يصفه الروائي لورانس داريل في رباعيته الشهيرة بأنه «روح الإسكندريّة النابض» ومع هذا بلغ عدد الذين سألتهم عن موقع متحف كافافيس بقدر ما في يديّ وقدميّ من أصابع، ولم يعرف أحد الاسم. اليوم هو الثاني من زمن إجازتي البالغ سبعة أيام في المدينة:
يوجد في الإسكندرية بُنّ كافافيس.
كان هذا جواب الجميع، أحدهم رجل كبير السنّ ثرثار وفضوليّ، ليس له نظير. كان واقفا في ميدان المنشيّة الذي تظهر صورته في كتاب كافافيس، وأجابني عن سؤالي بتحقيق هل أنت أردنيّ، وكم تقضي هنا، والعراق لا يستقرّ لأن الوطنيين انتهى زمانهم منذ احتلّه الأمريكيون، هل تعلم أن ثمانين في المئة من المصريين يعيشون إلى الآن من خيرات العراق. الله يرحم القائد المنتصر صدام حسين. أنت لا تصدّق لو قلت لك إني سافرت إلى النمسا في الثمانينيات حيث تنعّمت في شاطئ العراة، وكلّ هذا من خيرات العراق! وماذا عن إيران؟ وكان للرجل شهيّةَ أن يبقى يتكلّم إلى آخر الدنيا، ثم ودّعته، لكنّه ظلّ يصيح في أثري:
ـ إذا كنت عراقيّا بحقّ وحقيق أجبني على هذا السؤال.
وتوقفتُ عن سيري، وعدت إليه. قلتُ:
ـ تفضّل.
ـ ما معنى كلمة (لَكْ) بالعراقي؟
فاجأني بهذا السؤال الغريب، وصعب عليّ الجواب. سكتُّ. ثم قلت له إنها لا تعني شيئا. كلمة من غير معنى.
ـ أسألك سؤالا آخر: لماذا يقول العراقي لصديقه: «عيني وماي عيني»؟
ما هذا، هل قطعت آلاف الأميال من بلدي لأسمع هذا الهراء؟! ابتعدت مسرعا، وغطّت الرياح القويّة على حديث الكهل المهذار، واتّجهتُ إلى الشاطئ كي تنسيني الريحُ والموجُ وطعمُ الرطوبة المرارةَ في فمي. إنني في حاجة إلى الهواء الذي يجيء من البحر كي أثمل بضوعه، والندى فيه يملأ يدي ورقبتي ويتخلّل شعري. الساعة تقترب من الثانية، وبحرُ الرياحِ تاه في بحر الظهيرة، وكان للبحر نبض هادئ راح يختلبني، فتنغز قلبي صيحات بحّارة غادرونا منذ مئات وألوف السنين. لأرهف سمعي، لعلّي أحظى بأثر من موسيقى رقصة القرصان، مع المرأة ذات الجديلة السوداء. سألتُ شابّا عن متحف كافافيس، وبينما كان يجيبني مرّت العجوزُ ذات الزنّار الأزرق والمسبحة في يدها تتدلّى إلى الأرض، واختارت هذه المرّة أن تمشي حافية. أكّدتُ على الشابّ اسم الشاعر اليوناني الذي عاش ومات وهو إسكندرانيّ، وكان جوابه الجواب نفسه:
ـ لا يوجد في الإسكندرية غير عنوان واحد يحمل هذا الاسم: «بُن كافافيس». محلٌّ شهير لبيع أطيب أنواع القهوة.
