أن تكون مصريا محافظا على شخصيتك المنفتحة وهويتك الجامعة في الظروف الراهنة يبدو ضربا من الخيال، فقد شقت التفرقة النفسية والثقافية طريقها، وتلتهم المجتمع التهام النار للهشيم، وتقوض بنيان الدولة المركزية ودورها الوحدوي، وما كان لها من دور منذ نشأتها تثبيت أركان الوحدة الجغرافية والسياسية، التي بدأت تاريخيا باندماج مملكتي الجنوب والشمال في دولة واحدة على يد الملك مينا (نارمر) حوالي عام 3500 ق. م. والفطرة الوحدوية صنعت استقرارا نقل المصريين من عبادة الآلهة المتعددة إلى عبادة الإله الواحد، منذ ما قبل اخناتون بعدة قرون.
ومصر تعيش زمنا معاكسا لفطرتها وطبيعتها، وإرهاصات هذا الزمن التعيس بدأت بانكسار 1967، وأتت أكلها في سبعينات القرن الماضي، فأنشأت بيئة خصبة لنمو بذور التعصب والكراهية، وزيادة مظاهر العنف المذهبي والطائفي، وهو الذي تم توظيفه في نشأته الأولى في المواجهة مع المد التحرري والاشتراكي والوحدوي، ومع رواج التعصب أطلت الفتن برأسها، ووجدت زادها في دور النفط السياسي، بفعل الطفرة التي رفعت أسعاره بعد حرب 1973.
تراجع التماسك، وعمت الفرقة، وزاد الفرز المذهبي والطائفي والاجتماعي والثقافي، واندلعت الحروب الأهلية في لبنان وغير لبنان، ويبدو أن استمرار هذا الفرز لأربعة عقود متواصلة غيّر كثيرا في التركيبة النفسية العربية عموما والمصرية خصوصا.
وضمن هذا السياق جاءت فتنة ‘الخصوص’ الأخيرة، ومسرحها قرية تتبع مدينة الخانكة الصغيرة، في محافظة القليوبية الملاصقة للقاهرة، وهي نفس المدينة التي شهدت ظهور الفتنة الأولى في تاريخ مصر المعاصر فمنها خرجت فتنة 1972، ونتجت عن اتخاذ عدد من سكانها المسيحيين منزلا يلتقون فيه، ثم دشنه أحد الأساقفة مكانا للعبادة والتراتيل الكنسية، فقام مسلمون بالهجوم والاعتداء على المنزل ومن فيه، وتظاهر مسلمون غاضبون؛ مهددين رجال الأمن؛ وأحرقوا المنزل ودمروا محتوياته، حتى أن سلطات الأمن لم تتمكن من تهدئة الموقف حتى ساعة متأخرة من الليل.
انفتح الباب على الفتن والاضطرابات الطائفية؛ وكانت تمر من دون محاسبة أو عقاب حقيقي، وصارت المجالس العرفية؛ المشكلة من رجال دين إسلامي ومسيحي برعاية سلطات الأمن حلا مؤقتا، ثم لا تلبث الفتن أن تعود من جديد، إلى أن انتشرت في أنحاء مصر؛ شمالا وجنوبا وشرقا وغربا!. واستقر الوعي العام على أن التوتر والعنف الطائفي تحول إلى سلاح في يد حكومات تتراخى في تطبيق القانون. وأثرت ‘فتنة الخانكة’ على السادات وأثارت غضبه الشديد، واتهم البابا شنودة الثالث بالوقوف ورائها، وهو ما ذكره محمد حسنين هيكل في كتابه ‘خريف الغضب’، وأورد على لسان السادات قوله أن شنودة يريد أن يلوي ذراعه، ولن يسمح له أن يفعل ذلك.. وكان الشارع قتها يضغط ويستعجل الثأر من الدولة الصهيونية لإزالة آثار عدوان 1967، ووصل الضغط ذروته في ذلك العام.
ألقى السادات بكرة الفتنة الملتهبة في جحر مجلس الشعب. وقيل وقتها إنها كانت محاولة منه لكسب الوقت؛ والتعامل مع المظاهرات المطالبة بالحرب، وقد استدل البعض على ذلك بعدم اتخاذ السادات قرارات كانت مطلوبة وعاجلة توفرها مسئولياته وصلاحياته التي كفلهما الدستور والقانون، واستعاض عن ذلك بلجنة برلمانية؛ رأسها برلماني مشهود له ومتميز هو جمال العطيفي، وكان يشغل منصب المستشار القانوني لجريدة ‘الأهرام’، وكانت وقتها تحت رئاسة هيكل، وكانت لجنة العطيفي أقرب إلى لجنة لتقصي الحقائق؛ استمعت إلى كل الأطراف، وقدمت تقريراً متميزاً حدد المشكلة ومسؤولية أطرافها واقترح خطة لمعالجتها، وتناول التقرير أساليب حل المشاكل المشابهة.
