مظاهرة في قاعة السينما

ينظر قائد مجموعة هجوم الطائرات العمودية العملاقة بعينه المجرّدة إلى أعظم شجرة تظهر في فيلم «أفاتار»، الجزء الأول، يشهق، ويهمس لنفسه ولمن على جانبيه من جنود: يا لها من شجرة كبيرة لعينة!
أما الشجرة المقصودة، فهي تلك التي يطلق عليها شعب كوكب باندورا اسم «الشجرة الأُم».
لا مجال هنا لوصف هذه الشجرة، ولا مجال للحديث عما تعنيه لذلك الشعب الجميل الآمن، الذي يُفاجأ بالغزاة في سمائه وعلى أرضه يجتاحون كل شيء تقع عليه أعين رشاشاتهم وصواريخهم، بطائراتهم اللعينة الضخمة، وجرافاتهم العملاقة التي لم يسبق أن قدَّمت السينما شيئاً مثيلاً بحجمها وتوحشها وشراهتها وهي تنقض على كل ما هو حي في طريقها.

قائد الهجوم الذي يسخر من سهام شعب الـ «نأفيي» التي تتكسر على شبابيك طائرته المزوّدة بأعتى أنواع الأسلحة، والذي يحتسي القهوة الأمريكية بتلذذ، كما لو أنه في شرفة في تكساس، يعطي الأمر:
– صواريخ اللهب.
في تلك اللحظة تنطلق الصواريخ من عشرات الطائرات نحو الشجرة الأم، فتبدأ الشجرة بالاحتراق والتفسّخ والسقوط.
في تلك اللحظة الرهيبة، التي يبدو فيها وكأن القائد وطائراته قد قتلوا الكوكب نفسه، يدوي تصفيق حار في قاعة السينما، فرحاً بتدمير تلك الشجرة، ويتزايد التصفيق حين تبدأ بالسقوط!
هذا المشهد، الذي هو خارج الفيلم ليس خيالياً رغم كل ما فيه من رعب، فهو مشهد أبكى ملايين البشر في الصالات وأمام أجهزة التلفزيون في العالم كله.
المشهد؛ مشهد التصفيق، حدث في قاعة سينما، في الكيان الصهيوني، وفي قلب مدينة القدس.
لقد وقف المتفرجون الصهاينة وصفقوا بحماسة للصواريخ، وقائد الهجوم، في وقت يبكي العالم كله، أو يتألم أمام مشهد كهذا، وهو يرى فيه، بوعيه أو لا وعيه، أمّنا الأرض هنا تدمر بوحشية الساسة والصناعين، وقتلة الأزرق في بحرنا وسمائنا، والحياة في أنهارنا ومحيطاتنا، وبحيراتنا، وتدمير ثرواتنا الزراعية ومملكة الحيوان في كل مكان.
الصديقة الفلسطينية الفنانة التي كانت تحضر العرض، ومعها كثير من الفلسطينيين الذين تشبثوا بكل غصن أخضر أو يابس وكل عشبة، عام النكبة، في فلسطيننا البحرية، حدثتني كيف ومن معها راحوا يصرخون احتجاجاً، فتحوّلت قاعة السينما إلى ساحة للمظاهرات والاشتباك حين انقسم جمهور السينما إلى بشر يدافعون عن الشجرة، وآخرين صهاينة رأوا في قائد الهجوم رمزاً لهم.
الأشجار في مواجهة الصواريخ من جهة، والصواريخ التي تلتهم الشجرة اخترقت الشاشة واحتلت مقاعد دار السينما هاتفة لنفسها، من جهة أخرى.
إنه مشهد دموي، يمثل مع غيره من المشاهد على الأرض الفلسطينية، الجحيم الذي ابتليت به فلسطين؛ أهلها وأشجارها وبحارها. لذا، يستطيع أن يفهم من لا يريد أن يفهم، كيف تطوّق امرأة فلسطينية زيتونتها وكأنها ابنتها لتحميها من جنود قادمين لإلحاق أشد الأذى بها، وبمن يحميها، حرقاً وقتلاً، وتدميراً.
لم يحظ الشعب الفلسطيني بكاميرا لمخرج عالمي كبير، مثل جيمس كاميرون، ليصور فيلم «أفاتار فلسطين»، رغم أن الفلسطينيين تماهوا مع شخصيات أفاتار، وواجهوا جنود الاحتلال الصهاينة منذ انطلاق الجزء الأول منه، مستعيرين أشكال وألوان وجدائل الأفتاريين في هذا الفيلم، في مظاهراتهم ضد الجنود وضد الجدار وضد الأسلاك الشائكة، ولا شيء بين أيديهم غير حجارتهم، وقلوبهم العامرة بحبهم لأرضهم الأم وأشجارهم الأم، وهوائهم الأم، ومائهم الأم، وأحلامهم الأم.
