اعتاد المصريون منذ 24 كانون الاول/ يناير 2011 على التظاهر وعلى اشتباكات المتظاهرين مع قوى الامن، حتى اصبحت فاعلياته على امتداد شهور عدة هي زادهم اليومي واخبارهم المتبادلة واحاديث سهرياتهم المفضلة. لكن تظاهراتهم التي جرت امام مجلس الشورى صباح يوم 26 من الشهر الماضي، كان لها معنى اخر لانها كانت المرة الاولى التي يتظاهر فريق منهم تحديا لتطبيق القانون الذي صدر لتنظيم هذا الحق ووضعه ضمن اطار العلاقة العضوية لحق التظاهر من جهة، وحق جهة الادارة في التنظيم والمحاسبة من جهة اخرى وحق المجتمع في الحياة الكريمة والدولة في فرض هيبتها من جهة ثالثة. كان من الطبيعي ان ينقسم المصريون حيال هذا القانون، ليس لانه اصبح من الصعب عليهم بعد ما يقرب من ثلاث سنوات ان يتوافقوا على شيء، ولكن لان القانون صدر في غير وقته، ولان ترسانة القوانين المصرية بها ما يكفي وزيادة لتجريم كافة الاعمال والافعال التي جاء ذكرها في القانون المُختلف عليه. وبدلا من ان تتكاتف القوى السياسية والثورية والمجتمعية لمناقشة العيوب التي نطق بها القانون، التي لهم اعتراض جوهري عليها امام المحاكم المختصة، تعاونوا على اهدار دمه وتمزيق اشلائه وسحقه تحت اقدام التحدي والتخريب، كما شاهدنا يوم الجمعة الاخير من الشهر الماضي. لا ينكر احد ان من حق حكومة حازم الببلاوي ان تعمل على تأكيد هيبة الدولة بالاصرار على انفاذ مواد القانون، لكن في المقابل كان من حقنا عليها ان تستمع الى الاراء التي قيلت في هذا الشأن وان تناقشها مع نخبة ممن طرحوها ومن المختصين، حتى تتلافي ما وقع من مصادمات حتى الان وما قد تاتي به الايام القادمة. نعم ، طالبنا مع غيرنا ان يصدر قانون ينظم التظاهر السلمي من منطلق ان الوطن المصري وكافة فئات الشعب التي تعيش فوق ارضه تواجه موقفا صعبا يتطلب من الحكومة ان تستعين بكافة القوى السياسية لكي تحقق الامن والامان للوطن والمواطن من دون اهدار او تهميش لحقوق الانسان. وشاركنا غيرنا في التأكيد على ضرورة الموازنة بين دور الدولة في ترسيخ حق المواطن في الامن والحياة، وحقه في التعبير عن مطالبه سلميا، بشرط ان تكيل كل منهما بمكيال واحد يأخذ في اعتباره المصالح العليا للوطن. لذلك كان مطلبنا ولا يزال هو ‘تنظيم التظاهر السلمي وفق معايير انسانية’. من هنا جاء تركيزنا على ان يُستبعد من القانون كل ما له صلة بافعال مثل قطع الطرق وتعطيل المواصلات والاعتداء على المنشآت العامة والخاصة، وما هو مرتبط ارتباطا عضويا بحيازة اسلحة وذخائر… الخ. لان كافة هذه الامور مُجرمة بعدد من القوانين والقرارت التي لا يشك المرء في صحتها، ولا في قدرتها على القيام بواجبها القانوني لحماية المجتمع والمواطن، كافة هذه الامور التي ورد ذكرها في قانون التظاهر لم تك هناك حاجة ملحة لها، لانها ببساطة اخرجت مواد القانون عن سياقها الذي كنا نرجوه ونتطلع اليه. بنفس القياس نرى ان القانون تضمن عبارات فضفاضة وحمالة تأويل، اخرجته مرة اخرى عن السياق الذي كان يتطلبه، مثل تعكير النظام العام والعمل على تعطيل الانتاج، التي ما كان لها ان تصاغ ضمن مواد هذا القانون لان مكانها متوافر على مستوى نصوص قانونية اخرى قادرة على التعامل الجنائي مع مثل هذه الافعال المحددة بقوة وفاعلية. ونضيف، ليس في فلسفة القوانين ما يسمح لجهات الاختصاص ان تعاقب على ما لم يصدر به قول او يترتب عليه فعل، ليس هناك من يعاقب على ما في الضمائر والقلوب الا الله العلي القدير. ومن هنا يأتي اعترضنا على حق الجهة الامنية في رفض التصريح بقيام تظاهرة ‘لانها استشعرت ان القائمين عليها يخططون لاستخدام العنف’، لان هذا لا يجوز منطقيا او عقلانيا، وكان من الافضل ان ينص القانون على الحق في الرفض اذا وقع تحت يد هذه الجهة من الادلة المادية المعتبرة ما يمنحها سلطة عرض الامر على الجهة القضائية التي يكون من حقها وحدها ان ترفض منح التصريح. لذلك لم نندهش حين جمع القانون تحت مظلة مختلف اسباب الاعتراض عليه، من الكثير من القوى السياسية والتجمعات الشبابية التي نجحت الى حد ما في اشاعة التوتر والقلق، بدلا من ان