتبشير عبر الاستشراق والحملات المنظمة لجعل المركزية الثقافية واقعا مفروضا على القاصي والدّاني، فتباعدت المعادلات بين الشرق والغرب وتعمقت الفوارق، بالخصوص عبر مصنفات ورشية ونظريات مسايرة، منعشة وخادمة لنظم اقتصادية بشعة ومتغطرسة.

بعض المراجع البصريّة الكونيّة الغربيّة المعاصرة في التشكيل اتجهت عبر مسار التاريخ الفني القديم والحديث إلى تجاهل بعض المنابع التشكيلية المرجعيّة العتيقة سواء في بلاد الرافدين، أو داخل المجال الافريقي، أو العالم المحلي الهندي في أمريكا وأوقيانوسيا وإندونيسيا، والتنكر للفعل الصيني والآسيوي، الذي أضاف الكثير للثقافة والتعبير البشري.

بعض العالميين المعروفين في الحقل التشكيلي والفكر الجمالي من حام في دائرة نفوذ السلطة، سواء بتزييف الحقيقة وتزيين البهتان، أو بتوفير المساحة التقنية الفنية وتضمين السند التعبيري الكامل للأسر المتنفذة. ومن الانشغالات من اتسم بالوقاحة وتدني المضامين بتعلّة تجاوز النظرة المعتادة وتجريب النماذج المقترحة. غير أن هذه الاختيارات اللاجمالية بقيت محل نظر وجدال لقرون، خاصة من خلال تمثيلها لخيارات انتهازية من جهة ولتتابع الأشكال البصرية الاعتباطية من جهة أخرى، بحيث ظهر أغلبها عاجزا عن تجاوز سطحيته، فظل يركض في فراغ مجهول، واتضح في ما بعد أن هذه المساعي والمبادرات تهرب من واقعها متجهة عموديا إلى أسبار الفضاء الكوني، معبرة عن مقدار الضعف والخوف والوهن، مستلهمة رؤاها من الضباب والغيم والنجم (الانطباعي، التجريدي، المفاهيمي)، ومن الصواعق والزلازل (البيزنطي، الديني، القوطي الرفائيلي) لتعود إلى الأسفل عبر دائرة سيطرة الماورائيات (بقايا جداريات الصيد، معالم الآلهة، المذابح، العبادات، نقوش الأنعام والضواري، أشكال المنتوجات الزراعية، صروف المقايضة)، التي تتموقع في حقل الصلوات (القوطي، الوفي)، لتسافر باللون والتكوين إلى خطوات خلفية قياسية ابتعدت عن مكامن الإبداع الحر، كلما اقتربت من الوهج البيزنطي الميت، واقتربت من المنطلقات الهامشية الحرة المتحورة والزائلة كلما ابتعدت عن تمثيل محيطها والتعبير عن قلق العامة وإثارة المطالب الجماهيرية وفرض المعضلة المطروحة، فبدت مجمل الاعتبارات سخيفة (وهذا من حزمة أهدافها) باحثة عن الشيء في اللاشيء. ما بينه المشروع الجمالي الغربي، من خلال مساره الطويل يكاد يقتصر على الاختلاف والتملص من القيود التقنية والانفلات من القواعد العلمية.

دون ذلك فإن مقاصد انعراجه ظلت متخاذلة ومتلاطمة كموج البحر. وهو موقف لا يحسد عليه، يتموضع فيه خيار الفن الحديث والمعاصر بين واقع التقليد وخيال التجريد والتحييد، وكما يقول السريالي سلفادور دالي «التشكيل هو الوجه المخفي لكرة الثلج». فلا التدرج اللوني وترتيب وتصفيف الرسل والمبعوثين في عمل صعود العذراء للإيطالي بيروجيني، ولا العملية المرعبة لقطع رأس القائد البابلي هولوفارن عن جسده لميريسي المعروف بكارافاج، ولا أشباح جياكوماتي الفولاذية النحيفة ولا مبولة ديشامب، ولا إفرازات الفاضحة شنيمان، ولا حانة بان المتنقلة، ولا طلقات كريس باردن النارية، ولا كراسي كوزيت المعروضة بمتحف بومبيدو والمتأرجحة بين الواقع والصورة واللغة، ولا تفاحة بيكاسو المحشوة بفضلات سليلته مايا في متحفه في باريس، ولا تبول أندي وارهول ولا تفريغ الإسفلت الساخن على جرف ترابي للأمريكي سميثسون في فن المكان، ولا تفجيرات أجهزة تنغيلي الميكانيكية والكهربائية، ولا مقولات وأكاذيب البريطاني أتكينسون، ولا مزابل بيستوليتو المعنونة فينوس مع الخرق، ولا الإسفنج المصقول للفرنسي كلاين، استلهمت من البعد الكوني الإنساني واقتدت بالتجارب البصريّة من موارد مختلفة ومن فضاءات إقليمية خارج العالم الغربي وعملت على إعادة حيوية وجمالية التداول في التناول البصري.
هذه القراءات الجمالية المقتضبة كفيلة بمقاربة تحديد التوجهات المذكورة حسب الفكرة والتناول وهي بمثابة المحرار الذي يقيس معيارية الحوار بين الأقطاب الكونية المتباعدة.

