يفضل البعض على ما يبدو اتباع الأسلوب الأسهل، المحفوف بالمخاطر، رغم هذا، في التعامل مع تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن «تهجير» أو «نقل» الفلسطينيين إلى مصر والأردن، باعتبارها لا شيء، أو «فنكوش»، التعبير الدارج في مصر للتعبير عن العناوين الكبرى الفارغة من المحتوى.
ظهر هذا الحديث بشكل مباشر وغير مباشر خلال الساعات التي أحاطت بتجمع الحشود على الجانب المصري من معبر رفح في 31 يناير الماضي، بهدف التنديد بتصريحات ترامب المتكررة، التي لم تتوقف عن الظهور، رغم تكرار الرفض المصري والأردني من أعلى المستويات الرسمية لتلك التصريحات.
وفي حين تعاملت بعض الأصوات مع تصريحات ترامب على أنها «فنكوش» مباشر أو مجرد تصريحات إعلامية لا تتجاوز التعبير عن أسلوب ترامب الخالي من المحتوى، تعامل البعض الآخر معها بوصفها «فنكوش» غير مباشر بتصور القدرة على مواجهته، عبر صور الحشود ورفع الأعلام وتصعيد الهتافات.
وفي حين يرتب الرأي الأول، رفض تخصيص الوقت والجهد للتعامل مع «فنكوش» ترامبي الطابع، يقوم الثاني على تصور إمكانية توظيف الحشود من أجل إيصال رسائل شعبية من شأنها، نظريا، تغيير موقف ترامب، وتأكيد الرفض المصري للفكرة بكل ما تحمله من مخاطر وتهديدات تتجاوز استهداف تغيير واقع غزة وتصفية القضية الفلسطينية، كما تركز معظم الأصوات الرافضة، على عدم المساس بواقع مصر وهويتها وسيادتها. ورغم الاعتماد على توظيف الفنكوش بصوره المختلفة من تلك الأطراف، يرى كل طرف أنه صاحب الصوابية السياسية، المختلف عن الآخر والمحتكر للحقيقة. في هذا السياق، يتهم الطرف الأول، من خلال تعليقاته الطرف الثاني بأنه يفرط في توظيف تهديدات ترامب الكلامية من أجل خدمة أهداف داخلية، وتركيز الجهود بعيدا عن القضايا ذات الأهمية، في حين يتهم الطرف الثاني بدوره الطرف الأول بأنه يتجاهل قيمة السيادة المصرية، ولا يهتم بمخاطر تصفية القضية الفلسطينية، ويستخدم الحدث والتعامل معه في صراعات داخلية تهمش القضايا المصيرية. مع أهمية القراءة المعمقة لما تطرحه تلك الأطراف من نقد متبادل، وما تعبر عنه من آليات في ما يتعلق بالعمل السياسي المصري، يساهم الاتفاق على تحويل قضية مصيرية بحجم سيناء والهوية المصرية والقضية الفلسطينية إلى «فنكوش»، في الإساءة إلى حجم المخاطر والتهديدات المحتملة، حيث يتفرغ كل طرف إلى بناء الصورة، والحديث عن قدرته على إبعاد الاهتمام عن الخصم والانتصار في معركة الحضور، عبر وسائل التواصل الاجتماعي «السوشيال ميديا» والظهور الإعلامي، وكأنها «معارك» قادرة على حماية وطن وإفشال مخططات، ومواجهة مخاطر وتهديدات تظل في حدها الأدنى ممكنة ومحتملة.
يحررنا التفسير السهل في قراءة ترامب، ووضع الحديث عن تهجير سكان غزة ضمن سياق الحديث عن بنما وغيرها من التجاوزات، من الترقب والاستعداد والمواجهة المفترضة
تتمثل السهولة المخيفة للقراءة القائمة على التعامل مع تصريحات ترامب بوصفها مجرد «فنكوش»، في قدرتها على إنهاء المشكلة قبل أن تبدأ عبر إنكار وجودها، أو تهميش هذا الوجود وآليات التعامل معه. يتم وفقا لهذا التعامل مع تلك التصريحات باعتبارها في النهاية مجرد لا شيء يكرره رئيس تعود على تجاوز الدبلوماسية، والحديث علنا وخارج الغرف المغلقة عما يحدث أو يريد، من دون قيود ضمن تجاوزات متعددة تسعى إلى فرض الإرادة الترامبية على العالم. تجاوزات ظهرت مع رئاسة ترامب الثانية بصورة أكثر وضوحا، لتشمل خلال أيام من رئاسته الإعلان عن الرغبة في السيطرة على قناة بنما، وضم كندا وجزيرة غرينلاند، بالإضافة إلى فرض العديد من القيود والعقوبات التي هددت دولا ومنظمات مختلفة حول العالم.
