غزة ـ «القدس العربي»: لم يعد القتل بالأسلحة الفتاكة التي لجأت إسرائيل لاستخدامها منذ اليوم الأول للعدوان على قطاع غزة، وحدها هي من يفتك بسكان قطاع غزة، فهناك أدوات وعوامل كثيرة تقتل السكان، أبرزها الحاجة والعوز والجوع، وهو أمر يظهر جليا على شكل السكان شيبا وشبانا وأطفالا، والذين تسبب لهم سوء التغذية بأمراض خطيرة جدا، ودفع بالكثيرين منهم للذهاب إلى مراكز التوزيع التي تعمل بالآلية الإسرائيلية الأمريكية، مدبرين بدافع الجوع، رغم استخدامها كـ «مصائد للإعدام»، من قبل جيش الاحتلال.
وفي مشهد لم يعتد منذ أن بدأ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم يجوع السكان بهذا الشكل، فأصبح الحصول على رغيف الخبز في هذا الوقت أمرا صعبا للغابة، فثمن الرغيف الواحد الذي كان زهيدا، بات يباع حاليا بأثمان تفوق الخيال.
شح في الطعام
وتعود أصل المشكلة المتفاقمة والتي تزداد مع مرور الأيام، بسبب قرار سلطات الاحتلال التي أوقعت منذ الثاني من اذار/مارس الماضي مرور المساعدات والبضائع لسكان قطاع غزة، بعد انقضاء مدة التهدئة الأولى، فأوقفت دخول أكثر من 500 شاحنة يوميا، كانت تقل الأغذية والمساعدات والأدوية والوقود إلى غزة، وكانت بالكاد تكفي حاجة السكان المتزايدة، لتسمح مؤخرا وبعد طول انتظار مرور شاحنات بأعداد قليلة يوميا للقطاع، شبهت بأنها «نقطة في بحر»، تعرضت غالبيتها لنهب الجوعى، فيما أبقت على أرساء نظام التوزيع الغذائي الخاص بها، من خلال مراكز توزيع يدعي الاحتلال أنها إنسانية، ثلاثة منها في مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، وواحد في منطقة «محور نتساريم» وسط القطاع.
ولذلك قفزت أسعار ما تبقى من مواد غذائية تباع بالأسواق إلى أثمان خيالية تفوق حتى أغلى دول العالم، ففي غزة يباع ثمن كيلو الدقيق الواحد بـ 90 شيكلا (الدولار الأمريكي يساوي 3.5 شيكل)، فيما يباع ثمن رغيف الخبز بـ 7 شواكل، أي دولارين، بعد أن كانت تباع ربطة الخبز ذات الـ 30 رغيفا بثلاثة شوكل، فيما وصلت أثمان الخضروات إلى أرقام فلكية، فالبصل وصل إلى أكثر من 100 شيكل والطماطم لـ 50 وكذلك الباذنجان والكوسا، فيما بيع كيلو البطاطس بأكثر من 70 شيكلا، أما الفواكه فوصلت لأرقام خيالية جدا، في وقت حرم فيه السكان بالكامل من أي نوع من اللحوم سواء البيضاء أو الحمراء.
ولذلك قال برنامج الأغذية العالمي، إنه ️منذ 19 أيار/مايو لم نتمكن من إدخال سوى كميات محدودة من المساعدات المنقذة للحياة إلى غزة، وأنه منذ استئناف المساعدات أدخلنا 700 شاحنة فقط مقارنة بـ 600 و700 شاحنة كانت تدخل يوميا، وأكد أنه من أجل درء المجاعة، فإنه يحتاج لدعم سكان غزة بشكل منتظم بتلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء، فيما حذر بأن الخوف من المجاعة داخل قطاع غزة ما زال مرتفعا للغاية، وشدد على أن ️دخول المساعدات يتطلب توفير طرق آمنة للقوافل وتسريع الموافقة على التصاريح وفتح المعابر.
وتضطر الأسر الغزية إلى طحن العدس والمعكرونة وبعض البقوليات لصنع الخبز لإطعام أبنائهم وإسكات جوعهم، بعد أن تفشت أمراض سوء التغذية على نطاق واسع بين السكان، وهو أمر أكدته العديد من المنظمات الأممية، وحذرت من خطورته الجهات الطبية بعد استقبال المشافي الكثير من حالات الجوع التي تهدد السكان بالموت.