من الأشياء التي تدعو للغضب أن الدولة الصهيونية قامت خلال الخمسين سنة الماضية باقتلاع مليونين و750 ألف شجرة يملكها الفلسطينيون، ومنذ شهرين كنت أتحدث إلى مزارع فلسطيني من قرية اسمها «بورين» بجانب مدينة «نابلس»، قال لي إن القوات الصهيونية والمستوطنين أحرقوا 16 ألف شجرة زيتون من أشجار قريته في العام الماضي، و4500 شجرة زيتون في هذا العام.
أي رقم مرعب هذا في قرية واحدة! وأي رقم مرعب هذا في وطن جميل صغير بحجم فلسطين!
إن 50% من المناطق الحرجية الفلسطينية قد تمّ اجتياحها من قبل المستوطنين العنصريين بحماية وزراء وجيش وقادة عنصريين وتحويلها إلى مستوطنات، بما تعنيه المستوطنات من بؤر للتوحش والوحوش. ويكفي أن ننظر إلى ما فعلوه منذ يومين في شوارع الضفة الغربية حيث حطموا ودمروا الكثير من السيارات والمرافق الفلسطينية، ومن ينسى ما فعلوه في بلدة حوارة «الغرنيكا الفلسطينية» وفي قرية «ترمسعيّا» الجميلة الساحرة هذا العام، وما يقومون به من اقتحامات ليلية ونهارية للقرى الفلسطينية لإحراق زيتونها وترويع أهلها، أو ما قام به جيشهم في حملته الأخيرة على مدينة جنين؛ فوفق معطيات للأمم المتحدة، نفذ المستوطنون 525 اعتداء بالضفة منذ مطلع العام 2023 وحتى 4 يوليو/تموز الجاري.
لقد أتيح لي خلال الأسبوع الماضي زيارة جنين ومخيمها للمرة الثانية خلال شهر، ولقاء أهلها، ومشاهدة ما فعلته الجرافات العملاقة التي تستحضر مشاهدتها جرافات القوة المرعبة التي تنقض على جمال وحياة كوكب بندورا.
مشهد واحد يتكرر، وصهاينة يهتفون للطائرات العمودية والجرافات وهي تدمر البيوت والعربات وأصص الأزهار والنعناع في جنين وسواها. يهتفون لجيش يدمر «البيت والحديقة»؛ أتلك مصادفة أن يطلق الجيش الصهيوني على حربه الأخيرة على جنين اسم «البيت والحديقة»، وتعني التسمية أن البيت هو بيته، أما الحديقة (الخلفية) فهي جنين وأخواتها، مع أن البيت بيت الفلسطيني والحديقة حديقته، ويدفع نحو مخيم صغير مساحته نصف كيلومتر مربع 4000 جندي بطائراتهم ودباباتهم وناقلات جنودهم، إذ ليس ثمة معنى آخر يمكن أن يعبر عن هذا، وهم يتقدمون لتدمير الحديقة والبيت وقتل البشر.
وبعــد:
في فيلم أفاتار يقول قائد الهجوم لجنوده وطياريه الذي أبادوا كل ما وقع تحت أعينهم من جمال أخاذ: لقد أحسنتم أيها الشباب، الجولة الأولى كانت لصالحنا!
وفي جنين ونابلس والجليل وحوّارة وتُرْمُسعيّا وبوريْن وغيرها، سيستخدم الجنود والمستوطنون العبارة نفسها: لقد أحسنتم أيها الشباب!»، ولكن لن يملك أي قائد صهيوني أن يضيف «الجولة الأولى»، لأنه يعرف أن الشعب الفلسطيني لم يسمح له في أي يوم من الأيام أن يقول «الجولة الثانية»، لأن هذا العدو لم يستطع حتى اليوم وضع نقطة في آخر السطر، تؤهله أن يقول «الجولة الثانية» أو «الجولة الأخيرة»، لأن كل جولة أولى كان عليه أن يعيدها مرة أخرى وأخرى، هو الذي يعرف أنه لم يزل منذ ستة وسبعين عاماً غير قادر على إنهاء الجولة الأولى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعد:

    ليس هناك من يستطيع أن يضعها بمثل هذا التشبيه غير ابراهيم نصر الله! ولن تنتهي الجولة الأولى إلا بإنتصار شعبنا على الصهيونية

  2. يقول هشام محمد:

    انهم يدمرون الحياة في فلسطين ، لأنهم على يقين انهم مغادرون يومًا ما ، فلو كانو مؤمنين لبقاءهم احتفظوا على البيئة الجميلة من غطاء نباتي وعيون المياه العذبة

اشترك في قائمتنا البريدية