في حين يحررنا التفسير السهل في قراءة ترامب، ووضع الحديث عن تهجير سكان غزة ضمن سياق الحديث عن بنما وغيرها من التجاوزات، من الترقب والاستعداد والمواجهة المفترضة، إلا أنه للمفارقة يجعلنا نبتعد عن الحقيقة ونسقط في الفخ، عندما تصبح فرص التحرك متأخرة، في ظل استمرار مخاطر التهجير بكل مسمياته وأدواته، مع حرب تلوح دوما في نهاية كل مرحلة من مراحل التبادل، وفي نهاية كل عملية تسليم أسير أو رهينة من قبل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وفي مواجهة تحرير كل أسير فلسطيني، خاصة من أصحاب المؤبدات والمحكوميات العالية، وكل شارة نصر وكلمة دعم للمقاومة، ومع كل صورة تعبر عن حضور حماس في القطاع بالمخالفة لحديث حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن «النصر المطلق».
في العمق يتم التجاوز عن المخاطر الفعلية التي تمثلها تصريحات ترامب، بوصفها جزءا من سياق إسرائيلي لا يستبعد بكل تنويعاته ضرورة التخلص من جزء كبير من الفلسطينيين في غزة والقدس والضفة الغربية، ولا يتوقف منذ بداية الحرب عن استهداف مصر والأردن، ضمن تلك المخططات. ومقابل خيار اللافعل الذي يرفعه الطرف الأول القائل بغياب التهديد، يوظف الثاني آليات استخدمت في بداية الحرب في مواجهة التصريحات الإسرائيلية الداعمة لفكرة التهجير الفلسطيني القسري و»الإرادي»، المدفوع بالعنف غير المسبوق ضد القطاع، ولكنها مقاربة لا تصلح بالضرورة في التعامل مع المعادلة الجديدة للتطورات، بإضافة عامل ترامب وإدارته القريبة من اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفا.. تقارب يجعل تحركات ترامب وإدارته تنفيذا لخطوات اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفا على صعيد الاستيطان وتصفية القضية الفلسطينية بصور مختلفة، ضمن إطار أوسع يتعلق بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، كما تحدث عنه نتنياهو مع اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في سبتمبر 2024.
يعيدنا اقتراب «الفنكوش» الحاضر للتعامل مع تصريحات ترامب، الذي يفصل تلك التصريحات أحيانا عن سياق التهديد الممتد لقطاع غزة على مدار الحرب الدائرة منذ أكتوبر 2023، وعن الخطاب الأمريكي المتماهي مع الرؤية الإسرائيلية اليمينية الأكثر تطرفا، خاصة في ظل ترامب وإداراته، إلى مخاطر تهميش القضايا الجادة والمصيرية وتحويلها إلى ساحة للسجال الداخلي والصراع الإعلامي وحرب النقاط، على وسائل التواصل الاجتماعي. كما يبعدنا بالمقابل عن أبجديات المواجهة القائمة على الاستعداد للسيناريوهات الأسوأ، ويقوم بدلا من ذلك على توصيل رسائل تتفق في جوهرها على تصدير الاطمئنان غير المبرر، وكأن قناعة الداخل بغياب التهديدات يمكن أن تغير مخططات ومخاطر الخارج، التي يفترض أننا نرى منها قمة الثلج المعلنة فقط.
في النهاية، ورغم السير على طريق الفنكوش كثيرا، دون الوصول، وأهمية تغيير الطرق أو مقاربات التعامل مع المشاكل حتى تتغير النتائج، نعيد السير على الطريق نفسه ونتصور أن صورة وعلما كافية من أجل تحقيق الأهداف وحماية المصالح العليا، مع تجاوز حقيقة تغير الظروف، وعلى الرغم من أن خير طرق الدفاع هي الهجوم، وفي تلك الحالة الاستعداد قبل العاصفة باعتبار ان الاستعداد لا يضر وغيابه لا يفيد. واقع يتطلب وضع الثوابت بصور لا تقبل المساومة، وتسمح بالمقابل بفرض الحدود على الآخرين، وتحديد قواعد المواجهة وحدود الاشتباك بعيدا عن جدالات عالم الفنكوش الممتدة.
كاتبة مصرية
غير مطلوب من نظام الانقلاب أن يستعد، مطلوب منه فقط أن ينفذ. الاستعداد يكون من طرف الأبطال الأشاوس الذين يحملون هم الأمة بأجمعها.