والتقرير وإن وُظّف إعلاميا وكان مادة للتعامل مع الرأي العام، لكنه لم يُغير الواقع شيئا، ومرت البلاد بفترة هدوء نسبي صاحبت حرب 1973 وما بعدها وليس بسبب إجراءات اُتخذت لدرء الفتن، فتكررت، وتكررت معها الحلول الأمنية والجلسات العرفية القاصرة بعيدا عن تطبيق القانون، وهذا فاقم من الفتن ووسع نطاقها.
وكان من المأمول أن تكون ثورة 25 كانون الثاني/ يناير حدا فاصلا بين عصر الفتن الطائفية، وعصر الثورة، الذي تترسخ فيه قيم المساواة والمواطنة والعدالة القانونية والاجتماعية والوحدة الوطنية، خأصة مع النموذج الفريد الذي سيطر على المشهد المصري والعربي والعالمي في الأيام الثمانية عشرة، التي اعتصم فيها ملايين المواطنين في ميدان التحرير وميادين مصر الأخرى، من لحظة الاندلاع في 25 يناير حتى ساعة سقوط مبارك في 11 شباط / فبراير 2011، وتصور الناس أن مصر طلقت الفتن بأنواعها إلى غير رجعة، وكما يقول العرب جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن. وأفرزت تطورات ‘ما بعد الميدان’ شيئا آخر معاكسا؛ اعيدت نفس السياسات القديمة، واستمر اعتماد الحل الأمني دون غيره، وفي كل فتنة تنتصب الجلسات العرفية لرجال الدين الإسلامي والمسيحي برعاية الشرطة، وكلها حلول قاصرة وغير قانونية؛ تعفي الجناة من المساءلة والمحاسبة.
وزادت الفتن الطائفية ولم تنحسر بعد ثورة يناير، وضاعف منها تحكم الأحزاب الطائفية والجماعات المذهبية في عقل المجتمع ومفاصل الدولة، ووجدت مصلحتها إشغال الناس بالفتن إلى أن تنتهي من تصفية حساباتها مع سلطات ومؤسسات الدولة، بداية من القضاء والإعلام والصحافة؛ مرورا بالشرطة والأمن؛ وصولا إلى التحرش بالقوات المسلحة، وإشاعة الأكاذيب عن المخابرات العامة، واستمرار المحاولات المستميتة للقضاء على دور الأزهر، وإضعاف دوره المؤثر على المستويات المحلية والعربية والدولية.
وتبدأ النار من مستصغر الشرر، كما يقول المثل. وفتنة ‘الخصوص’ مثل غيرها أشعلتها خلافات ومشاكل صغيرة؛ ولو لم تكن البيئة محتقنة ومهيأة للفتن لأمكن معالجتها بالوسائل القانونية والسلمية المتاحة، وكثيرا ما تشتعل بسبب معاكسات أو علاقات عاطفية بين شباب وفتيات مسلمين ومسيحيين، وما حدث في ‘الخصوص’ لم يكن خلافا لذلك؛ ونتج عن علاقة نشأت بين شاب مسلم وفتاة مسيحية؛ تطورت إلى اشتباكات.. استخدمت فيها الأسلحة النارية. وراح ضحيتها 4 مسيحيين ومسلم، وسقوط عشرات الجرحى والمصابين. وأثناء تشييع رفات الضحايا الأحد الماضي نشبت معركة دامية بين مسلمين ومسيحيين أمام الكاتدرائية، واستمرت يوما كاملا راح ضحيتها مواطن مسيحي وأصيب فيها قرابة 90 آخرين.
وأزاح المفكر المصري كمال زاخر، في صحيفة ‘اليوم السابع’ (عدد 9/ 4/ 2013)؛ أزاح الستار عن التغيير الذي طرأ على طبيعة الفتنة الطائفية عقب ثورة 25 يناير بحيث ‘أصبحت على أرضية دينية وليست سياسية’، وضرب مثلا بدعوة المحامي حازم صلاح أبو إسماعيل لحشد جماهيري لمواجهة القوى المسؤولة عما أسماه بـ’إجهاض المشروع الإسلامي’، ونسب إلى أبو اسماعيل القول إنه لو تم إجهاضه سيتحرك ضد الجيش، وهنا يؤكد زاخر أن ما حدث للمسيحيين جزء من مخطط محاربة القوى المخالفة للرؤية الطائفية والحزبية للأوضاع المصرية. وأضاف أن الفتنة محاولة لإيجاد غطاء سياسي يستهدف المسيحيين، وفق خطة ممنهجة لتفريغ مصر والمنطقة من المسيحيين.
