شهدت الساحة المصرية على اتساع مداها المرئي والمسموع وفضائها اللانهائي يومي السبت والاحد، الاول والثاني من كانون الاول/ديسمبر الحالي تصويتا علنيا ‘الكترونيا’على النسخة السادسة من مسودة الدستور الجديد.. تصويت استقبله اهتمام شعبي تناسب طرديا مع اهمية الحدث كأول نجاح مادي ملموس لخارطة طريق ثورة 30 يونيو.
هو نجاح موثق بكل المقاييس.. يستحقه الشعب المصري رغم ما يعانيه من موجات عنف متتالية يتعرض لها بشكل بغيض من اطراف لا ترضي له ان يُنهي حالة انتقاله من مرحلة فساد وافساد عاش تحت وطأتها اكثر من ثلاثين عاما، وما يبذله من مقاومة لمحاولات اجباره على العيش في ظل حملات ترويع تقوم بها جبهات وتيارات وتجمعات لا تريد له ان يستقر، وتعود اليه اجواء أمنه واستقراره التي تفتح له ابواب انتاجه التي اغلقت في وجهه منذ نحو ثلاث سنوات.
وتستحق بسببه لجنة الخمسين باعضائها الاصليين والاحتياطيين ورئيسها الشكر والتحية، على الجهد الهائل الذي بذلوه جميعا لانجاز المهمة القومية التي كلفوا بها في موعدها المقرر سلفا.. متمسكين باطار التوافق الوطني حريصين على تجاوز موجات التشكيك والغام التفجير من الداخل ودوافع الاحباط من الخارج، مما يسر عليهم ـ رغم المصاعب العظام ـ ان يتوافقوا على حلول مبسطة لمشاكل بدت في معظم الاوقات عصية على التجاوز بعد 56 جلسة عمل جملة اوقات انعقادها بلغت 272 ساعة، بالاضافة الى 306 اجتماعات عقدتها اللجان النوعية ولجنة الاستماع.
مسودة الدستور النهائية التي قدمها الدبلوماسي العتيد عمرو موسى لرئيس الجمهورية في اليوم التالي لانتهاء التصويت، تحظى بقبول وتأييد الغالبية العظمى من تيارات المجتمع المصري المتعددة، ذات الرؤية التي تتنوع بين الوان الطيف السياسي المختلفة وبمعارضة قلة، لها تواجهـــــاتها الايديولوجيه ومنطقها الاحادي. وكلاهما الاغلبية والاقلية يؤسس موقــــفه من منطلق تبنيه لاهداف ثورتي يناير 2011 و يونيو 2013 وما اذا كانت الاخيرة ثورة ام انقلابا، ومن ثم توافقــــه او اختلافه مع ما نجم عنها من خارطة طريق أيدتها القــــوى السياسية المدنية، والاهم من ذلك مدى ايمانه او انكاره لشرعية الرئيس المخلوع محمد مرسي.
المؤيدون.. يؤسسون موقفهم على تجربة فاشلة لاثني عشر شهرا تولت فيها جماعة الاخوان بشكل مباشر مسؤولية ادارة شؤون البلاد والعباد، نجحوا خلالها في تقسيم الشعب الرافض لمخطط التمكين لافكارهم احادية التوجه، وفي تفتيت مؤسسات الدولة الضاربة في اعماق التاريخ، وفشلوا في اختراق اهم مؤسستين تقومان على خدمته وهما القضائية والعسكرية.. ويدعمون هذا التأسيس بمزيد من انكار للوعود وتعميق للخلاف حول الهوية والثقافة المجتمعية ومستويات التدين وحقوق المرأة ومواطنة الاقباط.. الخ
ويقارنون بين دستور 2012 وما هو بين ايديهم اليوم .. ويعززون التوصل الى مواد جديدة تنص على ضمان حرية الرأي والابداع وحريات الاعلام، وزيادة مخصصات التعليم والعلاج والبحث العلمي.. وكذا المواد التي اقرت الحق في اصدار الصحف وتشكيل النقابات والاتحادات وانشاء الجمعيات عن طريق الاخطار، خاصة تلك التي تحرم تكوين الاحزاب ذات الصبغة الدينية وتلك الخاصة بمنع الحبس في قضايا الرأي والتعبير عن وجهات النظر بالطرق السلمية. ويتفاخرون بكل ما تناوله الدستور من دعم لكافة حقوق الانسان تحت مظلة مبادئ المواطنة المتساوية التي جَرمت التمييز بسبب الجنس او اللون او الدين او الاصل، او بسبب الاعاقة او الانتماء السياسي.
المعارضون.. يدعون ان بنيان دستور 2013 قريب الى حد الشبه من بنية دستور 2012، على الرغم من ذلك يجاهدون للتنكيل به ويَدعون ان باب المقومات الاساسية للمجتمع لا شأن لها بالدساتير في ثوبها الذي أقره العالم خلال سنوات العقدين الاخيرين! ويعلنون معاداتهم الصريحة للاسرة كما وصفتها مسودة الدستور الجديد خاصة الحرص على بنيانها المجتمعي، لان المواد المتعلقة بها لم تُعظم في رأيهم من دور الاسرة المسلمة، وتتعالى اصواتهم ضد النص المتعلق بدور مؤسسة الازهر الشريف ويتباكون على انه ‘حد كثيرا’ من دوره الذي صاغوه في دستورهم الذي فرض على الدولة ان تأخذ رأيه في كل ما يتعلق ‘بأمور التشريع’ بحيث يجعلها رهينة لقضايا فقهية تَجمد الرأي عندها منذ نهاية القرنين الاولين لهجرة المصطفى عليه السلام.
