علامة التقييم التي تقترحها نتفليكس للمسلسلات والأفلام، التي تعرضها لا تزيد بحال عن 18 زائد. هذه العلامة جرى منحها لمسلسل (طفل الرنّة) Baby Reindeer الذي أخرجه وكتبه وقام ببطولته الأسكتلندي ريتشارد غادّ. هذه هي العلامة القصوى التي لا ترتفع نتفليكس عنها، حتى في الأعمال الأكثر أهمية في تاريخ السينما، وبينها فيلم «العرّاب» الذي يظل حاضرا على لوائحها. (طفل الرنّة) هو العمل الأول والوحيد لغادّ، وهو مستقى من تجربة شخصية له، ما يرفع أيضا من حصّته الشخصية من المسلسل ذي الحلقات السبع. ولنذكر هنا أن الفيلم أنجز هذا العام 2024، الذي لم نصل إلى منتصفه بعد.
وكل ذلك لتغطية مرحلة واحدة من حياة بطل المسلسل، الذي كُتب في مقدّمته أن أحداثه واقعية. وهي المرحلة الحرجة حيث الحلم الشخصي يفوق بكثير ما يمكن أن يتحقّق بالإمكانات المتاحة للحالم. مسافة هائلة هي تلك التي تفصل بين واقعه وحلمه فهو نادل في مقهى بدوام جزئي، وكوميدي فاشل في ناد ليلي، فيما هو ينتظر الشهرة الآتية التي لا يعرف من أين ستجيء. حال غادّ في ذلك هو حال الكثيرين من منتظري تحقّق الحلم بالصدفة لا بالمثابرة. إنه بطل- نموذج لشريحة واسعة من جيل. لكن المهم في حياته، الآن، أنه وهو في عمله نادلا، أو ساقيا، تدخل زبونة محدثة جلبة حال دخولها من الباب. ضخمة الجسم إلى ما يتعدى أن تكون مجرّد مفرطة السمنة، لتقول إنها لا تملك ثمن أي شيء تطلبه، فاقترح عليها الشاب أن يقدّم لها الشاي مجانا على نفقته. وإذ راحا يتحادثان بعد ذلك قدّمت نفسها على أنها محامية جنائية، بما يخالف كل ما يمثّله مشهدها وكلامها وفقدانها لثمن أي شيء من صورة المحامية الناجحة. ليس إلا العاطفة الجياشة إلى حدّ متفجّر. لكون النادل قدّم لها الشاي بالمجان تعلّقت به إلى حدّ أنه صار يجدها ماثلة له في كل مكان يقصده، حاضرة أمامه بثقلها كله. أما ردّه على ذلك فبالفرار، لكن الفرار المتردّد، إذ كان يشعر نحوها بعاطفة مناقضة تماما للإعجاب. وهذا يطابق شخصيتها الأكثر غرابة والجامعة بين التعلّق اللامتناهي والذكاء غير الطبيعي ممزوجين بالإصرار على أن تحظى بمن تسميه غزالها، بالقوّة. ذاك الكائن العشقي الغريب، هو المحورالمستمر وجوده في حلقات المسلسل رغم ما يمرّ به بطلنا من غراميّات أخرى، أساسية كلها، إلى حدّ أن تكون العلاقة المحورية بالمحامية هي الجانبية.
العلاقة الثانية هي مع كائن، أو كائنة متحولّة جنسيا لا يتوقّف المسلسل عن إظهارها العاقلة الوحيدة في العالم الغريب والقلق الذي يعيشه. هي كائن العالم العادي، المفهوم، حيث هي الملاذ من الجنون المطبق الذي سيتمثّل في شخص ثالث يتعرف عليه البطل بالصدفة، كما يحدث في كل شيء. هو الرجل الذي سينجذب إليه بطلنا لظنّه أنه سيضعه على الدرجات الأولى من سلّم المجد. لكن، مع تكرار اللقاءات بينهما سنكتشف أن ذلك الرجل مغرق في تطرفه الجنسي ولن يتأخر في جعل بطلنا الشاب ضحيّته. ذاك الذي مورست عليه الاعتداءات، وهو مخدّر وغائب عن الوعي غيابا تاما، الطالعة من هلوسات الكوابيس، لا مما يجري فعلا في واقع الحياة.
وينبغي أن لا ننسى أن هناك علاقة حبّ عادية بدأ بها المسلسل تعريفنا بالشاب. علاقة عادية على غرار ما نعرف، والجميلة حسب معايير الجمال المفهومة، والحاضنة لمحبوبها كما ينبغي لعاشقة. لكن المسلسل لم يلبث، منذ أن بدأت أحداثه الأساسية، أن أزاحها إلى الهامش، حيث لا يقصد المسلسل أن يقدّم لمشاهده ما اعتاد أن يشاهده. هكذا نخرج من مشاهدة الحلقات السبع دون الشعور بأن ما كنا فيه قد اختُتم. لا العشق ولا الجنس (الذي حذّرت نتفليكس، بخطّ عريض، من عنفه) بقيا كما عرفناهما. حتى ما يمكن أن يكون إشكاليا في العادة تراجع حضوره وطُوي وبات قليل القابلية ليُقدّم في عمل سينمائي. لكن الأهمّ أن تلك الوقائع التي يظهرها لنا المسلسل تبلغنا بأن العالم، الدائب على التقدّم إلى الأمام، لم يخطُ خطوة واحدة، ولو واسعة، هذه المرّة، بل إنه قلب لنا العالم رأسا على عقب. والأكثر أهمية (أيضا) في ذلك هو شعورنا بأننا نشاهد ما لم يُنتج أو يُصنع لنا، نحن الذين سبق لنا أن عشنا مرات كثيرة التغيرات التي طرأت على الأفكار والأساليب الجديدة. هل ذلك من منتجات الطفرة التي تعمّ المشتغلين بالاهتداء إلى موضوعات تفكير جديدة، أم هي مجريات العالم الذي لم يعد مفهوما لنا؟
كاتب لبناني