غير أن مجمل الخطط التي وضعتها الأسر للتعايش بالحد الأدنى مع الجوع، وأولها الاقتصاد في الأكل، فباتت الأسرى بشيبها وشبابها وأطفالها تأكل وجبة طعام واحدة في اليوم، وبات حديث السكان العلني سواء الصغير أو الكبير عن الشعور بالجوع أمرا طبيعيا بعد أن كان فقراء السكان في السابق يخجلون من أن يبوحوا بهذا الأمر.
شهادات المجوعين
ففي المنازل المسكونة وخيام النزوح يصرخ الأطفال يوميا حين تغضب بطونهم من قلة الطعام، وفي تلك المناطق أيضا يتحدث الكبار عن الجوع وقلة الحيلة عن توفير الطعام لمن يعيلون، والكثير منهم تحدثوا لـ«القدس العربي» عن أزمة الجوع، وكيف باتوا ليلهم وهم يصارعون أمعائهم التي كانت تغلبهم في كل مرة، ويضرون بشق الأنفس تدبير قليل الطعام من «التكايا» لتقديمها أولا لأطفالهم وكبار السن الذين لم يعودوا يقدرون على تحمل مشقة الحرب.
وتحدث هؤلاء عن سوء التغذية جراء تناول الخبز الناشف المغموس بماء ساخن عليه بعض المنكهات، وهي أكلة ابتكرتها نساء غزة، لتذوق شيئا مختلفا عن طعم المعلبات أو العدس والمعكرونة، حيث انتقل الأمر إلى حياة أرباب الأسر اليومية، الذين لم يعد بمقدورهم المشي أو حمل غالونات المياه، أو البحث عن مكان الطعام المجاني في حال وزع.
الأمم المتحدة التي كثيرا ما حذرت من خطورة الوضع بسبب الحصار الإسرائيلي الذي تسبب بنقص الغذاء في قطاع غزة، تطرقت في تقرير لها إلى شهادات حية للمواطنين المجوعين، منهم أكرم يوسف، الذي قال إن «الأسعار غير طبيعية وهي أعلى بكثير من أوروبا»، أما أحمد البحري فقال إنه لم يعد لديه كمواطن يمثل الشريحة الأكبر من سكان غزة أي طعام، ويضيف «نعيش في حالة جوع دائم»، أما الشاب رائد طافش فتحدث عن صدمته من الغلاء الفاحش، خاصة وأن معظم أقرانه عاطلون عن العمل ولا يجدون مصدراً للدخل، وقال «لا نموت ببطء، وأصبحنا نحسد الأموات».
وفي السابق حين كانت إسرائيل تسمح للمنظمات الأممية ادخال المواد التموينية والدقيق إلى غزة، وتشرف على تشغيل بعض المخابز، كانت تباع ربطة الخبز والتي تحتوي على نحو 30 رغيف خبز بثمن 3 شواكل فقط، وارتفع الثمن بشكل جنوني بسبب الحصار، وبات كيلو الدقيق يباع بـ 90 شيكلا، أي نحو 25 دولارا، ما اضطر المواطنين لطحن البقوليات والعدس والمعكرونة لصنع الخبز، رغم ارتفاع أثمان هذه المواد التموينية بشكل جنوني أيضا.
بجانب هذه الشهادات المؤلمة، تتجسد المأساة في عيون الأمهات والآباء الذين يرون أطفالهم يتضورون جوعا، وتقول نمير غزال، وهي إحدى الأمهات، إن راتبها لا يفي حتى بشراء الفاكهة أو الخضراوات أو أي غذاء صحي لأطفالها، وتضيف «أبكي عندما يطلب أطفالي الجياع كسرة خبز، كيلو الطحين بمئة شيكل، والعدس بخمسين، وكيلو واحد لا يكفي عائلتي، لكنني أشتريه وأُقسّمه عليهم».
خيارات أحلاهم مر
وتطرق التقرير إلى الواقع المؤلم للسكان في هذا الوقت، حيث يضطرون إلى اعتراض شاحنات المساعدات التي تمر بأعداد قليلة، من أجل الحصول على بعض الأطعمة، وحسب الأمم المتحدة فإن شحنات الدقيق والسلع التي دخلت قبل يومين إلى غزة من معبر كرم أبو سالم، أخذها الجوعى واليائسون، الذين عانوا شهورا من الحرمان مباشرة من الشاحنات، كما حصل في معظم الحالات منذ أن سمحت السلطات الإسرائيلية بدخول كميات محدودة من المساعدات إلى غزة في 19 أيار/مايو الماضي.