واعتقد أن هذا هو بيت القصيد، وما يحدث من فتن بشكل دوري؛ هدفه أن يتعود المواطن على ظاهرة الاقتتال الطائفي ويتعايش معها ويقبل بها؛ من هنا تضعف المناعة الوطنية، وهذا متوقع إذا ما استمرت الأمور على نفس الوتيرة. وحين يتعود الناس على مظاهر العنف والدم، ويعايشونها تبدو وكأنها من طبائع الحياة، واسألوا الأشقاء اللبنانيين عن إفرازات الحرب الأهلية في الفترة من 1975 إلى 1990، وكانت معايشة القتل والدم والدمار ترسخ العزلة النفسية والسياسية بين المواطن وأخيه لمجرد الاختلاف في الدين أو المذهب، وذلك ما يلمسه المصريون بين كثير من عامة الناس. ويعمل القطبيون والوهابيون المصريون على نشر الفتن، وعدم قصر مخطط العزلة على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وامتدت إلى المسلمين أنفسهم، وهو هدف يسعون إليه ويطبقونه على المستويات الحزبية والتنفيذية والأهلية، وأصبح الموقف من المخالفين، غير المحسوبين عليهم بين الغالبية الكاسحة من المواطنين المسلمين يقوم على قاعدة الإيمان والكفر، وليس المصلحة المشتركة الجامعة للمواطنين والحامية للوطن، والقطبيون والوهابيون أشد نكالا بمخالفيهم المسلمين مقارنة بنظرائهم المسيحيين أو اليهود، فالمسلم من وجهة نظرهم أولى بالاستتابة أو الاقصاء والنفي وإهدار الدم.
وكي يتفرغ أتباع التيارين لمواجهة مخالفيهم من المسلمين؛ يعملون على الفصل الطائفي والفرز على أساس الدين لتعميق العزل النفسي والسياسي، والدخول إلى مرحلة التهجير السكاني والجغرافي، والتضييق على المواطنين المسيحيين؛ ودفعهم إلى الهجرة خارج البلاد، أو إرغامهم على ترك قراهم ومواطنهم الأصلية، وعزلهم في أحياء ومناطق تكون قاصرة على أبناء الملة الواحدة. وهذا يعتبره القطبيون والسلفيون شرطا ضرويا لنجاح ما يصفونه بــ’المشروع الإسلامي’.
وفي مواجهة دور الأزهر ودعوته لنبذ العنف والفتن الطائفية، والتصدي لنهج البابا تواضروس الثاني في إبعاد الكنيسة عن السياسة، ومسعاه لقطع الطريق على من يضيقون انتماء المواطنين المسيحيين في حدود الكنيسة، واستمرار ما كان عليه الوضع فى عصر البابا الراحل، وفوجئ القطبيون والوهابيون بكتلة المواطنين المسيحيين، وتحركها في فضاء أوسع من ‘الجيتو الكنسي’ السابق، مما أظهر انحياز غالبيتها العظمى للثورة، وجعلها أكثر تأثيرا على الرأي العام الإسلامي قبل المسيحي، وهذا يتناقض مع طموحات القوى الطائفية والجماعات المذهبية.
ومع الدور الذي يقوم به الأزهر حاليا، فإنه زاد من إيجابية ومشاركة المواطنين المسيحيين في العمل العام، وصاروا جزءا فاعلا وسط جمهور المدافعين عن الأزهر ضد ما يتعرض له من هجوم شرس وتشويه متعمد، وطلبهم أن يكون صمام الأمان من أجل تقوية العلاقات الإسلامية المسيحية على كافة المستويات.
وهناك من رأى ما جرى في قرية ‘الخصوص’ والهجوم غير المسبوق على ‘الكاتدرائية’، بأنه تأديب للمسيحيين المصريين على مساندتهم للأزهر الشريف؛ ليستكمل دوره في تعزيز التقريب بين المذاهب ونبذ العنف، وليتصدى لدعاوى مواجهة ما يُسمى بـ’المد الشيعي’، لمنع عودة العلاقات السياسية مع إيران، وعدم الاستمرار في الالتزام بحق النقض (الفيتو) الصهيو غربي على عودة هذه العلاقات، وتعزيز استمرار سياسة مبارك في حماية أمن الدولة الصهيونية.
ومواجهة ‘المد الشيعي’ ليست إلا ‘سبوبة’ يتعيش عليها شيوخ الفتنة؛ وتدر عليهم ملايين الريالات والدنانير والدولارات، وهم أصحاب مصلحة في تقسيم وتفتيت المنطقة كلها وليس مصر وحدها، وزعزعة البنيان الوطني المصري من أهم إنجازاتهم في هذه المرحلة لخدمة هذا المخطط!!.
‘ كاتب من مصر يقيم في لندن