في حديثه مع إحدى القنوات الفضائية قال مواطن لبناني معلقا على الثورة والموقف من السياسات التي تتبعها السلطة، والشخصيات التي تقف في مواجهة مطالب الإصلاح: «سرقتو حتى الحلم من الناس»، ولعله كان في هذا، وبسهولة، عابرا للاختلافات المحلية، ومؤكدا على وحدة الهم وتشابه الأسباب. ولكن في الوقت الذي كان يتحدث فيه عن سرقة الحلم، وتحديدا في نهاية شهر أكتوبر الماضي، لم يكن يدرك بعد كيف يتم تجهيز الأوضاع في مصر من أجل استمرار فكرة سرقة الحلم في المستقبل الممتد، ليس خلال السنوات القليلة المقبلة، ولكن خلال العقود المقبلة، التي يتصور من يسيطر على المشهد أنها كافية لتحويل التغيير إلى حلم أو كابوس، حسب موقعك من الفكرة وانعكاساتها، وتحويل الجيل الذي عاصر الربيع العربي إلى جزء من زمن فات، مثل الفترة وتطوراتها وحراك الشارع وتأثيره.
كانت الصورة حاضرة حين تم الحديث بشكل غير مباشر، وعبر مقال لكاتب صحافي مقرب من الرئاسة والرئيس عبد الفتاح السيسي في ديسمبر 2018 عن أهمية وجود مجلس حماية للدولة، وأن يتم تحميل الجيش بدور في تحقيق تلك المهمة عبر تعديلات دستورية، تسمح بمد فترة الرئاسة وتعديلها بما يضمن استمرار السيسي، الذي طالب بأن يتولى رئاسة لجنة حماية الدولة، بعد انتهاء رئاسته، في حالة لم يتم تعديل الدستور بما يسمح له بالاستمرار في السلطة بعد عام 2022، الذي كان يفترض أن يكون العام الأخير له في الحكم، وفقا للدستور قبل تعديله في 2019 بما يسمح له بالبقاء حتى 2030.
جاء توقيت الحديث الجديد، الذي نشر في مقال للكاتب نفسه بتاريخ 16 نوفمبر 2019، مثيرا ومؤكدا على استمرار سيطرة النبيذ القديم القائم من أيام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، حيث يتم الاعتماد على التسريبات التي تأتي في صورة إشاعات، أو تصريحات لمصادر مقربة، بدون الإعلان عنها، أو عبر أسماء مقربة تطرح الخطوات من قبيل جس النبض وتهيئة الشارع، والتعامل مع السلبيات المحتملة، قبل الإعلان الرسمي، أو من أجل إثارة الجدل ونزول الرئيس بوصفه الحاكم، صاحب القرار النهائي، والقادر على التدخل عندما تتعقد الأمور، بما يسمح بالحصول على بعض النقاط الإيجابية بدون وجود معركة حقيقية. المهم أن الإعلان عبر تلك الوسيلة القديمة، يؤكد غياب الإصلاح، ويجعل الحديث في المقال عن إدارة حوار مع النخبة، أو غيرها من القوى السياسية، ناهيك من الحوار المجتمعي ورأي الشعب في ما يحدث، خارج السؤال، لأن الموضوع معلب ويتم عبر أسماء محددة، وحتى الأحزاب تمت الإشارة إلى عدد منها، والخطوات المقترحة عبر مؤتمر لا تختلف عن المؤتمرات التي تعقد للشباب والسجون وغيرها، حيث كل الأشياء براقة وناصعة، والحياة سعيدة تماما، كما هي في يوتوبيا العاصمة الجديدة وليس في الواقع خارجها.
