مصر وإثيوبيا: ضجيـج بلا طحـن

المعدات العسكرية التي أرسلتها مصر إلى الصومال أخيراً، بصحبة عدد من الخبراء العسكريين، حركت المياه الراكدة، في مجرى ملف نهر النيل وسد النهضة الإثيوبي، على المستويات السياسية والإعلامية والشعبية، في كل من القاهرة وأديس أبابا، بالتزامن مع إعلان الرئيس الإثيوبي آبي أحمد، الانتهاء من عملية تشييد السد بنسبة 100% في ديسمبر المقبل، مشيراً إلى أن إجمالي المياه المحتجزة خلف السد الآن بلغت 62.5 مليار متر مكعب، وستصل إلى 72 ملياراً مع الانتهاء من التشييد، وهي السعة الكلية النهائية.
على خلفية تصريحات آبي أحمد، وجهت مصر، الأحد الماضي، خطاباً إلى مجلس الأمن الدولي، ترفض فيه السياسات الإثيوبية الأحادية، باعتبارها – حسب نص الخطاب- تخالف قواعد ومبادئ القانون الدولي، وتشكل خرقاً لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا، مع الوضع في الاعتبار أن مجلس الأمن كان قد عقد اجتماعاً خاصاً لمناقشة هذه القضية في يوليو 2021، إلا إنه لم يُصدر أي قرار، بشأن مشروع تقدمت به تونس في حينه، يدعو إلى اتفاق «ملزم» بشان تشغيل السد، بعد أن شددت الدول الأعضاء في المجلس على الاكتفاء بدعمها للوساطة الافريقية.
جاء فشل مجلس الأمن الدولي في إصدار قرار ملزم في الماضي، ليؤكد أن الرسائل والتصريحات الصاخبة على مدى عشر سنوات، منذ عام 2014 حتى الآن، ما هي إلا تحصيل حاصل، حركها فقط ضجيج المعدات العسكرية المرسلة للصومال أخيراً، بناء على اتفاقية تعاون عسكري مع مصر، بالتزامن مع خلافات صومالية ـ إثيوبية، حول قيام الأخيرة بإنشاء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، لدى ما يعرف بالإقليم الانفصالي «أرض الصومال» الأمر الذي أزعج القاهرة ومقديشو، وردت عليه إثيوبيا بإرسال سفير إلى الإقليم موضوع الخلاف، فيما يشير إلى الاعتراف به كدولة مستقلة، لم تعترف بها الأمم المتحدة، ولا أي دولة أخرى في العالم حتى الآن. كل التحليلات والتوقعات اتجهت، بمجرد إرسال المعدات، إلى التكهن بمواجهة عسكرية بين كل من مصر وإثيوبيا، أو على أقل تقدير تلويح مصري بالمواجهة، الأمر الذي يتنافى مع المنطق والواقع من وجوه عديدة، يمكن إجمال أهمها في التالي:
أولاً: إن الأعمال الإنشائية للسد انتهت بالفعل، حسبما أكد رئيس الوزراء الإثيوبي، ما يعني أنه لم يعد ممكناً بأي حال، تضمين عملية البناء ممرات أخرى جديدة، يمكنها السماح بعبور المزيد من المياه إلى دولتي المصب، مصر والسودان، وهي القضية الأولى التي كانت موضوع الخلاف، والأهم أنه بعد وصول المخزون إلى السعة الكلية، ستكون إثيوبيا مجبرة على فتح الممرات الموجودة، المغلقة حالياً، التي احتجزت حصة كل من مصر والسودان هذا العام.

الإجراء المصري بإرسال قوات ومعدات عسكرية إلى الصومال، دون الإشارة إلى إثيوبيا في القرار، حقق ملاحظة واضحة في الشارع المصري، وهي صرف الأنظار عن قضية غزة

