الناصرة ـ «القدس العربي»: مسجد الجزار في عكا داخل أراضي 48 واحد من المساجد التاريخية والجميلة في فلسطين بناه من يحمل اسمه أحمد باشا الجزار قبل نحو 250 عاما، وبات الرمز التاريخي الأبرز للمدينة المغرقة في القدم وهو مبني على نسق مساجد اسطنبول. من أبرز المعالم الأثرية في عكا التي اعتبرتها منظمة اليونسكو مدينة تراث إضافة إلى السور قلعة المدينة العثمانية ومسجد الجزار (من سنة 1781) وهو من أروع مظاهر الفن الإسلامي وأكبر مسجد في فلسطين المحتلة عام 48، حيث بني على نسق المسجد الأزرق في اسطنبول وكنيسة القديس جوارجيوس، ويرجع تاريخها إلى عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني عام 1597 والحمامات التركية وبرج الساعة الذي بني سنة 1900 بمناسبة مرور 25 عاما على اعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني العرش، ناهيك عن الأسواق وقناطر المياه والمقامات والخانات التي تحمل إرثا حضاريا زاخرا.
وجاء اسم مسجد الجزار من اسم بانيه أحمد باشا الجزار، والي صيدا في نهاية القرن الثامن عشر الذي اتخذ من عكا عاصمة له ومارس حكما مستقلا غير معلن عن الدولة العثمانية في مناطق من لبنان وسوريا وفلسطين. وكان يطلق على مسجد الجزار أصلاً اسم مسجد الأنوار، كما أنه بات معروفًا بجامع الباشا. وبالإضافة إلى هذه الأسماء يطلق على مسجد الجزار اسم المسجد الأبيض نظرًا لقبته الفضية البيضاء التي تم دهنها منذ عقود باللون الأخضر. تمّ إعمار المسجد المهيمن على مشهدية مدينة عكا على الطريقة العثمانية، حيث أنه يدمج العناصر البيزنطية والفارسية، كما صُنعت بعض أعمدته من مستلزمات البناء التي أخِذت من حطام تعود إلى مدينة قيسارية وعتليت الأثريتيين. الجزار الذي اكتسب لقبه بسبب شدة بأسه أصله من ألبانيا وقد ذاع صيته بعدما صمدت عكا في الحصار المفروض عليها من قبل نابليون بونابرت بفضل تحصينه لها، وقد دفن في باحة مسجده بعد وفاته في 1804 وإلى جانبه دفن أيضا حليفه سليمان باشا.
عند دخول الزائر هذا المعلم الأثري الرائع والتجول في أروقته يكاد أن يمسك التاريخ بأصابعه ويتمتع بجماله وعظمته وتنبعث في نفسه مشاعر الأمل والطمأنينة والاندهاش وهو مقابل صرح عمراني ديني حضاري وطني من التاريخ الفلسطيني العريق.
قبة خضراء
تبلغ مساحة المسجد التاريخي حوالي أربعة دونمات، مدخله الرئيس من جهة الشمال على شكل بوابة حجرية متقنة البناء وما أن يصعد الزائر عدة درجات حتى يجد نفسه داخل ساحة كبرى بعضها مبلط، مزدانة بأشجار السرو والنخيل العتيق وفي مركزها بئر ماء ومزولة من الجهة الغربية، حيث دفن فيها أحمد باشا الجزار، وبجانبه خليفته سليمان باشا الذي مات سنة 1819م. يحتوي المسجد على أربعة أروقة جانبية، وواجهة من سبع نوافذ، وفوق كل نافذة لوحة من الرخام الأبيض مكتوب عليها آيات قرآنية وعبارات دينية. وتمتاز الكتابات فوق هذه النوافذ بألوان مختلفة يغلب عليها اللون الأزرق. وفي داخل المسجد تزدان الجدران بجداريات ملونّة بالبني، وتكسو أرضيته ألواح رخامية متعدّدة الأشكال والألوان، كما أن المسجد مفروش بالسجاد الفارسي المدهش في أناقته وجماليته وفخامته. كذلك يحتوي المسجد على بابين، أحدهما يدخل منه المصلون إلى قاعة الصلاة، والباب الآخر يصل إلى المئذنة، كما يضمّ المجسد «سدّة»، وهي عبارة عن مكان واسع لصلاة النساء. ويمتاز المسجد بوجود قبة خضراء نصف دائرية يبلغ قطرها نحو عشرة أمتار، ويكسو القبة ألواح من الرصاص لمنع تسرّب الرطوبة إلى داخل المسجد.
طلاب العلم
علاوة على سعته الكبيرة يمتاز المسجد الجزار بقبته المرتفعة رغم عدم توفر الإسمنت المسلح في تلك الأيام وتزدان نوافذه ومداخله بتصاميم فنية فريدة. ويعتبر الجزار أهم مساجد عكا بضخامته، وعلوه وجمال قبته الخضراء وهو يبدو حارسا على المدينة وهويتها، وفيه تقام خطبة الجمعة المركزية في المدينة. ويشير الباحث في التراث نظير شمالي لـ «القدس العربي» إلى أن الغرف المحيطة بالمسجد استخدمت مأوى لطلاب العلم ممن درسوا في مدرسة الأحمدية حتى 1948 وهي مدرسة مهمة خرجت أجيالا من المثقفين الفلسطينيين.
أسعد الشقيري شمالي يدأب على الصلاة فيه منذ 45 سنة يوضح أن مسجد الجزار يستمد عظمته أيضا من وجود عدة شعرات من ذقن الرسول كان السلطان عبد الحميد الثاني قد أهداها للشيخ أسعد الشقيري، عضو مجلس «المبعوثان» العثماني ووالد الرئيس الراحل لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري، وهي محفوظة في صندوق زجاجي. منبها إلى أن ملابسات بنائه والأحداث المرتبطة به كالاحتفاظ بـ«شعرات النبي الكريم» تحفظ للمدينة عمقها العربي- الإسلامي وتحميها من محاولات العبث بتاريخها وهويتها اليوم.
كما في بقية المساجد تم تأريخ عملية بناء مسجد الجزار بأبيات شعرية محفورة على لوحة رخامية في واجهته:
«ومسجد حرم وبيت آمن… فيه الوقار ولاحت الأنوار
عمد الوزير مرصدا لبنائه.. عملا بقول المصطفى المختار»
فك ألغاز القصيدة
كذلك، في أعلى مدخل المسجد المتميز بكثرة الزخرف والأعمال الفنية فيه قصيدة منقوشة بالرخام الأزرق طالما احتار الأهالي بمعناها وهوية كاتبها، مناسبتها وهدفها منهم مصطفى قطيط ابن عكا الذي نجح بعد سنوات من الجد بفك لغزها. وتتكون القصيدة المنحوتة بالصخر في واجهة المسجد من ستة أبيات:
«باكرْ إذا ما ضفت ألطفَ جامعٍ… جمعَ البها وإلى غرائبهِ اغتربْ
واسألْ إلهكَ أن يديمَ وجودَ منْ… قدْ شادهُ في كلِّ وقتٍ يستجبْ
ذاكَ الوزيرُ الشهمُ أحمدُ منْ غدا… جزارَ أعناقِ العداةِ كما يجبْ
فاعكفْ لذكرِ اللهِ في روضاتهِ…. واعملْ لوجهِ اللهِ فيهِ محتسبْ
واملأْ صحائفَ منْ أقامَ أساسهُ…. دوماً بفاتحةِ الكتابِ ولا تغبْ
وإذا مررتَ بهِ تجدْ تاريخهُ…. فاعبدْ لربكَ جاءَ «واسجدْ واقتربْ»
ويشير قطيط أنه طالما أثارت فضول أهالي عكا واستوقفتهم هذه القصيدة لقرائتها كاملة وفهمها ولكن دون جدوى حتى باتت تعرف عندهم بـ«الطلاسم المنحوتة».
قطيط الذي يكتب الشعر أوضح لـ«القدس العربي» أنه تلقى سيلا من الأسئلة والملاحظات حول القصيدة التي لم تكن واضحة بسبب تآكل الرخام مع الأيام واجتهد بنقلها ونشرها بالشبكة طالبا المساعدة. ولم يتمكن أحد من مساعدته حتى بلغته مكالمة هاتفية مفاجئة من أحد أصدقائه بالفيسبوك، إياس الريماوي المقيم حاليا في الرياض وأصوله من عكا. ويقول إن شعورا لا يوصف قد رواده بعدما حل له لغز القصيدة ويشبهها بألف قطعة مبعثرة أعاد الريماوي ترتيبها لوحة جميلة بلحظة واحدة.
وصية الأب
ويوضح قطيط أن القصيدة عبارة عن خطاب توصية بين شخصين مجهولين يوصي بها المخاطِبُ المخاطَبَ بأن يعجل غدا لمسجد الجزار في الصباح الباكر لسبب غامض. وأوضح الريماوي في مكالمته أن صاحب القصيدة قاضي في المسجد، الشيخ الفقيه يوسف بن أحمد الريماوي الهاشمي وقد كتبها مخاطبا ابنه الشيخ الفقيه أحمد يوما قبّيل وراثته منصب القضاء منه. وينقل قطيط عن الريماوي قوله إن القصيدة تهدف حث الأب لإبنه على التبكير لمسجد الجزار، كي يستلم المنصب ويباشر القضاء بين الناس ومن ثم الدعاء لمن بناه. وبعدها تنتقل القصيدة لذكر مناقب الجزار وتنتهي بالحثّ على الإخلاص بالعمل، والشكر لله بالعبادة من صلاة وسجود وهي تقول إن القضاة يخافون الله، ويعلمون أنها أمانة غالية. ويستذكر قطيط أن جامع الجزار في حينها كان دار القضاء لكل فلسطين وتبادل قاضيها القضاء مع إمام الجامع الأموي في دمشق لثلاثة أشهر. ويتمنى قطيط أن يعيد الله مسجد الجزار مركزا للفقهاء الذين يحكمون بين الناس بالقرآن والسنة ويتابع «أسعدني جدا اتصاله قبل سنوات، وتشرفت بأن أتحدث معه، فقد أبهرتني غزارة معلوماته التاريخية عن مدينة عكا لا أظنّ أن هناك شخصاً في عكا يعلمها، ولا كتاباً عنها حواها».
رسالة تربوية
ومن ناحية المضمون يوضح الشاعر جريس دبيات من بلدة قانا الجليل لـ«القدس العربي» أنه كان على العاملين في اللغة العربيّة والتاريخ الإسلامي أخذ الأمر بجدّيّة منذ زمن بعيد بسبب أهمية مسجد الجزار ومكانته التاريخيّة والدينيّة والثقافيّة. ويتابع «إن ساءني إهمال السنين فقد سرّني هذا العمل الذي فك اللغز الشعري فهي قصيدة جميلة ذات أبعاد دينيّة وأخلاقيّة ورسالة تربويّة وكشف سرها وتبيان قيمتها الأدبية مهم لتراثنا ووجودنا».
مئذة
الجزار في خطر
في المقابل يتعرّض مسجد الجزار لخطر التصدع بسبب التقادم منذ سنوات فقد زادت وبانت شقوق فيه وفي مئذنته التي باتت تهدد سلامة رواده خاصة أنها تميل سنويا للجانب. وعلى هذه الخلفية ما زالت لجنة الأمناء برئاسة سليم النجمي والدكتور حسام طافش ومازن حبوش تدعو الأهالي للعمل من أجل المواظبة على ترميم المئذنة وصيانتها. وتحذر لجنة الأمناء في عكا من ان انهيار المئذنة قد يؤدي حسب تقييم المختصين إلى انهيار برج المسجد والذي يشكل سقوطه خطرا على حياة الزوار الوافدين لسوق عكا الواقع بجوار المسجد. ويوضح سليم النجمي (أبو عدنان) لـ«القدس العربي» أن التصدّعات لحقت بكل المسجد، جدرانه وأروقته خاصة في المئذنة بعد حريق تعرض له في 2016، منوها لوجود أضرار متراكمة منذ عقود نتيجة الإهمال والتقادم. وكشف النجمي أن مهندسين متطوعين من الداخل اكتشفوا أن المئذنة تتعرض منذ سنوات لانحراف بمعدل سم واحد كل عام باتجاه الشرق الجنوبي. وتابع «في الفحص الأخير تبين أن المئذنة قد انحرفت بنحو 16 سم مما يعني وجود خطر حقيقي بانهيارها». ويطالب النجمي وزارات الداخلية والأديان والسياحة الإسرائيلية بالكف عن تقديم وعود فارغة بترميم المسجد، مشددا على أن ذلك حق أساسي للعرب والمسلمين في عكا خاصة أن السلطات الإسرائيلية تستولي على مئات الدونمات وعشرات العمارات الوقفية في المدينة مثل خان العمدان وخان شوردا والسوق الأبيض والسوق العتم وسوق العمومي وسوق الشونة وعمارة الخان، وأراض تمتد على مئات الدونمات التي سرقت بذريعة «قانون أملاك الغائبين» وتستثمرها لتحقيق أهداف متنوعة من دون تعويض أصحابها بفلس واحد.
مبني اما عن الطريقة العثمانية او الطريقة المغربية .