مسافاتٌ بين التنسيق الأمني والتنسيق المدني!

لا مناص أمام الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية إلا التواصل مع الإسرائيليين، إنهم مجبرون على الاستماع لمحتل أرضهم بشكل يومي، فهو القابض على عنق الداخل والخارج إلى أسواقهم ومعابرهم، وهم مجبرون على الحديث معه في كل ما يتعلق بشؤون حياتهم اليومية، وهذه علاقة تكاد تكون أقرب إلى العلاقة بين السجان الذي يغلق الباب، ويقبض على المفتاح، وبين السجين المجبر على تسلم طعامه، وطلب الدواء من سجانه لأوجاعه.

فخ التعاون الأمني

ضمن تلك المعادلة الكيدية؛ لا بد من الانتباه إلى أن السجين المجبر على التعامل مع السجان في شؤون حياته اليومية، ليس مجبراً على تقديم معلومة أمنية عن أوضاع زملائه السجناء، وذاكرتي الشخصية كأسير محرر تحتفظ بحذر الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية من الوقوع في فخ التعاون الأمني مع سجانهم، والحرص على عدم تزويده بأي معلومة تتعلق بأوضاع الأسرى الداخلية، قد يطوعها العدو للإيقاع بهم، وتفتيت وحدتهم وصمودهم، وأزعم أن هذا الموقف الموحد للأسرى الفلسطينيين من موضوع التعاون الأمني قد حظي باحترام سجانهم، الذي أدرك أنه في مجابهة مع مجتمعٍ واعٍ لما قام به من فعل مقاوم خارد الأسوار، ومدرك لدوره الوطني خلف الأسوار، ولمستقبل علاقته مع المحتلين في مراحل التحرر اللاحقة.
وإذا كان الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي مجبرا على التعامل اليومي مع المحتل الإسرائيلي، وإذا كان ممثل الشعب الفلسطيني وقيادته مجبرة على التنسيق المدني اليومي، وتقديم كشوف بالحاجيات الضرورية من وقود وطحين وأدوية، وأعداد المسافرين من خلال المعابر وأسمائهم، فإن الفلسطينيين غير مجبرين على تزويد عدوهم بالمعلومة الأمنية التي تخدم عدوهم، وتحفظ سلامة جيشه المحتل، وتحرس عدوانية مستوطنيه، الفلسطينيون غير مجبرين على تزويد عدوهم بالأنشطة المجتمعية أو الفعاليات الشبابية، أو الأنشطة الطلابية، أو حتى الأحلام الخاصة بالشعب الفلسطيني، والتي تندرج كلها تحت بند التنسيق الأمني.