تشيع نصوصه التفاؤل في الغد وتوفر مساحات من الاستقرار قابلة للتمدد. وبنفس القدر لم نفاجأ بفرحة قطاعات عريضة من كوادر ومؤيدي جماعة الاخوان عقب صدور القانون، لانهم على يقين من ان كافة الاعتراضات صغيرها وكبيرها ستصب في صالح قدرتهم على الحشد غير المبرر وعلى التصعيد الذي فترت همته، لان التظاهر السلمي الذي كانت الغالبية تسعى اليه لم نجد له ظلا بين سطور هذا القانون. لست معارضا لحق الدولة في فرض هيبتها ولا مختلفا معها في حتمية تقنين الاوضاع التي تساهم في توسيع دائرة الانفلات الامني، وبنفس القدر لست من المنادين بعدم احترام القانون او مؤسسة القضاء، لاني لو فعلت ذلك سأكون متناقضا مع نفسي اولا، لان الوقوف في صف الغاء قانون الطوارئ ووقف العمل بقانون الارهاب شيء، والاعتداء على قانون التظاهر بتحدي الحكومة القائمة شيء اخر. لا انادي باهدار القانون المنظم للتظاهر السلمي ولا بتحديه، ولكني مع من يطالبون باعادة النظر فيه لتعديل بعض نصوصه او تغييرها، وفق ثلاثة اشتراطات لا بد من توافرها لكي لا نبقى داخل دوامة الشيء ونقيضه لفترة قادمة لا يعلم الا الله كم ستطول. الاول.. ان يتم ذلك وفق متطلبات السلمية واشتراطاتها التي تقرها الغالبية العظمى من الشعب شرائحه السياسية وفئاته المجتمعية. الثاني.. ان يتحقق ذلك وفق الاطر القانونية والاجرائية التي ينظمها القانون. ثالثا.. ان تتوافر له الارضية السياسية والتوافقية على مستوى الشارع المصري بكل اطيافه الحزبية والسياسية والشبابية. واذا كان البعض يؤكد ان الحكومة لم تكن في حاجة لاصدار القانون، فالحقيقة المؤكدة انه صدر وقضي الامر. ورأيي ان الواجب يفرض عليها اي الحكومة – ان تسعى جاهدة للعمل بكل همة وحماس لرعاية وتفعيل خطط رفع المعاناة عن كاهل المواطن البسيط، الذي لا يتظاهر، ويعمل ما في استطاعته لابقاء رمق الحياة موصولا باسرته، فمثلا عليها ان تعمل بحس ثوري ومجتمعي على الحد من انتشار السلاح بكل انواعه بين المواطنين، خاصة بعد ان برهنت حملات الشرطة على ان سوق السلاح لم تَعد مقتصرة فقط على محافظات الصعيد. وان ترفع عنه باجراءات فورية المظالم والعنت اليومي الذي يتعرض له ما بين اسعار احتياجاته اليومية وتدني خدمات التعليم والعلاج والبيئة والصرف الصحي ومياه الشرب. لست في حاجة للقول ان الكثير من أسرنا في القاهرة وخارجها يرددون ان صياغة قانون التظاهر بالكيفية التي نشر بها تعيد احياء حقب القمع وسحق حقوق الانسان الممتدة منذ منتصف حكم الرئيس الاسبق حسني مبارك وسلفه محمد مرسي، ويقولون ان بذور فشل النظامين تموضعــــــت في رحــــم النظــام الذي يتولى المسؤولية منذ الثالث من يولية الماضي، فلا هو يعرف اولويات ملايين المصريين الذين خرجوا مؤيدين له ولا هو رسم خططا قصيرة ومتوسطة الاجل تنير لهم الطريق لتفعيل خارطة طريقهم حتى نهاية الفترة الانتقالية او الفترة الانتقامية كما يسمونها. اختلف مع البعض الذين يرون ان مسؤولية اصدار هذا القانون في صياغته العوراء وتوقيته العشوائي تقع فقط على عاتق الحكومة والنظام الحاكم الذي يساندها، لان شباب الثورة يتحمل قدرا كبيرا من هذه المسؤولية بسبب تشرذمه من ناحية وتغير ولاءات البعض منهم من ناحية ثانية وعدم مرونتهم من ناحية ثالثة. كما تتحمل النخب المجتمعية قدرا اكبر من المسؤولية لان جهودها لم تتسام الى مستوى توسيع قدرة المجتمع على استيعاب ابنائه واحتضانهم وتوفير سبل التعافي في ما بينهم. اقول بلا تردد… المجتمع المصري لا يحتاج لتغيير الوجوه والشخصيات ولكنه في امس الحاجة للتوافق في اقرب وقت ممكن على آلية ادارة اموره وسياساته، لكي يتخلص من تداعيات التخبط والارتباك التي تصب في مصلحة المناوئين له المتضررين من ثورته، قبل ان تنقلب الرؤية الحاكمة ونتائجها السلبية وبالا على الدولة التي بدا بنيانها يتصدع تحت وطأة تدني الهيبة وضياع الحقوق وتسيس القضاء. ولا زال الامل يحدونا ان نصحو غدا مع اشراقة شمس متفائلة. *استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا استشاري اعلامي مصري مقيم في بريطانيا [email protected]