قبل عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها كتائب عز الدين القسام – الجناح العسكري لحركة «حماس» في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان لبنان ينتظر بشغف كبير نتائج عملية الحفر في «البلوك رقم 9» في المياه الإقليمية جنوب لبنان، والتي كانت تقودها شركة «توتال إنرجيز» الفرنسية المشغّلة للائتلاف العالميّ المؤلف من «توتال» وشركة النفط الإيطالية العملاقة «إيني» وشركة «قطر للطاقة» وذلك للإعلان عن انضمام «بلاد الأرز» إلى الدول النفطية.
الموعد المرتقب لـ«الحدث الكبير» كان نهاية تشرين الأول/أكتوبر وعلى أبعد تقدير منتصف تشرين الثاني/نوفمبر. وأجواء بيروت كانت كلها تشي بأن معطيات الحفر في بلوك رقم 9 – حقل قانا بدت مشجعة. وكان «الثنائي الشيعي» القوّة السياسية المسيطرة على الجنوب، يُعوِّل على قطف ثمار الحدث النفطي بعد إنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية، والذي فتح الباب لمرحلة تنفيذ التنقيب في الجنوب ولبدء ضخ إسرائيل للغاز المُستخرج من حقل «كاريش»، وهو الاتفاق الذي تولاه الوسيط الأمريكي أموس هوكستين، والذي لم يكن ليحصل في تشرين الأول/أكتوبر 2022 دون موافقة «حزب الله» وضوء أخضر من الراعي الإيراني، المرجع العقائدي الديني والسياسي والعسكري والاجتماعي لـ«الحزب».
كانت شركة «هاليبرتون» Halliburton الأمريكية، المتعهّدة لدى توتال قد بدأت أعمال الحفر في 24 آب/أغسطس الماضي مع وصول منصة الحفر «ترانس أوشن بارنتس» (TRANSOCEAN BARENTS) إلى المياه الإقليمية اللبنانية. وكانت عملية الحفر تسير من دون عقبات تُـذكَر. وتحدثت التقارير مع بداية تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن أنَّ عملية الحفر في قاع البحر ما زالت تحتاج إلى نحو 900 متر للوصول إلى الطبقة المحدّدة ما بين 4500 و4750 متراً. وبنى حينها المعنيون بالملف حساباتهم على أنَّ الكميات المقدّرة في مكمن قانا ستصل إلى 3 تريليونات قدم مكعب، وستشكل قرابة ضعف احتياطيات حقل «كاريش» البالغة 1.75 تريليون قدم مكعب، ما يعني أن كمياته ستكون تجارية وأنه سيكون اكتشافاً قابلاً للتطوير.
آمال محفوفة بالحذر
ما حدا إلى تعليق الآمال على نتائج إيجابية لا يرتبط فقط بما سمعه معنيون لبنانيون بالملف النفطي ومنهم وزير الطاقة وليد فياض من مسؤولي «توتال» من كلام تفاؤلي يُعزِّز وجود مكْمَن محتمل في الرقعة البحرية رقم 9، بل ذهاب الائتلاف النفطي صاحب ترخيص التنقيب في البلوك رقم 9 إلى التقدّم في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر بطلبَيْ اشتراك في دورة التراخيص الثانية للمزايدة على الرقعتين 8 و10 في المياه البحرية اللبنانية، وهو ما اُعتبر حينها أنه يتعدى اتفاقات المحاصصة الداخلية إلى اتفاقات خارجية على أن تكون الرقع الثلاث المحاذية للحدود مع إسرائيل بيد جهة دولية واحدة. وبدا أنَّ هذه الخطوة هي مؤشر لما سيحمله «مكمن قانا» من نتائج مشجعة.
بالطبع كان الخبراء في مجال النفط يحذرون من رفع منسوب التوقعات لغايات الاستثمار السياسي. فحتى لو أصاب المسح الهدف الجيولوجي وتحقّق الاستكشاف الهيدروكربوني، وكانت النتائج الأولية إيجابية، فإن ذلك ليس سوى بداية الطريق لمسيرة قد لا تتكلل في نهايتها بالنجاح، إذ على الائتلاف النفطي أن يقوم بدراسات لتقييم ما إذا كانت البئر المستكشفة تحتوي على مخزون تجاري أم لا. وكان الطاقم السياسي يُمارس الاستكانة إلى حين صدور النتائج لتجنب المفاجآت إنْ خابت التوقعات، كما حصل في البلوك رقم 4 قبالة منطقة البترون في الشمال اللبناني في 2020، يوم جاءت سلبية نتائج عملية الاستكشاف التي قام بها ائتلاف توتال الفرنسية – إيني الإيطالية – نوفاتك الروسية، قبل أن تنسحب الأخيرة بعد حرب أوكرانيا بفعل العقوبات التي فُرضت عليها لتحل محلها شركة «قطر للطاقة» في كانون الثاني/يناير 2023.