أثبتت التطورات أن الشارع لم يمت، والصمت لم يغلف الجميع بعد، والحراك يمكن أن يحدث كما الثورة بدون ترتيب
جاء المقال أو الإعلان السياسي عن الإصلاح المقبل قبل عام الإصلاح السياسي، مؤكدا على وجود نية حقيقية ومؤشرات للتغيير، في وقت كانت مصر قد خرجت من مواجهة حادة في المراجعة الدورية الشاملة، أثناء مناقشة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للملف المصري لحقوق الإنسان، الذي وصلت عدد الملاحظات حوله إلى 372 توصية وملاحظة من 133 دولة، بعد أن كانت 300 ملاحظة وتوصية من 117 دولة عام 2014، و122 ملاحظة وتوصية من 122 دولة عام 2010. كما جاء بعد التقرير الصادر عن 11 منظمة حقوقية مصرية حول أوضاع حقوق الإنسان خلال الأعوام الخمس الأخيرة، الذي أرسل إلى المجلس وأكد على تدهور الأوضاع عما كانت عليه عام 2014 وعدم تنفيذ التوصيات التي التزمت بها مصر وقتها. كما جاء بعد حملة الاعتقالات التي صاحبت حراك سبتمبر 2019، وبعد التقرير الأممي الذي ربط بين وفاة الرئيس الأسبق محمد مرسي وأوضاع السجون، ووسط محاولة تجميل واقع السجون قبل جلسة المجلس عبر لقاءات معلبة ومساحات للألعاب وأوقات للترفيه ووجبات طعام مميزة لم تتجاوز عن الكباب بوصفه جوهر مطالب الشعب في فيلم «الإرهاب والكباب» الشهير، وصولا إلى التشابه مع فيلم «البريء» والسخرية من واقع لا يشبه السجون، وسجون لا تشبه الصور، وفجوة دائمة الحضور بين الصور المعلبة والواقع بما يفترض أن يطرح التساؤلات لا أن يثير التفاؤل.
من جانب آخر عبر التمهيد كما قدم عن الخوف من الواقع، وما كشفت عنه الأحداث خلال الفترة الأخيرة في مصر والجوار بداية من حراك سبتمبر إلى ثورة لبنان وثورة العراق، مرورا بكوارث أخرى في مصر، لم تقتصر على شهيد الشهامة وشهداء الأمطار وشهيد تذكرة القطار، وامتدت إلى ضحايا تسريب وحريق أنبوب للبترول في محافظة البحيرة، وغيرها من التفاصيل التي غابت فيها الدولة، أو كانت شريكا ومتحملا للمسؤولية، وعبّرت فيها ردود الأفعال الشعبية عن عدم الثقة أو الخوف من السلطة أو كراهيتها. أكدت التطورات أن السيطرة ليست محكمة، كما تصورت السلطة، خاصة بعد تمرير السياسات الصعبة التي تمثلت في تقليص الدعم وانسحاب الدولة من أدوارها المفترضة، إلى تعويم الجنيه بدون تحديات حقيقية للسلطة. ولكن أثبتت التطورات أن الشارع لم يمت، والصمت لم يغلف الجميع بعد، والحراك يمكن أن يحدث كما الثورة بدون ترتيب وبغض النظر عن مشاعر الاطمئنان وتصورات البقاء، ولهذا كان من المهم التحرك ولكن ليس في سبيل إصلاح حقيقي، ولكن في سبيل إصلاح سياسي شكلي يهدف إلى تعميق السيطرة، وضمان أن هناك مساحة لا تمس هي مساحة الرئيس، ومن حوله في الدائرة الضيقة بمن فيهم الأسرة.
جاء المقال وكأنه رد على المواطن اللبناني، لأن المطلوب ليس فقط ضمان بقاء الرئيس في السلطة، ولكن ضمان السيطرة على السياسة المصرية في الحاضر والمستقبل البعيد، بعد كل تلك السنوات، حيث القلق من عدم وجود من يتحمل المسؤولية في عام 2024 إذا قرر السيسي عدم الترشح أو عام 2030 إذا ترشح وانتهت فترته، وكأن السلطة يفترض أن تحدد قائمة من يشغل المنصب للعقود التالية، وتصادر حق الشعب في الاختيار والفرز والمحاسبة عبر صناديق الانتخاب، وتفرض نوعا من الوصاية الممتدة، تبدأ من عدم أهلية الشعب، وضرورة لجنة الأخلاق وصولا لترتيب المشهد خلال عقود وعقود مقبلة. مشهد يعيد حديث أحمد راتب، الوزير صاحب التخطيط والتنفيذ في مرحلة ما بعد وفاة الزعيم، عن كيف لا ينام المسؤول من أجل التفكير في مصالح الوطن. وبهذا، نكتشف أن لا أحد ينام في مصر، لأن المطلوب هو وضع تصور للسلطة بعد 2030، وربما من الأسماء نفسها التي وضعت خطوط السلطة خلال العقود الماضية، ودافعت عن إصلاحات مبارك قبل أن تتحدث الآن عن الجمود في عهده وكيف أن الجمود والثبات لا يعبر عن استقرار بالضرورة، بدون أن تبدأ بقراءة الواقع بدقة.
