كنا جميعًا في طفولتنا نسعَدُ ونحن نقرأ عن تراثنا المجيد وإنجازات علمائنا، وعندما كبُرنا قليلًا صرنا نسمع عن مراكز البحث العلمي الموجودة في ديارنا، وأنها تقوم بأعمالٍ كبيرة لخدمة الأمة وللنهوض بها حتى تساوي غيرها، ومع ذلك كنا نقرأ بيتًا شعريًّا يسخر منا ونردّده دائما: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، فنضحك ضحكًا يشبه البكاء. والأمر نفسه عندما تعلمنا في المدارس قول الشاعر:
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلّا النُّوَّمُ
وهكذا صارت الخلطة العجيبة، من فخر بإنجازٍ تراثيٍّ، جعلنا نظنّ أن العالم كله يتغنّى به، وحصرنا إنجازنا بفكرة كان أبي، وطبعا هذه من طبيعة الانغلاق على نفسك في مساحتك الفكرية الضيقة، فتكبر وتكبر وأنت في زجاجتك مسجون وغيرك في الفضاء منطلق. ومع هذا الفخر واقعٌ مرير، ومظاهر نحاول أن نجعلها ممثِّلة نهضة جديدة وتتمثل هذه المظاهر بالمشاريع العلمية الكبرى.
والغريب في بيئتنا العربية أننا نسمع النقد من مفكرين وسياسيين وأدباء ولغويين، ثم تقول لو تسلّمَ مثل هؤلاء زمام مشروع من المشاريع العلمية كم سيتغير حالنا؟! وتكبر ويكتب لك القدر أن تعمل في مؤسسة علمية يقودها أحد الذين كنت مفتونا بأحاديثهم عن الحرية والفكر والانطلاق والإخلاص والسعي إلى تفجير الطاقات الشابة، وإذ بجلمود صخر يحطُّ على عقلك ووجدانك عندما تجد هذا القدوة واقعًا أو غاطسا إلى ركبتيه وربما كتفيه في الفساد والمحسوبيات، وأن المشروعات العلمية ما هي إلا عبارةٌ عن مجموعة من المنتمين إلى دائرته الذين باعوه ألسنتهم وضمائرهم وكل شيءٍ إنسانيٍّ فيهم، فتقول ربما من قال لنا: ناموا عاش هذه الصدمة فانعدم عنده الأمل بنهضة.
هذا المدير الفاسِد المفسِد يتطابق مع تلك الشخصيات التي رأيناها في المسلسلات والأفلام الكوميدية، حيث يظن الإنسان أنّ المدير مخلِصٌ مخدوع ببطانة السوء التي تمنعه من رؤية الحقيقة، وتزيِّن له الفساد دون معرفةٍ منه؛ وإذ بك تصدم أنّ هذه البطانة هو موجِّهها، وهو واضع خططها، وهو لاعِنُها إن حادَتْ عن طرق الخداع والغش والمكر.
فتتذكر بأسىً صفحات وسطور كلامه ونقده الناطق بالانتماء إلى سلسلة المصلحين المخلصين، تتذكر نقده للدول ولسياستها في الإنفاق على العلم، وتنظر وترى الإمكانات الهائلة التي تيسِّرها بعض الدول لمشاريع فكرية ونهضوية، ثم للأسف تتبعثر هذه الأموال وتضيع في مهبِّ الريح، ويصبح المشروع خاويًا على عروشه، ويظنه الظمآن والمتعطِّش ماءً سينعش الأرض الموات في بيئاتنا، ولكن عندما تنكشف شمس الربيع ويذوب ثلج الوهم، يُصدَم جميعنا بالمارد العلمي الذي كان من ورق بل كان من لاشيء، فقط من أصواتٍ تُعليه وترفع من شأنه وما هو إلا سرابٌ بقيعة.
إنّ هذه الصورة السوداوية ليست مجرد فكرة خاصة أو نتيجة صدمةٍ أُحادية بل هي واقع معيش، وصدمةٌ جَمْعِيّة، واسألِ العاملين في مؤسساتٍ تتبنّى مشاريع كبرى في كافة المجالات، وستجد أنّ الجو مملوء بالتشاحن والتباغض، لا شكّ أنّ هذه المشاعر موجودةٌ في كل مجتمع إنسانيٍّ يتنافس فيه ذوو اختصاصٍ واحد، ولكنّ الفارق أنّ المجتمعات المتطورة لا تدّعي إنجازًا لم تنفِّذه ولا تدّعي تفوُّقًا لم تُحرزه. مشكلة مشاريعنا العلمية أنها تجعل من النملة فيًلا وربما تُطيِّره أيضًا، والدليل أنك تسمع بمشاريع كبرى وترى القائمين عليها تجمعهم كلمة نحن أوّل من قام بهذا الإنجاز في الوطن العربي، ولا يُسمح للمتقنين في المجال الذي يدعون الإنجاز فيه، أن يتكلموا وأن يُدلوا بدلوهم، بل يجمعون حولهم مجموعةً من ذوي الألقاب والوجوه العلمية المعروفة القابلة للتسلُّع، فيكونون الدِّرعَ الذي يمنع سهام الحقيقة من الوصول إلى قلب الباطل فتدمغه، ومع هؤلاء لا بدّ من غلافٍ إعلاميٍّ يُضخِّم ويكبّر المنجز الفنكوشي، من خلال عبارات المديح واللقاءات التي تتغزل بالمنجَز الفنكوشي.
وإذا حاولت نقدهم ووصل صوتك إليهم، فإن لم يستطيعوا أن يصلوا إليك بإنشاب أظافرهم في سمعتك وخُلُقِك، فإنهم يحاولون التلاعب على الناس بتفريغ مضمون نقدك، بالاستدلال بقصصٍ واهية، كأن يستشهدون بالقصة الآتية: دخل مرةً رجل على أناسٍ يقرأون صحيح البخاري للتبرك به، فقال لهم يا ناس الغرب وصل إلى القمر، وأنتم تقرأون البخاري، فأجابه شيخهم نحن نقرأ البخاري وأولئك وصلوا إلى القمر ولكن أنت إلى أين وصلتَ وماذا فعلت؟ رواية يحاولون إفحامك بها، ويكون جواب الناقد الصادق لهم، إنجازي وصنيعي الذي أفخر به هو عدم قبولي لشراكتكم بالضحك على الناس واللعب بمشاعرهم وسرقة المال العام، فهذا يكفيني إنجازًا.
العلوم الإنسانية واللغوية
في زمننا للأسف وصلت مرحـلة مشاريعـنا العـلمية والمشـاريع المتعلِّقة بالعلوم الإنسانية خاصّة إلى مسـتوى من المصـلحجية والشللية لا يطاق، فاليوم تسمع بمشاريع علـمية تعرف حقيقتها وكنهها وتسمع التصفيق للإنجازات الوهمية فيـها، والغريـب أنك تسمع أقوى صفقة من شخص ٍكان يلعنها ويتبرأ منها ويُعـدّها نوعًا من سـرقة المال والتـكسب بالـحرام على حـساب المـبادئ والشرف، ثـمَّ تجـده أوّل (الدَّبِـيكَه) وقت الإعـلان عن مشروع الفنكوش، طبعًا عادل إمام أطلق هذا الاسم على مشروع وهميٍّ لا حقيقة له، وهكذا يا سادة معظم أو أكثر أو 90 بالمية من مشاريعنا في العلوم الإنسانية واللغوية خاصة، فناكيش لا إخلاص فيها؛ لأنّ المتسلم لها حَرّيف لعبٍ بالكلمات وصنع الشللية حواليه.
قالوا عنّا ظاهرة صوتية فكيف إذا كان مدير الفنكوش مجمِّعًا عددًا كبيرًا من الظواهر الصوتية القابلين للفنكشة المسبحين بحمد مديرهم؟! وعلى فكرة معظم هؤلاء تفتح صفحاتهم فتجدها مليئةً بالوعظ والحرقة على العلم ونشر المعرفة، ومساندة أفكار الحرية والديمقراطية، ولكن عندما تستدعي الحاجة أن يقول أحدهم كلمة حقٍّ تراه كأنّ القط قد أكل لسانه، ونوعٌ آخر تقابله فتراه يسبّ ويزبد ويُرعد أمامك وعند الحاجة إليه (بِيشَمِّعِ الخَيْط) أي يُسلِمُ رجليه للـريح، ويقـول لتـكن أمـي آخـر البـاكيات.
آلامنا كثيرة ومتعددة وأكبر آفاتها أنّ المنافقين هم في الصدارة، وكم هم متقنون لبيع الكلام العسلي ولكن أفعالهم ثعالبية ماكرة، فعندما تقترب منهم تخشى أن تفقد الاحترام لكلِّ من يقول عبارة: أعمل خدمةً للأمة.
إنّ حلّ هذه المأساة والملهاة الكئيبة التي نعيشها في عالمنا العربي حلُّها يتأتى بتحقيق جملة بسيطة، وهي: وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. أي أن تجد الإتقان والتخصص هو الحكَمُ في التعيينات في إدارة مثل هذه المشروعات، لا المحسوبية والخضوع وموافقة هوى الإدارة. وللوصول إلى هذا الأمر علينا أن نوجد أناسًا من خارج دائرة الإدارة يكونون ممتعين بالإخلاص والتمكن من التخصص والحيادية في الحكم ويقومون بمتابعة ومراقبة سير أيِّ مشروعٍ من مشاريعنا التي يُصرَف عليها من المال العام، بحيث لا يسمحون للمحتال أن يتمكَّنَ من احتياله ونسدُّ ثغرات النصب بحاجزٍ منيعٍ من المخلصين.
أوروبا كل من فيها يقول لك إنّ القانون هو الحاكم والقانون على الجميع؛ ولهذا تراهم متميزين وإن كان لا شك ثمة سقطاتٌ عندهم، ولكنّ سقطاتهم ليست ظاهرةً تطغى على كلِّ مشاريعهم، بل القانون يطبَّق على الجميع أو لنقل على معظم وغالبية الناس هناك، والمحاسبة تلاحق الكبير والصغير. نرجو أن يكون لكلام المخلصين في بلادنا دورٌ في قادم الأيام ونتمنى ألا ينطبق على دعوات الإصلاح قول القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا…ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي
كاتب سوري
تهنئة حارة للكاتب الفاضل بهذا المقال الزاخر بالأفكار الحداثية والهادف إلى ترقية المجتمع أخلاقياً ليتقدم علمياً واقتصادياً.
أشكر لكم مروركم الغالي على قلبي أستاذي الحبيب الدكتور علي القاسمي المحترم ووصفك للمقال شهادة أفتخر بها من عالم مثلكم.