ويواصلون بلا منطق المناداة بالاحتكام الى الدستور الذي اسقطته الجماهير يوم 30 يونيو، متغافلين كلية عما جرت به المياه تحت جسور التوافق بين الجماهير وخارطة الطريق التي ارتضتها بعد التأييد الذي حظيت به في ضوء الاجماع الوطني الذي ظللته الحماية التي وفرها المجلس الاعلى للقوات المسلحة.. ورافضين بحماس للمادة التي الغت حظر قيام الاحزاب على اساس ديني، مطالبين بان تكون ممارسات الحقوق والواجبات بما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة وفق تفسيراتها الواردة في مصادرها المعتبرة عند اهل السنة والجماعة.
ويتخذون من النصوص التي تخضع المدنيين للمحاكمات العسكرية اذا ما قاموا بالاعتداء على افراد القوات المسلحة او منشآتها مادة حيوية للاعتراض والترويع في نفس الوقت.
وان كنت انا مثلهم ارفض هذا النص، الا انني اقف في صف المطالبة السلمية بتقديم من يرتكب مثل هذه الجرائم امام قضاة مدنيين مع تشديد وتغليظ العقوبات التي من المفترض ان تطبق عليهم. اما تنكيلهم بلجنة الخمسين بسبب ما اقترحته من تحصين لمنصب وزير الدفاع ، فهو امر ممجوج من بدايته الى منتهاه لان النص الوارد في المسودة يقضي بأن يكون ذلك الوضع لدورتين رئاسيتين اي لمدة 8 سنوات ‘لما يحيط بالوطن من تعقيدات شائكة وظروف يقدرها المجتمع وحفاظا على أمن وتماسك القوات المسلحة ولحمتها القومية العريقة’.
وما بين المؤيدين والمعارضين.. ابدت مجموعات تنويرية وقانونية وحقوقية اعترضات على ديباجة المسودة.. فهي عندهم لابد ان تتجرد وأن تأتي قصيرة تتسم بالتركيز على فلسفة ما تُقدم وتُدبج له، وما كان لها ـ في رأيهم – ان تلجأ الى افعال التفضيل لا في وصف مكانة مصر وشعبها ولا في الاشارة الى النماذج الشامخة من زعمائها.
ربما لا يكون التجرد واضحا للعيون الناقدة وربما يكون التطويل مقارنة بالاسطر القليلة التي قدمت لدساتير دول اخرى مطلبا ساميا في حد ذاته، الا اننا نختلف معهم جذريا في رفضهم الاشادة بالزعامات التاريخية، لان العديد من دساتير الدول الديمقراطية الاقدم عمرا مجدت في مقدماتها البارزين من قادتها ورسل التنوير والاصلاح الذين سطروا تاريخ بلدانهم بصبر وسلمية.
اقول.. مازال المشهد المهيب الذي انهت به لجنة الخمسين اعمالها يلامس شغاف وجداني، ومازال تأثري بنغم السلام الوطني الذي توج هذه النهاية حاضـــرا في مسمعي.. ومازالت صور الاعضاء ماثلة في مخيلتي وهم يتعانقـــون ويُهنئ بعضهم بعضا وسط زخات من صدق الدموع وكلمات التقدير التي عبرت عنها شفاه الشباب والشيوخ وكلمات البكاء الصامت التي زينت عيني الدكتور حسام المساح وسعادته العفوية باقبال الكثيرين عليه مقدرين لدوره في اقرار حقوق المعاقين، وبهجة ممثلي تيار الثورة بما بذلوه من جهد في لجنة الحقوق والحريات وحرص الجميع على تبجيل شيوخ وحكماء اللجنة وسط تعانق ممثلي الازهر الشريف والكنيسة.
اخيرا.. مازالت عيناي تحتفظان بحالة التفاف الجميع حول رئيس اللجنة ونوابه لالتقاط الصورة التذكارية التي بدأت بها نشرات الليل الاخبارية فقراتها وزينت بها وسائل الاعلام المقروءة صفحاتها الاولى.
اتوقع .. انه ستكون لنا ملاحظات حول مسودة الدستور الذي حظي بتوافق مجتمعي يُعبد الطريق للعبور نحو المستقبل من منطلق ان اللحظة في رأيي فارقة بكل المقاييس لانها تفصل بين ما يقرب من ثلاث سنوات من الاضطراب والتخبط والتردد وربما التراجع، وتدشن لحقبة تاريخية يستحقها الشعب المصري تحت مظلة دستوري يعكس اهدافه الثورية ويحفظ له انسانيته ويؤسس لاعلاء مصلحة الوطن والشعب بغض النظر عمن يجلس على كرسي الرئيس او من يفوز بعضوية المجلس النيابي او من يرأس مجلس الوزراء.
‘ استشاري اعلامي مصري مقيم في بريطانيا
هذا المقال لايستحق التعليق عليه لانه يلمع وجه الانقلاب القبيح وييبرر الطريقة غير الشرعية التي شكلت لجنة العشرة ولجنة الخمسين على عكس لجنة دستور 2012 التي كانت منتخبة وليست لجنة معينة.