ثانياً: إثيوبيا لم تسمح لأي من مصر أو السودان، بالاطلاع على الرسوم الإنشائية الخاصة بعملية البناء منذ البداية، في الوقت الذي تتحدث فيه التقارير، عن وجود عيوب فنية في جسم السد من جهة، ومن جهة أخرى وجود فالق جيولوجي في الموقع الذي تم اختياره لإقامة السد، ما يهدد دولتي المصب بالغرق على المديين القريب والبعيد، وجميعها أمور كارثية، بالتالي لسنا أمام أخطاء يمكن تداركها.
ثالثاً: تخزين كل هذا الكم من المياه، يحرم مصر من الخيار المتعلق بالتعامل العسكري مع السد بقصفه أو حتى تخريبه، ذلك أن خطر انهياره وما يسببه من غرق لكل من مصر والسودان، لا يقل عن خطر نقص المياه أو العطش، الأمر الذي راهنت عليه إثيوبيا من البداية، بجر الدولتين إلى مفاوضات ماراثونية عقيمة، حتى يمكنها الانتهاء من عملية التشييد، وحين ذلك (ستقوم دولتا المصب بحمايته، بل إصلاح أعطاله) حسبما صرح أحد المسؤولين الإثيوبيين.
رابعاً: إن تكلفة إنشاء السد التي بلغت نحو سبعة مليارات دولار، لم تتكفل منها إثيوبيا بأكثر من مليار دولار، ما يعني أن هناك ستة مليارات دولار، استثمارات أجنبية، خليجية، وإسرائيلية، وصينية، وروسية، وإيطالية، وألمانية، بخلاف صندوق النقد والبنك الدوليين، ما يعني أن هذه الدول والجهات، لن تسمح بالإضرار باستثماراتها، ليس في السد فقط، وإنما في مجالات عديدة هناك، سوف تتطلب الدفاع عنها.
خامساً: دول الاتحاد الافريقي في معظمها، ترى في السد إنجازاً افريقياً، سيحل الكثير من مشاكل الكهرباء هناك، ناهيك عن التنمية التي تروج لها إثيوبيا في الداخل الإثيوبي والقارة السمراء على حد سواء، الأمر الذي من شأنه تحجيم أي أفكار سلبية مصرية، وربما يؤكد ذلك اقتراح جيبوتي قبل أيام، إقامة ميناء على سواحلها بالبحر الأحمر بإدارة إثيوبية 100%، حلاً للأزمة القائمة.
سادساً: وهو الأهم، أن إعلان المبادئ الذي وقعه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مارس 2015 مع كل من الرئيسين، السوداني السابق عمر البشير والإثيوبي آبي أحمد، لم يتم النص فيه على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل (55 مليار متر مكعب) أو على حقوق السودان (18 مليار متر)، بل اعتمد تعبير (حسن النية) في أربع نقاط، من بين النقاط العشر التي تضمنها البيان، ما يجعل استناد مصر إلى الاتفاق، في الخطاب المرسل إلى مجلس الأمن، أمرا يثير الدهشة.
سابعاً: يستضيف الصومال حالياً عشرة آلاف جندي إثيوبي، من بين قوات البعثة الافريقية لحفظ السلام، من المنتظر انسحابهم لحساب قوات مصرية تحت بند دعم الاستقرار، من خلال الاتحاد الافريقي أيضاً، وقوات أخرى من خلال اتفاقية دفاع مشترك، ما يعني أننا أمام ضمانات افريقية ودولية لطبيعة عمل هذه القوات أو تلك.
ثامناً: وجود قاعدة عسكرية تركية (معسكر تركسوم) هي الأكبر في العاصمة مقديشيو، منذ عام 2017، إلى جانب كلية حربية هناك، يضع حدوداً كبيرة، لطبيعة عمل القوات المصرية، في ضوء العلاقات المصرية- التركية التي لا يمكن وصفها بالطبيعية، وربما هذا ما يفسر اختيار الرئيس المصري توقيت زيارة تركيا أمس الأول، رداً على زيارة الرئيس التركي، التي مضى عليها نحو سبعة شهور، وتحديداً في فبراير الماضي، بما يعني أن هذه القضية كانت في صلب المحادثات، إلى جانب الأزمة الليبية، وحرب الإبادة في غزة، وغاز المتوسط، والعلاقات بين البلدين.
هو إذن، ضجيج بلا طحن، ذلك الذي نشاهد ونسمع، بعد أن أصبح سد النهضة واقعاً لا مفر منه، ويجعل من الدعوة التي أطلقها وزير الخارجية الإثيوبي لبدء مفاوضات جديدة حول السد، مجرد هراء، لا يفضي عملياً لأي جديد، إلا أن الإجراء المصري بإرسال قوات ومعدات عسكرية إلى الصومال، حتى دون الإشارة إلى إثيوبيا في القرار، حقق ملاحظة واضحة في الشارع المصري، وهي صرف الأنظار عن قضية غزة إلى حد كبير، ذلك أن اتجاهات الرأي العام المصري كانت تميل نحو ضرورة اتخاذ موقف جاد، يليق بمصر، في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. وجاءت عملية الإعلان عن إرسال قوات إلى الصومال، لتوجه بوصلة الرأي العام إلى القضية الوجودية المتعلقة بمياه النيل، والموقف الإثيوبي المتعنت تجاه حقوق مصر التاريخية في المياه، التي نصت عليها اتفاقيات 1902و1959، وهو أمر يجد هوى مصرياً واسعاً، إلا أن عشر سنوات من المفاوضات كانت كفيلة باتخاذ إجراء رادع، عسكرياً كان أو غير عسكري، غير أن الرئيس المصري اكتفى بترديد رئيس الوزراء الإثيوبي قسم اليمين، بأنه (لن يضر بحق مصر في مياه النيل) رغم أنه لا يجيد اللغة العربية التي رددها، أي لا يعي ما يقول!
ولأن إسرائيل كانت الداعم الأول لبناء السد الإثيوبي، قبل إنشائه بنصف قرن، ثم تمويله من خلال البنوك واكتتاب الأفراد هناك، ثم حمايته بنصب حائط صواريخ مضادة للطائرات، فإن منطق السياسة والاقتصاد والأمن القومي، كانت تحتم جميعها الرد على إسرائيل في غزة عسكرياً، والتعامل مع السد في المهد، حسبما خطط لذلك الرؤساء عبدالناصر والسادات ومبارك على التوالي، ما جعل من بناء السد، مجرد حلم إثيوبي طوال فترات حكم الرؤساء الثلاثة. إلا أن الألفية الثالثة قد جاءت بما لم يحلم به الفيلسوف اليوناني هيرودوت، الذي أطلق المقولة الخالدة (مصر هبة النيل) وذلك في زمن الاستعمار، الذي حافظ على حقوق مصر التاريخية في المياه من خلال اتفاقيات رسمية، ولم يكن يدور في خلد هيرودوت أبداً، أن تدوير مياه الصرف الصحي، سوف يمثل البديل الرسمي لمصر والمصريين، في يوم من الأيام على أيدي أبنائها، أو بمعنى أدق: أحد أبنائها.
كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Ali:

