مستقبل الثقافة السياسية في فرنسا

في العام 1938، أصدر طه حسين كتاب مستقبل الثقافة في مصر، ذلك المصنف الذي سيكتب له، على صغر حجمه، نجاحا واسع الانتشار لبسطه أرضية خصبة للنقاش والتداول سوف تنحت معالم مستقبل الحياة الفكرية العربية عموما.
لنعترف بالحقيقة: لقد طوت فرنسا صفحات أساسية من ثقافتها السياسية. فقد دخلت زمنا جديدا كانت ستدخله حتماً حتى ولو لم يعجل بالأمور حل البرلمان الذي قرره الرئيس إيمانويل ماكرون.
لقد ظلت قناعتي راسخة بأن القرار الرئاسي كان صالحا بل صائبا. لا أتوقع وصول التجمع الوطني يوما إلى رئاسة الوزراء ولا إلى الحكومة في فرنسا، لأن ثمة لحظات تتزعزع فيها القناعات الهشة وتتعثر فيها الحسابات المبنية على أوهام بما لا يترك مجالا للتململ. قد يسمي البعض ذلك قدرا…قد يسميه البعض الآخر منطقا.
لكن حذار، فعندما أتحدث عن انسحاب التململ وابتعادنا عن المجهول لا أعني إفلاتا من مطبات وعثرات قادمة في الطريق. فهي كثيرة. ما أعنيه أن الهوية الفرنسية لم تقبل التشويه: فهوية التمسك بمبادئ الجمهورية وفي مقدمتها العدالة والمساواة هي التي نجت وقد باتت أكثر من أي وقت مضى أم المعارك. وقد يقول قائل إن الهوية الفرنسية لم تنج إلا نسبيا. فالتجمع الوطني لا يزال يتصدر قائمة الأحزاب الفرنسية بمفهوم الحزب كمنظومة إيديولوجية وتوجه عقائدي، لكن قدوما حتميا لتحالفات في طور الترسخ بات أمرا سيؤثر عضويا على اتجاهات ناخبين سئموا من توجهات الأحزاب التقليدية.

هوية التمسك بمبادئ الجمهورية وفي مقدمتها العدالة والمساواة هي التي نجت وقد باتت أكثر من أي وقت مضى أم المعارك

وهنا نقطة الارتكاز. فزمن التحالفات هو ذات الزمن السياسي الجديد على فرنسا الذي لا يمكنها الإفلات منه. إن الحياة السياسية الفرنسية حاليا في مخاض. وحديث عن «مخاض» أنسب من حديث عن «موعد مع التاريخ» كما يرى البعض، إذ لن يحل هذا الموعد طالما لا تبرز جمعية وطنية فرنسية تعلمت كيف تسير مجموعات سياسية تبني توجهاتها على محاور تحددها يومية المواطن كالقدرة الشرائية والخدمات العمومية والمدرسة والصحة وحماية المستضعفين اجتماعيا عن طريق الوقاية التي هي خير من العلاج. وبهذا المعنى فالتاريخ هو الذي ضرب موعدا مع الأحزاب التقليدية، تلك الأحزاب التي لم تعد سوى «شرنقات» تحالفات وحدها قادرة على الصمود مستقبلا ككيانات سياسية تكتب لها الاستمرارية.
إن فرنسا جديدة في مخاض لأننا بتنا مجبرين على تجاوز قواعد اللعبة السياسية التي اعتدناها، وفي مقدمتها تحويل «تطبيق البرامج» إلى تحد جديد يمكن صياغته كما يلي: «ترجمة إلى مشاريع قابلة للتطبيق أفكارا مجددة تحتمها رهانات مجتمع فرنسي حديث يتحرك ضمن منظومة اقتصادات مترابطة كسابع قوة صناعية عالمية». وهنا أيضا يجب أن ننتبه إلى البعد المعنوي لمصطلح «مشروع» الذي أصبح مفهوما يجب تجريده من منطوقه التسويقي المعتاد الذي طالما روجت له الأحزاب. فقد بات تعبير «مشروع مجتمع» تعبيرا متجاوزا، فالمجتمع هو الذي أصبح المشروع.
بعبارة أخرى، لم يعد ممكنا للأحزاب أن تكون هي من توجه الاختيارات السياسية وإنما المصلحة العامة المتجسدة في تحالفات تولد من رحم الاقتراع النسبي المعتمد في غالبية البلدان الأوروبية، حيث تتحول سلطات الرئيس ورئيس الوزراء من تنفيذية إلى تنفيذية نسبية بعد حصول إجماع داخل التحالفات على التصويت لمشاريع قوانين.
لا ينبغي لنا أن ننسى أن إقامة تحالفات تهدف إلى درء مخاطر تهدد استقرار السلم الاجتماعي داخل الجمهورية خيار سبقت لفرنسا وأن اعتمدته في تاريخها. يمكن أن نذكر مثال «الكتلة الوطنية» خلال ولاية جورج كليمانصو، والتي كانت تستهدف من جهة استرضاء اليمين المتذمر من خفض سقف إجراءات الردع على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ومن جهة أخرى درء التيارات المتعاطفة مع المد البولشيفي المتصاعد. عندها، اخترعت فرنسا اعتمادها لنظام الاقتراع النسبي (بترجيح لفائدة الأكثرية) ولم تعاود استخدامه إلا سنة 1985.
بات إذن استصدار «ثقافة الوفاق» إلى المعترك السياسي الفرنسي عبر الآليات الدستورية الملائمة أمرا حتميا لا يفرضه مجرد صعود التيارات المتطرفة بل يحتمه منطق المجتمعات السياسية التي تشترط حلول السلم الاجتماعي بتغيير مقاربة تمثيل الناخبين في الجمعية الوطنية.

باحث وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد اليعقابي:

    مبادئ التجمع الوطني RN صبغت كل اليمين السياسي، من ماكرون إلى زمور، والذي ما فتئ ينزِّلها كقوانين معادية للأجانب عامة وللمسلمين خاصة. حتى أني أتساءل لماذا لا يشترك كل هؤلاء في تحالف سياسي واحد. ما دام أن اليمين “المعتدل” صار على النهج الأيديولوجي لأقصى اليمين، بينهما ألغى هذا الأخير من برنامجه كل ما يخالف الأيديولوجية الاقتصادية السائدة. شخصيا لا أرى تنافرا في حكومة ترأسها مارين لوبين ويكون فيها دارمانان (أو حتى إمانول فالس “الاشتراكي”) وزيرا للداخلية، وأطال وزيرا للتعليم، ولوك فيري وزيرا للثقافة، وزمور وزيرا للخارجية….

اشترك في قائمتنا البريدية