غير معقول جهل الناس بتاريخ مدينتهم الثقافي.الريح البحريّة هدأت وأنا أدوّر في عقلي هذه الفكرة، وصار الهواء مشبّعا بعطر السكون، وحديث الموج بات أشبه بمناجاة داخليّة مستمرّة تتساءل معي عن معنى هذا العماء، والسائرون على شاطئ البحر كأنما بطأت حركاتهم من تأثير حديث البحر مع نفسه، إلى أن توقفوا عن الحركة تماما. كانت الطبيعة، بما فيها البشر، تقف وقفة احتجاج لأن لا أحد يعرف شيئا عن شاعر المدينة، في مدينته…
بلغتُ اليوم الرابع من الإجازة ولم يَهدِني أحد إلى منزل كافافيس، بيتُ القصيد في سفرتي إلى مصر. كنتُ نشرتُ عنه مقالات في الصحافة، ولمّا كاد قلمي يجفّ قلتُ أشدّ الرحال إلى المدينة التي تضمّ مثوى الشاعر. إنه أبو الحداثة في الشعر الذي يلهج به الجميع الآن في أقاصي الأرض. كم نحتاج من مئات أو ألوف من السنين، كي يولد من ينعطف بالفنّ الشعري مثلما قام به قسطنطيس كافافيس؟ لقد وُلد في هذه المدينة، وعاش فيها ولم يغادرها سوى مرّة أو مرّتين تحت ظروف قاهرة، وكلّ شبر من هذه الأرض عليه ختمٌ من خطواته، ومع هذا فهو مجهول تماما للساكنين عليها. في اليوم التالي قصدتُ مكتبة الإسكندريّة لعلّي أجد من يدلّني إلى بيت شاعري. لا يعرف الموظّف المسؤول شيئا عن كافافيس، ولم يسمح لي بالدخول لأن عدد الزائرين مكتمل في هذا اليوم، وهو ينوف على ثلاثمئة زائر، يقرأون علوم الاقتصاد والهندسة والسياسة والطبّ، ولا كلمة واحدة لأنفسهم. حاول المعماري الذي صمّم مبنى المكتبة تقليد شكل الهرم، لكنه أتانا بواجهة كأنما لسجن مؤلف من عدد لا ينتهي من الزنزانات، لكل واحدة إطلالة مائلة إلى جهة السماء، لا تترك مجالا للنازلين فيه رؤية ما يدور في الشارع. هم القرّاء، وقد جلسوا مسمّرين إلى مقاعدهم، يقضون ساعاتٍ من تأمّل صوفيّ بعينٍ تحدّق في الكتاب، وأخرى تبصر الفضاء، منتظرين بلهفة تلك الإشراقة التي يبلغون فيها أرض الشارع، ينحدر شيئا فشيئا إلى جهة البحر. إن ثلاثة أرباع العلم والأدب والفنّ مطروحٌ على الطريق، ومن ينظر إلى السماوات فحسبُ لا يعثر على شيء ذي فائدة. ثم درتُ إلى الجهة الخلفيّة من المبنى، وهذا يشبه ما يُدعى القحف من رأس الإنسان، أي الجزء الخلفي والعلوي من الجمجمة، يرتفع هنا عن الأرض بحوالي متر أو مترين. ذكّرني هذا التصميم بقصّة قصيرة لخوليو كوتاثار، حيث تنخفض قامات شخوص القصّة شيئا فشيئا إلى أن يستقرّ الرأس على القدمين، في مشهد يماثل تماما مكتبة الإسكندريّة من جهة الخلف: رأسٌ وقدمان، ولا أهميّة للمكان الذي يحمل مشاعر الناس وما يحبّون ويرغبون أو يرفضون. هل كان كوتاثار يكتب نبوءة عن الوضع البشريّ الذي بلغناه في هذه السنين؟
عدتُ أفتّش في الشوارع عمّن أسأله عن موقع منزل الشاعر دون طائل. لن يدهشني في هذه المدينة العجيبة البتّة مشهدَ الرجل الصعيدي ضخم الجثة، واقفا على مسنّاة الكورنيش المطلّ على البحر، وزوجته المنقّبة، الهيفاء، تلتقط له صورة. ولن يدهشني أبدا منظر المرأة التي ترتدي ما يشبه ثياب النوم، ورجلها يأخذ لها صورا عديدة مع البحر. كما أن رؤية الشابّ الكحوليّ ينام منذ الصبح على الرصيف أمرٌ عاديّ في زماننا. لم أستغرب كذلك مشهد الكلب مكمّم الفاه برباط حديديّ، مشدود بسلسلة إلى يد صاحبه، وكان يهرّ على السائرين على شاطئ البحر، ويزمجر بزبد الغضب. أيّ اضطراب ممتع، أن ترى كلبا متوحّشا بالقرب منك، دون أن يتمكن من إيذائك! ما أثار عجبي وحيرتي في المدينة هو الشيخ المحنيّ الظهر الذي سألته عن موقع متحف كافافيس. كان يمتلك رأسا صغيرا خاليا من الشعر، عيناه نفّاذتان وحاجباه وافران وله وجه هضيم شاحب. قرّب شحمة أذنه من صدغه، وأجابني:
ـ ماذا تقول، مصحف كافافيس؟ لا يوجد مصحف بهذا الاسم!