وتقول الأمم المتحدة إنه لم يعد أمام سكان غزة سوى ثلاثة خيارات أحلاهما مر، وهي إما السعي للحصول على حصة غذائية من آلية المساعدات العسكرية (الإسرائيلية الأمريكية)، والتي مات فيها العشرات خلال الأيام الماضية، أو أن يروا أطفالهم يتضورون جوعا، أو أن يدفعوا الغالي والنفيس لشراء ما تبقى من البضائع، وما نهب من المساعدات الإنسانية في الأسواق.
وكان أكثر الخيارات التي اندفع إليها السكان رغم خطورتها التوجه إلى مراكز المساعدات التي أقامتها سلطات الاحتلال، وتديرها شركة أمريكية، المتواجدة جنوب ووسط قطاع غزة رغم خطورتها.
وسجل الأسبوع الماضي مجازر جديدة طالت المجوعين، عند وصولهم مراكز التوزيع في الجنوب والوسط، وسجل استشهاد العشرات بينهم رجال ونساء، وإصابة المئات بجراح مختلفة.
المجازر ارتكبت في رفح حين كان المجوعون على بعد عشرات الأمتار فقط من منطقة التوزيع، وتحديدا في منطقة مفتوحة أمام الدبابات وجنود القناصة الإسرائيليين الذين أمطروهم بالرصاص من كل اتجاه عندما وصلوا إلى منطقة يصعب الهروب منها، وكان الحال مشابها عند مركز التوزيع وسط القطاع، حتى أن المجوعين هناك تعرضوا إلى القصف المدفعي، وليواجه هؤلاء صعوبة كبيرة في الوصول إلى أماكن تواجد الإسعافات.
وبهذا تحولت مراكز توزيع المساعدات الخاصة بـ«مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية»، الإسرائيلية الأمريكية المرفوضة أمميا، إلى مصايد للقتل الجماعي، فضلا عن تعمد امتهان كرامة المواطنين، وإجبارهم على النزوح وسط ظروف إنسانية كارثية.
ودفع ذلك مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «أوتشا»، للقول إنه ما زال يتلقى تقارير عن مقتل وإصابة أشخاص أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء، وجدد التأكيد بأقوى العبارات الممكنة على أنه «لا ينبغي إجبار أي شخص على المخاطرة بحياته من أجل الحصول على المساعدات، لاسيما أن سكان غزة معرضون لخطر المجاعة».
ويؤكد فرحان حق نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة، أن القانون الدولي الإنساني واضح في هذا الشأن، حيث إنه إذا لم يتم تزويد السكان بما يكفي من الضروريات اللازمة لبقائهم على قيد الحياة، قائلا إنه يتعين على إسرائيل الموافقة على الإغاثة الإنسانية وتسهيلها بكل الوسائل المتاحة لها، وليؤكد أن الظروف في مواقع توزيع المساعدات غير التابعة للأمم المتحدة «ليست آمنة»، مضيفا أنه «لا يمكن أن تكون هذه هي الطريقة التي يُتوقع أن يتلقى الناس بها المساعدات الإنسانية».
أما مفوض «الأونروا» فيليب لازريني فندد بمجازر المجوعين، وقال وهو يتحدث عن هذه المجازر «يوم آخر من توزيع المساعدات، يوم آخر من مصائد الموت»، وأكد أنه «يومًا بعد يوم، تُبلغ عن سقوط ضحايا وعشرات الإصابات في نقاط التوزيع التي تديرها إسرائيل وشركات الأمن الخاصة»، وقال وهو يتنقد آلية التوزيع «يواصل هذا النظام المُهين إجبار آلاف الجياع واليائسين على السير لعشرات الأميال، مستثنيًا الفئات الأكثر ضعفًا ومن يعيشون بعيدًا».
وأكد أن هذا النظام لا يهدف إلى معالجة الجوع، وطالب بأن يكون إيصال المساعدات وتوزيعها على نطاق واسع وآمن، مشيرا إلى أنه لا يمكن القيام بذلك إلا من خلال الأمم المتحدة، بما في ذلك وكالة «الأونروا»، وقد طالب المفوض العام من إسرائيل «رفع الحصار والسماح للأمم المتحدة بوصول آمن وبدون عوائق لإدخال المساعدات وتوزيعها بأمان. هذه هي الطريقة الوحيدة لتجنب المجاعة الجماعية، بما في ذلك بين مليون طفل».