مياه بلا غاز
ما لم يكن في الحسبان أن يستفيق العالم في 7 تشرين الأول/أكتوبر على «الزلزال» الذي أحدثته عملية «طوفان الأقصى» في غلاف غزة. في 8 تشرين الأول/أكتوبر، فتح «حزب الله» الجبهة الجنوبية مع إسرائيل كـ»جبهة مساندة وإشغال» للجيش الإسرائيلي في الجبهة الشمالية وذلك تخفيفاً للضغط عن غزة. سرت المخاوف من أن يُؤثّر التصعيد على عملية التنقيب الجارية في البلوك رقم 9. بعد أيام، بدأت الأنباء تتسرَّب عن أن شركة «توتال» أوقفت الحفر على عمق 3900 متر ولم تجد غير الماء، وأن منصة الحفر «ترانس أوشن بارنتس» ستغادر المياه اللبنانية.
تأكد النبأ رسمياً في بيان مشترك لهيئة إدارة قطاع البترول – ووزارة الطاقة والمياه في 19 تشرين الأول/أكتوبر. كان يُفترض أن ينزل الخبر على اللبنانيين كالصاعقة، لكن حرب غزة وفتح جبهة الجنوب خفّفا من وقْع فشل عملية التنقيب، ولم يحل ذلك دون التساؤل عما إذا كانت نتائج الحفر السلبية هي إعلان تقنيّ محض أم إعلان سياسيّ فرضته تطورات الحرب الدائرة في غزة وانخراط «حزب الله» في تلك الحرب.
البيان الرسمي تحدّث عن استكمال أنشطة الحفر في الرقعة رقم 9 في المياه البحرية اللبنانية من قبل المشغِّل شركة «توتال إنرجيز» بانتظار التقرير التقني المفصّل الذي تعدّه الشركة، وأنه على الرغم من عدم حصول اكتشاف لمواد هيدروكاربونية نتيجة لحفر هذه البئر إلا أنَّ البيانات والعيّنات التي تمَّ الاستحصال عليها من داخل البئر ستشكل أملاً جديداً ومعطيات إيجابية لاستمرار عمليات الاستكشاف في البلوك رقم 9 والبلوكات الأخرى، وبالأخص تلك المحيطة ببلوك رقم 9 كما أنها تعطي قوة دفع إضافية للاستكشاف في البحر اللبناني.
نمذجة أدق لحوض قانا
وقالت هيئة إدارة قطاع البترول إن اختيار موقع البئر في حوض قانا غير المستكشف هدف إلى الإجابة عن سؤالين محوريين لمستقبل عمليات الاستكشاف في البحر اللبناني، الأول: تأكيد أو نفي وجود مكامن (Reservoirs) ونوعيتها خاصة في البحر اللبناني، في طبقة جيولوجية لم يتم اكتشاف مكامن فيها في الحوض الشرقي بعد. أما السؤال الثاني، فهو مدى تشابه وامتداد الطبقات الجيولوجية التي تمَّ تسجيل اكتشافات غازية فيها في بحر فلسطين المحتلة بمثيلاتها في البحر اللبناني، وتأكيد أو نفي وجود مكامن غازية (Reservoirs) ونوعيتها.
واعتبرت الهيئة أنه «تمّ من خلال الحفر اختراق الطبقات المستهدفة وتأكيد وجود مكمن بنوعية جيدة يحتوي على الغاز في الطبقة الخاصة بلبنان، وأن اكتشاف هذا المكمن في حوض قانا يوجب إجراء دراسة موسّعة لفهم أعمق يسمح برسم خارطة لهذا النوع من المكامن في حوض قانا وعلى امتداد البلوك رقم 9 والبلوكات المحيطة بهدف تحديد أماكن المكامن التي يمكن أن تحتوي على مواد هيدروكاربونية بكميات تجارية. كما تمَّ تأكيد امتداد الطبقات الجيولوجية التي سُجّلت فيها اكتشافات غازية في بحر فلسطين المحتلة إلى البحر اللبناني، وتمَّ تأكيد وجود مكامن (Reservoirs) بنوعية جيدة جداً والتي احتوت على آثار للغاز في الموقع الذي حُفرت فيه البئر. وسينصب الاهتمام في الأشهر المقبلة، على استعمال البيانات والعيّنات التي تمَّ الاستحصال عليها من داخل البئر من أجل نمذجة أدق لحوض قانا بهدف تحديد الامتداد الجغرافي للمكامن المكتشفة داخله وفي المناطق المحيطة به، ورفع نسبة النجاح لتحقيق اكتشافات غازية مستقبلاً في حوض قانا والمناطق المحيطة والتي تمتد على عدة بلوكات بحرية».
