انتهت الانتخابات البرلمانية النصفية في أمريكا في نهاية العام الماضي، وهي تبشر بثقل نتائجها على وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، فبين أخبار تتوعد بعزله بعد فوز الأغلبية الديمقراطية في الانتخابات النصفية، وأخبار ترجح أن يستقيل الرئيس ترامب قبل إقالته، وفي ظل استقالة أو إقالة وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، كما أن الحكومة الأمريكية دخلت أسبوعها الثالث من الإغلاق الحكومي الجزئي، بكل ما يترتب عليه من أضرار وأعطال، وفي حالة مواجهة بين الجمهوريين والنواب الديمقراطيين في الكونغرس، الرافضين ميزانية بناء الجدار مع المكسيك، كما يريدها الرئيس ترامب، أي ان أمريكا أمام عام حاسم في وضعها الداخلي بين الرئيس والكونغرس الأمريكي.
ليست الأوضاع الداخلية هي السبب الوحيد لما تواجهه أمريكا من أزمات، لأن الأسباب الداخلية تعبر عن أزمات خارجية دولية أخرى، تسبب الرئيس ترامب بها أيضاً، ومنها أسباب استقالة وزير الدفاع الأمريكي ماتيس، في الأيام الأخيرة من العام الماضي، فالاستقالة جاءت في أيام أعياد للشعب الأمريكي، وكان من المفترض تأجيل الاستقالة لأسابيع أو أيام، ولكن ضخامة الصدمة المتبادلة بين الرئيس ترامب ووزير دفاعه ماتيس، كسرت قداسة الأعياد، ووجّه وزير الدفاع الأمريكي المستقيل جيمس ماتيس آخر رسالة منه للقوات المسلحة، قبل أن يترك منصبه، طالبا منها: “دعم الدستور والذود عنه وحماية أسلوب حياتنا”، وقال لهم: “أثبتت وزارتنا أنها تكون في أفضل حالاتها في أشد الأوقات صعوبة، أحفظوا الثقة في بلدنا وقفوا إلى جانب حلفائنا واصمدوا في مواجهة أعدائنا”، ومقرا في الوقت ذاته بوجود بلبلة سياسية في واشنطن.
لقد خرج ماتيس بدون أي نوع من المراسم المعتادة لدى خروج وزير للدفاع من البنتاغون، ولكن الأهم من ذلك وصفه للأوضاع السياسية في العاصمة الأمريكية واشنطن بأنها تمر بحالة بلبلة وعدم استقرار، وفي الأرجح أنه يشير لما تمر به أمريكا الآن وفي الأشهر المقبلة بعد أن يبدأ مجلس النواب مسؤولياته في منتصف الشهر الحالي. من المعلوم أن استقالة ماتيس جاءت بعد اختلافه مع ترامب حول مسائل عسكرية متعلقة بالانتشار العسكري الأمريكي في الخارج، بما فيه التواجد الأمريكي في سوريا وأفغانستان وكوريا الجنوبية، واتخاذ قرارات سياسية فيها بدون مراجعة وموافقة من وزارة الدفاع الأمريكية، يعني أن أمريكا في حالة تنازع تخاصم، وهذا سيؤثر بالتأكيد على مكانتها في العالم، وبالأخص تخلي أمريكا عن حلفائها بصورة مفاجئة وصادمة، كما عبر عن ذلك باستياء مرير الرئيس الفرنسي ماكرون في انتقاده لقرار ترامب الانسحاب من سوريا بدون تنسيق معها باعتبارها حليفا عسكريا لأمريكا في سوريا والعالم.
سياسة ترامب الداخلية والخارجية قد تطيح به أولاً، وستؤثر على مستقبل أمريكا ثانياً
الصحافة الأمريكية لا تتوقف عن انتقاد الرئيس الأمريكي ترامب بطريقة لم تظهر مع رؤساء أمريكيين سابقين، ومنها ما أفادته صحيفة “واشنطن بوست” بأن الرئيس دونالد ترامب أدلى بآلاف التصريحات الكاذبة عام 2018، بمعدل 15 تصريحًا كاذبًا يوميًا، وبحسب الصحيفة، فقد أدلى ترامب بـ1989 تصريحا كاذبا في بداية العام الماضي، إلا أنه ضاعف الرقم ثلاث مرات مع نهاية العام، وذكرت الصحيفة، مستندة إلى استطلاع للرأي أجرته، أن أقل من 3 من بين 10 أمريكيين يصدقون العديد من تصريحاته بشأن قضايا مثل الهجرة، والجدار الحدودي مع المكسيك، والتحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، التي فاز فيها ترامب، فإذا أضيف إلى ذلك سجل الاستقالات والإقالات التي وقعت لأنصاره في البيت الأبيض، من مستشارين ووزراء فإن ذلك يرجح أن ترامب أمام صعوبات بالغة هذا العام.