فيما حمل مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية «أوتشا»، إسرائيل بصفتها القوة المحتلة، مسؤولية الحفاظ على النظام العام والسلامة في غزة، وقال إن ذلك ينبغي أن يشمل السماح بدخول المزيد من الإمدادات الأساسية عبر معابر وطرق متعددة، لتلبية الاحتياجات الإنسانية والمساعدة في الحد من أعمال النهب.
وبسبب تزايد عمليات إعدام المجوعين، واستخدام مراكز التوزيع كـ«مصائد موت»، طالب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح، بالوقف الفوري لنقاط توزيع المواد الغذائية الأمنية الأمريكية الإسرائيلية، والتي قال إنها «تحولت بفعل ممارسات الاحتلال إلى ممرات وساحات للموت الجماعي، يُستدرج إليها المدنيون الجوعى بفتات من الغذاء، ليواجهوا بعدها رصاص الإعدام وقذائف القتل في مشهد يختصر قسوة الاحتلال وصمت العالم»، مؤكدا أن هذه السياسات ليست حوادث معزولة، «بل هي إستراتيجية إبادة ممنهجة، تُستخدم فيها أدوات الحصار والتجويع لاستدراج المدنيين إلى مصايد القتل تحت مسميات مضللة مثل الإغاثة والممرات الآمنة التي باتت تدار كمسار تصفية جسدية جماعية».
أما المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فأكد أن «كمائن الموت» المتواصلة ضد آلاف المُجوَّعين، رفعت عدد ضحايا المساعدات إلى أكثر من 200، علاوة على أعداد كبيرة من المصابين، وقال إن هذه الأرقام المفزعة تكشف الوجه الحقيقي لما تُسمى بـ«مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)»التي باتت أداة قذرة في يد جيش الاحتلال، تُستخدم لإيقاع المدنيين في كمائن الموت، تحت ستار العمل الإنساني. إن استمرار هذه المؤسسة في عملها الإجرامي القاتل، رغم توثيق استهداف طواقمها للمدنيين العُزّل، يؤكد أنها جزء من منظومة الإبادة والقتل المنظم، وليست جهة إغاثية بأي معيار.
وأكد أن هذه المؤسسة، بقيادتها الإسرائيلية والأمريكية، وبتنسيقها الكامل مع جيش الاحتلال، تفتقر إلى كل معايير الحياد والاستقلالية والإنسانية، وهي غطاء واضح لجرائم إبادة جماعية تُرتكب بحق السكان المُجوّعين يومياً.
أزمة العلاج
ووسط هذا كله، كانت هناك أزمة خطيرة أيضا، فطال الحصار الإسرائيلي الدواء وعمل المشافي، حيث أعلنت وزارة الصحة أن التصعيد الحربي أدى إلى اكتظاظ شديد في المشافي، في وقت يواصل فيه الاحتلال منع الاحتلال إدخال الإمدادات الطبية المنقذة للحياة، وأشارت إلى أن ️مئات المرضى والجرحى يُعانون من عدم استكمال التدخلات العلاجية لهم نتيجة الاستنزاف الحاد فيما تبقى من أقسام طبية، وحذرت من أن ️الوضع الصحي في محافظة شمال قطاع غزة «كارثي بعد إخراج كافة المستشفيات عن الخدمة».
وقالت «️ما تبقى من مستشفيات عاملة مُهددة بانهيار الخدمات التي تُحاصر بأزمات خانقة يستحيل معها استمرار تقديم الخدمة الصحية»، مشيرة إلى أن ️الحلول الطارئة والتدخلات الاسعافية «لن تكون ذات معنى مع تفاقم المؤشرات الصحية والإنسانية الى مستويات ونتائج يصعب مُعالجتها»، وجددت النداء العاجل إلى كافة الجهات المعنية بالتدخل الفوري لإنقاذ المنظومة الصحية في قطاع غزة ومنع انهيارها.
وبسبب تطورات الأحداث الميدانية والحصار، تواجه مشافي القطاع نقصا حادا في وحدات الدم، حيث أطلقت وزارة الصحة مناشدة عاجلة لإدخال وحدات دم إلى مستشفيات غزة، وقالت إنه في ظل الوضع الإنساني الكارثي الذي يشهده قطاع غزة، واستمرار العدوان الإسرائيلي، تواجه مستشفيات القطاع نقصًا حادًا وخطيرًا في وحدات الدم، وذلك نتيجة، التزايد المستمر في أعداد الجرحى والمصابين، والحصار الإسرائيلي المشدد الذي يعيق دخول الإمدادات الطبية، وتراجع قدرة المواطنين على التبرع بالدم بسبب سوء التغذية ونقص الاحتياجات الأساسية.