مفهوم التنسيق

وحتى لا يقع القارئ في خديعة التعميم لمفهوم التنسيق، لا بد من التفريق بين التنسيق الأمني المختص بأمن الإسرائيليين، والتنسيق المدني المتعلق بحياة الناس، وكذلك لا بد من التفريق بين التنسيق الأمني والتنسيق الجنائي، والذي يختص بالجرائم، وتسليم المجرمين، وكذلك لا بد من التفريق بين التنسيق الأمني والتنسيق الميداني المتعلق بالارتباط العسكري، ومواقع انتشار القوات الفلسطينية لمنع الاحتكاك، بمعنى آخر؛ هناك أربعة أنواع من التنسيقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن أخطر التنسيقات على القضية الفلسطينية وأظلمها، هو التنسيق الأمني القائم بين المخابرات الإسرائيلية والمخابرات الفلسطينية، والذي من مهماته، محاربة المقاومة، وإلقاء القبض على كل فلسطيني تسول له مشاعره الوطنية مقاومة المحتلين.
لقد أدرك الشعب الفلسطيني مضامين التنسيقات سابقة الذكر، لذلك انصب هجوم التنظيمات والمؤسسات على التنسيق الأمني السيئ، ولن تجد فلسطينياً واحداً يعترض على التنسيق المدني، أو يطالب بإلغائه، وقد كان التنسيق المدني قائماً زمن الاحتلال الإسرائيلي المباشر، وقد ظل قائماً بعد قيام السلطة، ولم ينقطع في زمن الحروب على غزة، ولم يتوقف زمن الهجوم على الضفة الغربية في عملية السور الواقي، فالتنسيق المدني جزء من الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، ولا تقدر إسرائيل بكل أجهزتها الأمنية على وقف التنسيق المدني، ولا ترغب في ذلك، ولا تسعى إليه، كما لا تقدر السلطة الفلسطينية على وقف التنسيق المدني دون أن تجرف عينها بأصبعها، ودون أن تدوس بحذاء الجوع والحاجة في أحشاء الشعب الفلسطيني.
لقد حرصت السلطة الفلسطينية على تعليق كافة التنسيقات مع الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك التنسيق المدني، لينجم عن ذلك عدم تسلم أموال المقاصة، والاقتراض من البنوك بفوائد عالية، لهدف صرف نصف راتب للموظفين، ولعمرك إن هذه لمن الكبائر السياسية، فكيف يصير تجويع الموظفين الفلسطينيين طريقاً لإيذاء المستوطنين اليهود؟
وكيف يصير الربط بين حاجات الناس الحياتية من خلال التنسيق المدني، وبين حاجات الاحتلال الأمنية من خلال التنسيق الأمني؟
إن المدقق في قرار تعليق التنسيق بكافة اشكاله مع المحتل يكتشف من البداية أن هذا التعليق مؤقت، وقرين مرحلة، وليس عملاً استراتيجياً يهدف إلى إعادة صياغة العلاقة مع الاحتلال بما يخدم القضية الفلسطينية، وإنما هو رد فعل سياسي لا يدوم، ولاسيما أنه مردوده سيكون وجعاً يضرب عصب الرزق للشعب الفلسطيني، ويقوض صموده، ويجبره على الصراخ مطالباً بعودة التنسيقات، كي تعود له مقومات الحياة، وقد تحقق ذلك للسلطة التي عادت إلى كافة أشكال التنسيقات، بذريعة تسلم أموال المقاصة.

تكبيل معصم الشعب

المصيبة السياسية لا تكمن في تراجع السلطة الفلسطينية عن تعليق كافة أشكال التنسيق دون تحقيق أي مكسب سياسي من الإسرائيليين، ودون تحقيق أي ربح من إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب، المصيبة كانت في ربط السلطة الفلسطينية المتعمد بين التنسيق الأمني والتنسيق المدني، لقد كبلت السلطة معصم الشعب بالقيود، بحيث صار تسلم أموال المقاصة شرطاً لممارسة التنسيق الأمني، وفي ذلك إجحاف لحقوق الشعب الفلسطيني المدنية، وتبرئة للسلطة من دم التخاذل عن مقاومة الاحتلال، وتحميل للشعب مسؤولية التراجع عن تعليق التنسيقات بحجة عدم الصبر على نصف الراتب، وعدم احتمال توقف التنسيق المدني الذي أمسى مطلباً جماهيرياً. فهل كانت السلطة الفلسطينية غير واعية إلى هذه الدرجة التي لم تميز فيها بين التنسيق الأمني والتنسيق المدني، أم كانت ذكية إلى الحد الذي نجحت في تمرير موجة الغضب الشعبي من مشاريع الضم، دون أن تفقد مكانتها، ودون أن تفلت قبضتها عن عنق المقاومة بأشكالها كافة؟

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    التنسيق الأمني خيانة مبطنة!
    المقاومون للإحتلال ليسوا مخربين!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول ابوالسعيد:

    كلام هام ورد فى المقال .ولكن قياده السلطه ورئيسها يعرفون تماما ما هو الفرق بين التنسيق الامنى والمدنى.

اشترك في قائمتنا البريدية