بين التقنيّ
والسياسيّ
لا يمكن الجزم بأن الإعلان عن عدم وجود اكتشاف تجاري في حقل قانا مرده سياسيّ وليس تقنياً كنتائج أولية. في قراءة الخبراء أن موعد انتهاء عملية الحفر كان شارف على الانتهاء، إذ إن وزير الطاقة كان أعلن عند بدء عملية استكشاف «مكمن قانا» في 24 آب/أغسطس أنَّ نتائج الحفر ستظهر بعد 67 يوماً، كما أنه كان معلوماً أنَّ منصة الحفر ستغادر إلى قبرص في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر بغض النظر عن النتائج.
إلا أنه في القراءة السياسية، تبقى التساؤلات مشروعة. فبحسب لصيقين بـ«حزب الله»، فإن شركة «هاليبرتون» الأمريكية أوقفت بعد عملية «طوفان الأقصى» عملها في إسرائيل وغادرت موقعها، وأنَّ النتيجة السلبية لعملية الاستكشاف في بلوك رقم 9 هي نتاج رد الفعل المفاجئ على دخول «حزب الله» في عملية «طوفان الأقصى» والتي جاءت قبل أيام قليلة من الموعد المقرر لإعلان نتيجة الحفر. فعملية «طوفان الأقصى» ألقت بثقلها على كل الحوض الشرقي للمتوسط. وبالتالي، سيكون أي استكمال لملف الغاز والنفط مربوطاً بالتفاهمات السياسية التي سترسو عليها لحظة انتهاء الحرب في غزة وفي الجنوب اللبناني. فالقاعدة التي على أساسها سيتم وقف الحرب في الجنوب هي التي ستحكم ما سيليها من خطوات، وأي طروحات لتوافقات قبل انتهاء هذه الحرب ستكون بلا معنى، وإن كان المخرَج الذي يتمّ الحديث عنه، في ما خص هذا الملف، هو تلازم التنقيب في البلوكات الجنوبية دفعة واحدة.
في الصورة الأوسع، يذهب هؤلاء اللصيقون بـ«حزب الله» إلى اعتبار أنَّ المضمون الاقتصادي موجود في قلب الحرب على غزة، من حقل «غزة مارين» الواقع قبالة شواطئ القطاع، إلى المشروع الإسرائيلي الخاص ببناء «قناة بن غوريون» الموازية لقناة السويس، مروراً بإطلاق الممر الاقتصادي الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي، وما يُشكّله من ضرب لمشروع «الحزام والطريق»، وصولاً إلى ثروة لبنان النفطية البحرية. وسيكشف المستقبل الآتي ما إذا كانت الدوافع الاقتصادية هي المحرِّك لهذه الحرب أم انها جاءت لتؤسّس لمرور المشاريع الكبرى على هذه الضفة أو تلك.
الربط المحكم
الكلام عن ربط محكم بين جبهة الجنوب وحرب غزة لا يزال سارياً. وما تشي به تطورات الأمور أنَّ أياماً صعبة وحاسمة آتية بانتظار البحث عن مخارج لكل هذا المشهد المعقد، والذي أصبح لبنان مربوطاً به، ولا سيما مع ارتفاع منسوب التهديدات الإسرائيلية لـ«حزب الله» وتصاعد التوتر في البحر الأحمر بعد الضربة العسكرية على مواقع لجماعة «الحوثي» في اليمن التي نفذتها بعض دول تحالف «حارس الازدهار» لحماية ممرات الملاحة الدولية، واستمرار استهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا من قبل أذرع إيران العسكرية.
ومن الاستحالة رؤية مستقبل الوضع في لبنان بمعزل عن الترتيبات الكبرى التي يُراهن «حزب الله» على أن تتجاوز عنوان القرار 1701، الذي يهمّ إسرائيل والغرب، إلى تحديد موقع لبنان في واقع المنطقة في المرحلة المقبلة، بما يجعل البحث عن ترتيب الحدود البرية مع إسرائيل أو الثروة النفطية البحرية أو تنفيذ الـ1701 أو رئاسة الجمهورية حزمة واحدة تفتح الآفاق لما بعد نهاية الحرب.
على أي حال، لن ترتسم معالم المشهد المقبل قبل أن تتبلور موازين القوى التي ستترتب على هذه الحرب وما إذا كان هناك من مسارات سياسية طويلة المدى أو هدن أو تعايش مصالح بين الكبار. هكذا مستوى من النزاع ينتهي بحلول تكتيكية، أو بحلول كبرى، أو بـ«ربط نزاع» أو برسم قواعد اشتباك جديدة.