    ضاعت مصر و لم يبقي لها أي شرف عندما انصمت الي التحالف العربي ضد اليمن و الحصار ضد قطر. يجب نسف السد مهما كلف الآمر

  2. يقول الحسن:

    مصر تخلت للأسف على الكثير من أدوارها التي تستطيع القيام بها.

  3. يقول صقر قريش:

    أصبحت مصر مسخرة وأضحوكة تثير الشفقة في عهد السيسي.
    ان يقوم رئيس مصر بعمل حلقة زار وان يجعل أبي احمد يحلف يمين يذكرني بأيام المدرسة الابتداءية.
    ويذكرني بأغنية تقول من قلبي بحلف لك يمين اني على حبك امين.
    وخلي الشوارب عاجنب.
    هكذا تدار البلاد وهكذا تدار العلاقات بين الدول.
    ضاعت المهابة ولم يعد احد يلقي بالا لمصر ولا استبعد انشاء سدود فرعية في المستقبل على نهر النيل امعانا في اذلال مصر حيث قلة الحيلة والعجز والمسكنة لا تخفى على احد.
    ومصر اليوم في عيد.

  4. يقول طارق:

    مصر تعيش فترة عصيبة من حياتها.

    الانشقاق الذي أحدثته محاولات تحريك عقارب الساعة إلى الوراء و الى ما قبل الحراك أصاب مصر و قدرتها على المناورة و فرض الذات في مقتل.

    تصور فقط لو تقدمت مصر إلى الأمام بعد الحراك و لم تتكلف تكاليف الرجوع إلى الوراء ، كيف كان سيكون حالها و موقعها بين الأمم اليوم؟

    الأوطان تهون و تنهار بفعل و مفعول القرارات الكارثية.

اشترك في قائمتنا البريدية