حكيت له عن الشاعر اليوناني، وضاقت عيناه بصورة مخيفة وظلّ ينظر لي بثبات وإمعان لمّا عرف أن وجهة نظري بيت شاعر:
ـ شاعر؟ أنت تبحث عن بيت شاعر؟
صرخ بوجهي بصوت لا علاقة له ببدنه المتهالك، وصارت عيناه نقطتين سوداوين عجيبتين، وكان يحدجني بنظرات جامدة كأنها اخترقت قلبي بشكل ما.
ـ لكنه شاعر الإسكندرية، شاعركم، وأنا قادم من العراق لزيارة متحفه!
ـ أنت ضيفنا إذن!
هتف الشيخ القميء، وارتسمت في عينيه لمحات من عدم الرضا والانزعاج، وأخرج هاتفه النقّال من جيبه، وكان يطلب أحدا في الهاتف، ثم خاطبني:
ـ أنت ضيفنا، وقد جئت إلينا، ونحن نرحّب بك!
راح يتكلّم همسا في الهاتف وينظر إليّ شزرا، وارتسمت على وجهه ابتسامة كبريتيّة وتملّكني الرعب من كلماته، ونسيت نفسي وما أنا فيه، ونسيت الجهة التي تقودني إلى فندق رمسيس، حيث أقيم. هل أضعتُ وقتي الثمين وأنا أسأل الناس عن مكان أستطيع أن أهتدي إليه عن طريق غوغل؟ إنني أتقصّى هنا عن كثب، وأدرس المدينة، والناس، ولم تخطر ببالي هذه الفكرة إلا في يومي السادس في إسكندريّة كافافيس، وكانت الشمس تجنح في سماء البحر إلى جهة الغروب، وجميع الطرق التي تؤدي إلى منزل الشاعر مفتوحة، ومغلقة. قادني غوغل إلى المتحف بسهولة كأني أسيرُ في بيتي، لكن الساعة جاوزت الخامسة، وأبواب المبنى حيث يقع البيت مقفلة. بعد قليل يحلّ الليل، ويعتصر هذا الثعبان الأسود أعناق المدينةَ التي تلجأ إلى الأنوار الساطعة والموسيقى الصاخبة طلبا للخلاص، لكن هذه الجهود غير مجدية بالمرّة، وعندما يشلّنا التعب في الأخير ننام. كان الأوّلون لا يرزحون تحت ظُلم الليل كثيرا، الليلُ المقيمُ، الليلُ الهائم بالسواد، الليل الأعمى، فهم ينتصرون عليه بكل سهولة بالنوم مبكرا، لا تحسّ إلا والفجر على الأبواب، حيث يأخذ الثعبان عندها بالتململ. آويتُ إلى فراشي في التاسعة لأن موعد إقلاع الطائرة التي تُعيدني إلى بلدي هو السادسة صباحا، وعليّ أن أكون في المطار قبل ساعتين على الأقلّ.
أفادتني هذه الرحلة كثيرا لأنها قدّمتْ لي معلومةً لن أعثر عليها في كتاب؛ عاش كافافيس ومات في الإسكندريّة يونانيّا خالصا، لم يأخذ شيئا من البلد الذي تقع فيه مدينته في الزمن الحاضر، أي مصر، ولم يترك له شيئا، ومن يدرس الشاعر يرى أنّ هذه كانت أمنيته، وقد تحقّقت له بواسطة الشعر.
كاتب عراقي
سهل الله طريقك اخي حيدر.
لعل كافافيس ( او مدينته) ارادا ان يوصلا اليك
رسالة : سيبك من المتاحف واكتف بالشعر
ونسيم البحر..اتعبت نفسك سدى .. ماذا عن
سيدي المرسي ابي العباس العارف الفذ؟!
ربما في زيارة اخرى موفقة.
ما قااله الرجل المصري لك عن فضل خيرات العراق عليه٠دليل على فضل الذي توجه سهامك عليه..فرق بين وبين.
أنا معك أخ جاسم لو كان ذلك الشخص رحمه الله تصرّف بحكمة و إستثمر خيرات البلد لصالح العراقيين جميعاً..
في كل الأحوال ما جاء بعده أسوأ
و الكاتب عمل تراجيديا من عدم معرفة بعضأهل الإسكندرية لشعر يوناني. عاشهناك منذ عشرات السنين عندما كانت هناك جالية يونانية كبيرة رحلت بعد ١٩٥٢