وما يضيف لمفارقات مقال يتحدث عن الإصلاح وينتقد الخلط بين الشخص والدولة في عهد مبارك، أنه يعمد إلى تمييز وضعية خاصة للرئيس عبر التمييز بين ما يعرفه بأنه نظام الحكم ممثلا في الرئيس من جانب، والنظام السياسي ممثلا في سلطات الدولة خارج الرئيس من جانب آخر في تعريف يعيد إلى الواجهة كتابات سابقة في هذا المكان، عن كيف يتم الإلقاء بالمفاهيم الكبرى في مقابر الذاكرة، واختراع مفاهيم أخرى من شأنها تحسين صورة السلطة، بوصفها وإن كانت لا تطبق القواعد والقوانين وفقا للمفاهيم المعروفة فإنها تطبق أشياء أخرى، وتحقق إنجازات أخرى وفقا للمفاهيم المستحدثة، كما حدث مع فكرة الإرهاب والإصرار على اعتبار مكافحته حقا من حقوق الإنسان. وبهذا، ومن أجل إخراج الرئيس، بشكل يبدو سياسيا وإصلاحيا وقانونيا، من دائرة المساءلة والنقد والمحاسبة، وهي جوهر الديمقراطية والإصلاح السياسي المفترض، يعيد الطرح المقدم تعريف مؤسسات الدولة والنظام، وحتى آليات العمل السياسي، وهو يؤكد على ضرورة وجود طبقات سياسية وتنفيذية وإعلامية أمام الرئيس وحوله، وكأنها مساحة عازلة وإدارة للسياسة بطريقة المعارك العسكرية، ولكنها معارك يجلس فيها القائد في الخيمة الأخيرة المحاطة بكل الأسلحة والقوات المحصنة، حتى لا تصل إليها أصوات الاعتراض وانتقادات السوشيال ميديا والأصوات الغاضبة. رؤية تؤكد أن ما يقدم أبعد ما يكون عن الإصلاح السياسي، وأنه طريقة للسيطرة على السلطة، ولكن وفقا للقواعد والقوانين والتعريفات التي يتم وضعها وتقنينها حتي يتطابق القانون مع الواقع.
يتكرر الحديث عبر الطرح المقدم عن رؤية الرئيس، وما يريده من مؤسسات الدولة، ويصبح على البرلمان أن يدرك أن الوقت قد حان للظهور في صورة الجهة التي تقوم بعملها في النقد والمحاسبة، وعلى الإعلام أن يمارس دوره في تحصين المواطن، من الحرب النفسية بوصفها التحدي الذي تحدث عنه الرئيس، بعد أحاديث محمد علي، وليس الفساد وغياب المكاشفة والمحاسبة، وعلى المؤسسة الدينية أن تشارك في عملية الإصلاح الاجتماعي، وهو ما يرسخ سيطرة الفرد، ولا يدشن الإصلاح الذي يبشر به، خاصة أنه يتجاوز عن أن الرئيس وفقا لأصل الأشياء جزء من السلطة التنفيذية، وليس جهة فوق تلك المؤسسات، إن أردنا إصلاحا حقيقيا يقوم على التوازن والفصل بين السلطات.
على عكس المفترض، لا يقدم الحديث وتفاصيله صورة مشرقة، كما يبشر الكاتب، بقدر ما يؤكد على الدخول في مرحلة جديدة من الصراع، من أجل السيطرة على الواقع، مرحلة تقوم على تمييز الحاكم بوصفه في مكانة خارج دائرة السلطة، التي يمكن تغييرها ونقدها ومحاسبتها، بوصفها متغيرة في حين أن الحاكم دائم ولا يمس، وتأثيره يمتد حتى بعد عقود الحكم، لأن الشعب لا يلم بفلسفة السلطة والحكم ولا يملك الحق في أن يحلم ويدافع عن حلمه في الحرية والديمقراطية الحقيقية وهو ما لا يبعث على التفاؤل.
كاتبة مصرية