وبغض النظر عن مستقبل ترامب في الرئاسة الأمريكية، فإن السؤال هو عن دور أمريكا في الخارج، وقد بدا أن مبدأ ترامب “أمريكا أولاً”، أدى لإضعاف دورها في الخارج، وهذا ما فتح الباب للعديد من الدول الطامعة في لعب دور دولي أقوى من ذي قبل، للحلول مكان التواجد الأمريكي، فالرئيس الفرنسي ماكرون طالب بتشكيل جيش أوروبي بدون أمريكا، طالما أن ترامب يريد تحويل دور الجيش الأمريكي في أوروبا وغيرها إلى شركة أمنية تحمي من يدفع له الأجر فقط، وكذلك يتحرك الرئيس الروسي بوتين في العديد من القضايا الدولية بدون الالتفات إلى الموقف الأمريكي، بل يفرض آراءه في العديد من القضايا الدولية، بما يؤثر سلبيا على قرارات ترامب الدولية، ومنها ما يخص التهديد بعودة سباق التسلح النووي والصاروخي، ومنها ما يظهر الرئيس ترامب شخصية فظة، وهو يبرر قراره بالانسحاب من سوريا، بأنه لا يوجد إلا رمال وموت، ولا توجد مصالح لأمريكا في سوريا من وجهة نظره، وهو يخاطب حكومته وجنرالات البنتاغون قبل يومين.
هذا المبدأ الأمريكي القائل بأن “أمريكا أولاً” يستثني الدولة الاسرائيلية، فوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قال بأن قرار سحب قوات بلاده من سوريا لا يؤثر على التزامات واشنطن تجاه إسرائيل، وجاء التصريح الأمريكي بعد ان أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ملاحظاته على قرار الانسحاب، وطالب بأن يكون تدريجياً، وهو ما جعل الرئيس الأمريكي ترامب يوافق على إعادة تقييم خططه بشأن الانسحاب الفوري من سوريا، بطريقة ذكية وبطيئة، ولكن بدون تحديد موعد أربعة أشهر أو غيرها، فالرئيس ترامب رفض هذا التحديد، ولم يلزم نفسه به، وربما لا يتمكن من التزامه إذا فتحت له الأغلبية الديمقراطية بزعامة نانسي بيلوسي في مجلس النواب مشاريع المحاكمة والعزل من الرئاسة قبل الانسحاب، ما سيؤثر على كل القرارات الأمريكية الداخلية والخارجية.
هذه الاحتمالات المرشحة للوقوع في أمريكا هذا العام، وربما في شهره الأول، لا بد أن لها انعكاساتها الخارجية، ولكن تأثيرها الداخلي هو الأكثر تأثيراً على مستقبل امريكا، فالتراجع الأمريكي ليس آنياً وليس في عهد ترامب فقط، فقد اتهمت السياسة الأمريكية الخارجية بالضعف في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما، وبالأخص في متابعة الأزمات العالمية الكبرى في القرم وأوكرانيا وسوريا وكوريا الشمالية وإيران وغيرها، بل إن الرئيس ترامب كان قد اتهم الادارة الأمريكية السابقة بانها هي التي خلقت تنظيم “الدولة” (داعش)، كما انه اتهمها بتوقيع اتفاق غبي مع إيران باسم الاتفاق النووي يوليو/ تموز 2015، وان ذلك الاتفاق منح إيران مساعدات مالية لتمدد نفوذها في المنطقة، في سوريا واليمن ولبنان وغيرها، وانه هو من قام بتصليح ذلك.
أسئلة عديدة عن سياسة ترامب الداخلية والخارجية قد تطيح به أولاً، وستؤثر على مستقبل أمريكا ثانياً، ومنها ما هو انتقاد لأداء أمريكا في الخارج في أعقاب سياسات خاطئة متراكمة، لا يملك ترامب ولا أحد من وزرائه إصلاحها، حتى لو كان وزيرا للخارجية أو الدفاع، إلا بمراجعة الاستراتيجية الأمريكية في الخارج، وبالأخص مع دول العالم الاسلامي، ومن أهمها معالجة أمريكا أخطاءها في الحروب السابقة التي شنتها على أفغانستان عام 2001، وعلى العراق عام 2003، فالقوة العسكرية الأمريكية استعملت ضد العالم الاسلامي بصورة خاطئة وظالمة وغير قانونية، ولا يمكن لأمريكا ان تعالجها بما يقلل المخاطر عليها فقط كما يريد ترامب، وإنما بما يعالج الأخطاء والإضرار التي لحقت بالعالم الإسلامي أولاً، فالدول التي احتلت أراضيها ودمرت انظمتها السياسية وقتلت شعوبها، هي المتضررة أكثر من أمريكا وجيشها وشعبها، والحل ينبغي أن يبدأ بفهم أمريكا للقيم الاجتماعية والحضارية للشعوب الأخرى، قبل أن تنظر إلى قدراتها العسكرية إن كانت قادرة على مواجهة الجيش الأمريكي أم لا، فالقوة العسكرية وحدها لا تأتي لأمريكا بالمصالح، كما أنها لا تستطيع ان تحل بها مشاكلها الداخلية ولا الخارجية أيضاً.
كاتب تركي