«جوديت تُمسك برأس القائد هولوفارن» (أندريا مونتيڤا) 1495.

وسط أفق داكن إلا من حضور الشخصية المحورية، زاده ضبابية جثة البطل البابلي هيلوفرن ( 6 ق.م) الملقاة في عمق المرقد بلا حراك حتى لا يكاد يظهر منها سوى أصابع القدم اليمنى. وهو محور تناول كارافاجي متهور بامتياز، يعبر عن جزئية مقصودة، موسومة بالانحطاط واتجهت المقاصد فيها إلى النسيان والتشييء. في حين تحول الاهتمام وسط اللوحة للرأس المقطوع الذي تضعه الخادمة في الكيس احتفاء بظفر البطلة جوديت، التي اتشحت بمظهر النصر والعظمة، ملتحفة برداء أزرق محاكية لرداء العذراء. في تقابل بين حضور أفقي خاضع (هولوفارن) وحضور عمودي مترفّع (جوديت). بينما اتشح أسفل المشهد بآلية منظورية تزيد في تحديد الأبعاد، باعتماد أرضية المربعات المتدرجة التي تسافر بالناظر إلى عمق اللوحة لتتوقف عند نقطة التلاشي مع المظهر البطولي لجوديت، في هيئة وقوف شامخة ممسكة بالسكين باليد اليمنى وبرأس الضحية هيلوفارن باليد اليسرى. ولعل ذلك يربط حضور القاتلة بغياب القتيل. وهو تناول يعيدنا من جديد إلى مربع المركزية وإلى ثنائيات النصر والهزيمة والوجود والفناء. مع الصراع نفسه الذي وجد في حضارات أخرى، خاصة مع ثنائية ديفيد وغوليات وكلها مواجهات وجودية حاسمة وسمها صناعها بالملحمية هدفت إلى استبعاد الآخر وصولا إلى الفكرة الجوهرية التي ترمي إلى تنصيب الشعب اليهودي وتتويج التعاليم التوراتية.

«الرّحمة» (فان كوغ) 1889

كلّما استغرق النظر في هذا العمل المحفوظ في متحف فان كوغ في أمستردام اتضح المقصد الذي حول الصورة إلى التلاشي واللون إلى القتامة. في عمل انطباعي متأثر بالرومانسية اللونية للمستشرق ديلاكروا، غير أنه كشف عن مكامن ضعف التوجهات الوحشية التعبيرية التي اتسمت بانعدام الحيوية وبنسيج التظليل داخل المساحات المشهدية في التجاويف الجبلية القريبة باللون الداكن وفي الأفق البعيد بالتدرج من اللون البارد إلى الحار. بينما حافظت الشخصيتان ( السيدة مريم ويسوع) على جمودهما المطلق عبر تبني لوني المنظور المشهدي الطاغيين (الأزرق والحمضي)، في وضعية تلاش جعلت العذراء لا تمسك بابنها، بل تعرضه، ما مثل خروجا عن النمطية التشكيلية، تميز العمل كذلك بتحويل الخطوط المستقيمة إلى منحنيات والزوايا إلى دوائر، حتى بدت عناصر الصراع غائبة ومقومات التضاد اللوني مفقودة. وعلى كل حال فإن استنتاجات التناول تضعنا أمام النقاط التالية:
تم إنجاز العمل في الشهور القليلة قبل رحيل فان كوغ المحيّر وهي صورة مصغرة لظلام العالم ورفض الآخر.
مضمون العمل يؤكد حضور العناصر الإطارية المحددة، وهي سواء توراتية أو إنجيلية أو الاثنين معا (سلطة الدين الأوروبي)، أو عبر القراءات الفكرية المركزية الموجهة لاستيعاب الآخر. على الرغم من انشغال العالم ببداية المدنية الحديثة مع بوادر النشاط الاستهلاكي في مجتمع يعيش بدايات التصنيع.

«علب حساء كامباوند»، أندي وارهول (1962)

لعل التشهير بالتوجهات الاقتصادية الرأسمالية كان الغاية الأولى، لاسيما وأن الفنان مرتبط بحقل التصميم والإنتاج والترويج التجاري، وله احتكاك بالميدان الإشهاري وتنظيم الحفلات الفنية ومخالطة المشاهير، أكثر من الاهتمام بالعناصر التشكيلية الجوهرية. ما جعل جل أعماله محل مراجعة وانتقاد من طرف المجادلين والقراء، من ذلك هذه اللوحة التي اكتفت بصورة علبة حساء مكررة عشرات المرات، للتعريف بعديد النكهات. فكأننا أمام صورة دعائية تحيلنا إلى خبايا بدايات مجتمع الاستهلاك وتوجه النظر لعظمة المجتمع الأمريكي المنتصر في الحرب والذي وصل إلى أوج إزدهاره، خاصة بتوافد أغلب المفكرين والفنانين والأكاديميين من عدة دول ، ما جعل نمو وتطور الفن البصري مرهون بهذه التحولات السخيفة، وهو معطى آخر يحيلنا على الأرجح إلى المركزية وفتح أبواب الهيمنة الجديدة.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية