مسرحية الوزير: واقع مرير في عباءة السخرية

لم أتعود في حياتي أن أقرأ الكـتاب مرتين، ما عدا ثلاثة كتب، موزعة بين ثلاث مراحل: ديوان الشاعر المغربي الراحل محمد الحلوي «أنغام وأصداء» في طفولتي، ، لأنه يشكل امتدادا لدواوين فطاحل الشعر العربي القديم… ومسرحية «المفــتــش العام» في شبابي، للكاتب الروسي نيقولاي غوغول، الذي خرجت القصة من (معطفه) مثلما يستـشهد به في تـقـنية الكتابة الروائية والقصصية. والكتاب الثالث في شيخوختي، يحتضن بين دفـتيه مسرحية موسومة بـ«الوزير» للكاتب والشاعر التونسي نور الدين عزيزة.. وكــلــتـا الـمسرحـيـتـيـن ـ الـروسيـة والـتـونسيـة ـ تــرصدان الـواقـع بتـفاصيل دقيقة، ولغة فصيحة بسيطة، تــدنو من (اللغة الثالثة) التي تـتوسط الــفــصحى والــدارجة، أي كل منهما كــتــبــت بلغة محاكية للـواقع، تـفهمـها وتعيها فــئات الــمجــتــمع الــمخــتــلــفة بـسهولة، مهما تــنوعــت مستوياتها اللغوية والثقافية والاجتماعية.. ولم تخص فئة دون أخرى، ما يجعلني أدرجها في مجال (اشتراكية اللغة) إذا جاز لي أن أستغل هذا المصطلح. فضلا عن القضايا التي تباشرها المسرحيتان في مفارقة السخرية، فـتـشد المتـلقي وتغريه بقراءتهما أكثر من مرة، لأنهما تـنتـقيان برؤية فاحصة أوضاعا متردية، وحالات بائسة، وآمالا كبارا وأحلاما مستحيلة، تــسري في جسد المجتمع الهش، سواء الروسي في العهد الـقـيصري الغابر، أو العربي في العصر الحاضر.
والخاصية الأهــم في المسرحيتين، هي قابليتهما للقراءة والتمثيل في الوقت نفسه، لما يــتــسمان به من مواقف هزلية، وحوارات ومراوغات ومتناقضات ومفاجآت، تنفخ روحا وثابة في العرض الــتـــشخـيــصي على الــركــح، وتــبعــث على الاستــغــراب والانــدهــاش والانبهار واللامعقول، وغيرها من الحالات التي تخلــق بمجـمـلـها شخصيات إشكالية..كل ذلك، يجري في أجواء مرحة من السخرية والاستهزاء والتهكم، والـتـضاد والـتـناقـض الـصارخـيـن.. أجـواء مــبــطــنة بــدقــة الــمــلاحــظة، والتساؤل الذكي، والنقد اللاذع.
ومسرحية «الوزير» كـتـبت سنة 1986 لكنها لم تبصر النور إلا عام 2017، وهنا يــثــار السؤال عن العوامل الموضوعية التي جعلتها تتأخر عن الطبع أو التمثيل واحدا وثلاثين عاما؟ فالكاتب يشير في التمهـيد الذي تصدرها، إلى (أن الفرصة لم تــتح) لــنـصها أن يــمسرح، رغم الأيــدي (التي خشيت، في ما يبدو، من تبعاته) والبعض تحجج بأن الدعم لم يكن كافيا، عـلـما بأن المؤلف كان موظفا (سابقا) في المؤسسة أو الجهة الداعمة، لكن الكاتب يفصل حسما وجزما في هذه المسألة بقوله، ما من شك في أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن شيطانا ما كان في المنعطف، وهذا التأخير في إصدار المسرحية، أو عرضها على خشبة المسرح، دليل على (يــد ما) كانت تطال الأدب والفكر والثقافة والفن، ولولا تطور الظروف، وانـفـراجها النسبي، لما خرجت المسرحية من عــنــق الــزجاجة، ولما تنفست أعمال أدبية سواها هواء نــقــيــا منعشا، كانت لعقود طويلة مركونة على الرفوف، صحبة الأرضة، ومنها الرواية الرائعة «اللص» للكاتب توفيق بن بريك. والــمسرحــية مــكـــونة من أربعــة فــصــول، عــــنـــونها كـاتــبها بــ(مـواقــــف) أساسية، وشخصيتها المحــورية (الحاجب حـمــدون) الشهير بـ(أحمد الملهوف) يشتغل (صباحا) حاجبا في المحكمة، و(مساء) مكــيــسا في حمام الحي العمومي، علّ وعسى أن
يوفــر من العملين الشاقــيــن لقمة العيش لأسرته.. فـبـ(فــضل) تــزويــر شهــادتي الــمــيلاد والــدراسة، وبــمــشــقــة الــنــفــس المتحايلة، أحرز وظــيفــة (حاجـب) وأمضى عــشــريــن عــاما في المحكمة، دون أن يشعر به رؤساؤها وقضاتها، متـنـقلا بين دواليبها بحرية مطلقة، وثــقة بقــدراته، معـلـلا كــل ذلك بأنه إنسان، من حقه هــو الآخر تــطــبــيــق (شريعة الغاب التي جــبــل عــليها) وأن ما يــدعى من ((تحــقــيــق لــمعجــزات)) في كل المجالات، ليس إلا ألعوبة يـتــلهى بها الســذج من الــدهــماء، بل إن الإنسان بإنجــازاتــه العظيمة جعلته يزداد وحشية.

نور الدين عزيزة

لـقـد ظل (الحاجب حمدون) ملتزما ووفيا لـ(أخلاقيات المهنة) كيلا تـكـتـشف حقيقته بتزوير الشهادتين، فكان يتفادى أي خطأ يقترفه، كأن يتغيب يوما واحدا عن جلسات المحاكمات، أو يتجهــم غاضبا في وجوه المتـقاضين، أو يقصر في خدماته اليومية، أو تصدر عـنه حركة غير مناسبة، أو ينبس بكلمة غير لائقة. وبتعبير جلي، كان يبدو لكل من يلتقونه رأسا كبيرا، مــتــقــدا بأوار الحكمة والأمثولة والتجربة والاستقامة، وإن لم يجن من عمله الـمـنهـك المضني، سواء في قصر العدالة أو في الحمام، غير آلام الركبة، والسعال الحاد، وإدمانه على السهر والــتــدخين، تـنـفـيسا عن معاناته النفسية القاسية، حتى تدهورت صحته، ولم تــنــفعه في علاجه المحاولات العـبثية لـ(الراقــية عــائـــشة) التي تمارس الـدجـل والشعوذة على البسطاء من بني جنسه.. لكن، في اليوم الذي قرر فــيه، ولأول مرة، أن يـتـغـيـب عن العمل، سيتوصل بـ(برقـية) مجهولة، تـفـيد بتعـيـيـنه (وزيرا).. هكذا دفعة واحدة، فاعتبر، في البداية، الخبر مـزحة سمجة، أو مقــلبا خبيثا، يعرضه للسخرية، لأن تراكم الهموم، وثــقــلها عليه، جعلـه يائسا متـشائما، يــدرك بما لا يــدعــو إلى الـريبة، أنه مجــرد رمــية نـرد عــدمــيــة بــيــد واقعه الــقــذر، خلافا لزوجته حليمة، المفعمة بالأمل والمتـفائلة، التي بررت ترقـيته بمرور ربع قــرن على عــمله في الــقــضاء، مستـثـنى من الــتــرقـيات، التي حظي بها سائر الــموظـفــيــن.. ألا يـكـافـأ، على الأقــل، بهـذا الـمنصب الرفــيع، وهو الـذي بـقي حاجـبا، دون تـرقـية، منذ أن قـبل في الوظيفة؟ وهنا ستجدها حليمة فرصة مواتية لـتـنـتـقـم من ظلم (القدر) الذي حرمها من أن تحيا مثل النساء الأخريات، فتطلق خيالها إلى عنان السماء، لتصمم مستـقبل أسرتها وبيتها وملابسها، وعلاقاتها بأقاربها وجيرانها. كيف لا، وهي أصبحت، بين عشية وضحاها، زوجة وزيــر؟ ستركن أكياس السكر والشاي والبن في المطبخ، وتغير غــرف البيت وأثاثه، وتشتري ما تشتهي من أحذية وقمصان وسراويل وفساتين عصرية، تمثـل آخر صرعة.. طبعا، لن تــشتريها من سوق الخردوات، كعادتها دائما.. أما ملابسها الحالية، المستعملة البالية، فستحرقها، وتـتخلى عنها، لأنها لــم تــعــد لائقة بزوجة وزير، إنها أقصى ما يحلم به البسطاء، ولو ملكوا كنوز قارون.
كان ذلك (اليوم تاريخيا) في حياة حمدون، وتعيينه (نكـتة القرن) تـلوكها ألسنة الجيران باندهاش شديد تارة، واستخفاف تارة. وسيشهــد بــيــته الصغــير جلبة ولغطا غــير عاديــــيــن، وحضور وفــود من الــزائــريــن، جاؤوا لتهنئته من الأقاصي، ترتسم على وجوههم البشاشة المصطنعة الزائفة، وتلهج ألسنتهم بألفاظ وعبارات التهاني الـمـنـتـقاة من قواميس النفاق والرياء، ولا تسمع منهم إلا (معاني الوزير…) فهـم ما زالــوا، في البداية، لم يــتــعــودوا على نطقها صحيحة.. حاملين الهدايا النفيسة، وباقات الورود، وأطباق الحلويات، منهم رؤساؤه وأقرباؤه وأصدقاؤه، الذين ياما أساؤوا إليه، مثل أخيه من أبـيه (السي الطيب) الذي استحوذ على إرثه، وقطع صلة الرحم معه، منـذ عــقــود، وها هي المناسبة سانحة لتجديد أخوته به.
وأخيرا، يظهــر أن فــكــرة الــتعــيــيــن صدقها حمدون، فــتــمكــنــت من نـفسه، وترسخت في عـقله، وصارت حقيقة ماثلة بين عينيه، يؤمن بها، ولا يستطيع مــنها خلاصا. فـبدأ يــفــكــر في (تــبــيــيــض جــدران مــقــر الوزارة، وصباغة الأبواب والشبابيك، وتجديــد الأثاث.. وتغــيــيــر ما لــديه من سيارات) وهــو لا يملك، حاليا، ولو دراجة هوائية.. ولتوفير فرص الشغل، وتـنشيط الدورة الاقـتصادية، سيوظف في (بيته) عشرين خادما وخادمة، ولن يعود لحليمة ما تشغل نفسها به، إلا التجمّل واللباس والتباهي، والسفر إلى أرقى المدن والدول.
وتستمر المسرحية في تجسيد أحلام الشخصيات، واستقبال برقيات التهاني، إلى أن يتـفاجأ الكل بأن المعـني الحقيقي بالتعيين، هو شخص آخر، يحمل الاسم نفسه (حمدون الحاجب) فــتــنــفـض الوفود من حول أحمد الملهوف وزوجته حليمة، ويعــود الــبــيــت إلى حاله الـبـائــسة…ويـصيــر كل ذلك، مجـرد لحظات ممتعة، قضاها حمدون وأسرته في أحلام خادعة.
نص هذه المسرحية، يكـتـسي صبغة واقعـية في حياكة أحداثه، لأنه يحاكي الواقع الاجتماعي بالشكل الـتـفصيلي، ويحاول أن يتغلغل في عالمه، عبر شخوصه القليلة، وأحداثه البسيطة، وفضائه المكاني، الذي يشكل بنية تحتية، تـشتغل عليها الشخصيتان الرئيسيتان (حمدون وحليمة) لـيـؤثــثا معا مشاهــد الفرجة، التي تخفف من وطأة الواقع.. كما يـفــتح الـنـص أفــقــا فـسيحا للمتلقي (العام) لا يحدد صورته أو شكله، لأن القضية التي يـبسطها، سواء في الكتابة أو العرض، تـتجسد في وضعية المجتمع المألوفة، التي يعيشها الجميع، وليست خاصة ولا مجهولة، كأي حالة أخرى غريبة، في حاجة إلى تفكير وتخيـيـل وتأويل من قـبـل القارئ. وبالتالي، يـيسر النص الفهم والوعي بأبعاد القضية الاجتماعية، ولا يفاجئ المتــلقي، الشيء الذي يجعــله ينسجم تلـقائيا مع (أفــق تـوقـعـه) ويـتـطابـق معه.
وإذا كان من الناحية الواقعية والاجتماعية، ينبغي أن لا يتجاوز الحاجب تراتـبـيـته في الوظيفة، فإن البطل المسرحي، يعي أن قانون الحياة في مجتمعه، لا يخضع للعقل ولا للمنطق، ولا حتى للقانون. ولهذا لجأ إلى التحايل لتأمين عيشه، بل تخطى هذا الواقع، ليحاول تأمين (العــيــش الــرغــيــد) ولو في الخــيال الجامح. فــاســتــعــمــل عــبارات تحــيــل عــلى هــذا الــمعــنى، يــبرر تــوظــيــفــها في تعــلــيــله، بل لــتجــد له عــذرا ومــســوغــا للــتــزوير، عــندما قال عن الشهادتين، إن الآخرين ليسوا أفضل منا لينعموا ببحبوحة العيش، وأن (قانون الغاب) هو السائد، ينبغي أن نستغله، نحن أيضا، إذا كنا نريد أن نحيا كالآخرين..
ومن ثمة، كانت الغاية من النص، هي خلق حالة تناقض وتضاد، أو مفارقة السخرية، التي تـنبني على عنصري (التضخيم والتغليط) في الخيال، مقابل عنصر (الحقيقة والواقع).. هذه المفارقة، يستـشفها المتلقي (العادي) لإثارة الانتباه نحو شريحة اجتماعية مهمشة ومنسية، وكيف يفكر أصحابها في التسلح بالحيل، الوسيلة التي يرونها حلا لمشاكلهـم، فالتفاعل، في هذا النص المسرحي، تلقائي بين النص والمتلقي، لا يفترض لقارئه أي إدراك لـوقع الأحـداث وتسلسلها، ولا للمعاني اللفظية وأبعادها، كما في نصوص أخرى، تـلزمه بإضاءة مناطقها الغامضة، بما يملكه من ترسانة معرفية، وحمولة ثقافية، وذائقة فنية وجمالية. وهو الوجه الآخر لنظرية (أفق الانتظار) في (جمالية التلقي) الـتي فصــل فــيها، بحـثـا ودراسة، الـمـنـظــر الألماني هانس روبــرت يــاوس، في زيارته لمدينة فاس سنة 1994. ولعــل هذه المفارقة في الــواقع، وإن كانت واضحة للقارئ، تــضفي على النص متعة ودهشة، ما جعـل الناقد والروائي أناتول فرانس يقول: (عالم بلا مفارقة يشبه غابة بلا طيور) الطيور التي تملأ فضاءها بـشـقـشقــتها، لـتحدث فيه حركة، وتـبعـث في رواده إحساسا بالوجود والحياة.

كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية