كثير من الإهداءات التي تمرّ عابرةً، والتي لا يلتفت إليها أحد، قد تكون المفتاح الذي يقودنا إلى جوهر النص، إلى المتن العميق الذي يصبح لاحقاً جزءاً من قراءاتنا وحياتنا. وهذا تماماً ما يحدث حين نقرأ إهداء رواية «كلّ ما لديك من الكمال» أو «كلّ ما لديك مثالي» لكولين هوفر: «إلى هيث. أحبك اليوم أكثر من أي يوم مضى. شكراً لكونك صادقاً». افتتحت روايتها بمقطع مؤثّر يسلّط الضوء على تغيّر مزاج الناس تحت وطأة الأيام السيئة التي تلاحقهم، فكتبت: «لم يبتسم لي البواب، وظلّ هذا المشهد يلازمني طوال صعودي في المصعد إلى شقة إيثان. كان فينسنت حارس الباب، هو المفضّل لديّ منذ أن انتقل إيثان إلى هنا؛ دائماً ما يستقبلني بابتسامة وحديث ودود. أما اليوم، فاكتفى بفتح الباب بتعبير خالٍ من الحياة. لم يسأل حتى: «أهلاً كوين، كيف كانت رحلتك؟» يبدو أننا جميعاً نمرّ بأيام سيئة».
لم يكن ذلك الإهداء في مستهل الرواية محض صدفة أو أمراً عابراً، بل كان تمهيداً ذكياً لما سيأتي لاحقاً في القصة؛ بحيث إن المؤلفة كولين هوفر، أهدت بطلتها اسماً قريباً من اسمها ذاته، لتكون الشخصية الرئيسة التي تقف عند باب الشقة، ويقترب منها رجلٌ غريب يُفاجئها بحقيقة صادمة: إيثان، الرجل الذي تُحبه، ليس صادقاً كما كانت تظن، بل يخونها مع امرأة أخرى.
مثل هذا المدخل، بحمولته العاطفية والدرامية، يُعدّ صدمة مدروسة تُمسك القارئ منذُ اللحظة الأولى، وتُظهر براعة في بناء الحبكة وافتتاح الرواية؛ ذلك لأن كل ما ظنت أنها تعرفه عن مستقبلها انحرف عن مساره، وكل ما ظنت أنها تعرفه عن إيثان كان كذبة. لطالما شعرت أن كماله الظاهري جزءٌ من تمثيل. كما لو أنه تعلّم كيف يقول كل ما هو صحيح، لكن ذلك لم يكن فطرياً فيه. كان الأمر كما لو أنه تعلّم كيف يكون النسخة التي يُقدّمها للجميع من نفسه.
عبّرت كوين عن وقع الصدمة التي تلقتها من ذلك الحدث المفاجئ بقولها: «فجأة، شعرت بثقل مضاعف بسبب هذا الكلام. لا أريد أن أبكي، لكنني أعلم أن الانهيار قادم في أية لحظة. تعرفت على إيثان بعد تخرجي من الجامعة، وأمضينا معاً أربع سنوات. خسارة بهذا الحجم تحدث في لحظة واحدة فقط. وعلى الرغم من أنني أدرك تماماً أن النهاية قد وقعت، إلا أنني لا أرغب في مواجهتها. أريد فقط أن أرحل عنه، أن أضع نقطة النهاية. لا أرغب بخاتمة أو حتى تفسير، لكنني أخشى أنني سأحتاج إليهما حين أكون وحيدة هذه الليلة». إذ إن الوحدة كما تُشير كلماتها، كثيراً ما تدفع الإنسان إلى التعلق بما لا ينبغي التعلق به، وإلى الاستمرار في علاقة كان الأجدر بها أن تنتهي.
ربّما لا يمكن تجاوز وصف الخذلان أو خيبة الأمل في تجربة كوين، خاصة بعد اللحظة التي كشف فيها غراهام لها خيانة إيثان؛ فقد صاغت هذا الشعور بدقة في قول: «عندما خرجنا، أنا وغراهام، ووقفنا على الرصيف، شعرنا وكأننا في حال من الذهول. لا أدري إن كان العالم قد تغيّر في عينيه كما تغيّر في عينيَّ. بالنسبة لي، بدا كل شيء مختلفاً تماماً: السماء، الأشجار، المارة على الرصيف.. كل شيء. كل شيء بدا أكثر امتلاءً بخيبة الأمل ممّا كان عليه قبل لحظات، قبل دخولي إلى مبنى إيثان».
لا تصف هوفر في روايتها مجرّد مشهد خيانة تقليديّ، بل ترسم لحظة انفصام داخليّ، لحظة يُعاد فيها تشكيل العالم بأكمله بنظرة مكسورة. فجأة، لا يعود العالم كما كان: كل ما هو مألوف – السماء، الأشجار، الرصيف – يتحوّل إلى انعكاس لخيبة داخلية موجعة. هنا، تتحوّل البيئة إلى مرآة للمشاعر، فالعين التي تذوقت الخذلان لم تعد قادرة على رؤية الأشياء ببراءتها السابقة. وهي لحظة «تعرّي» شعوري؛ ليس فقط لأن الحب قد خُذل، بل لأن العالم كلّه يُصبح موضع شكّ. كل شيء يبدو أقل بريقاً، أقل دفئاً، حتى الهواء الذي يلامس الجلد يحمل شيئاً من الحزن.
كولين هوفر في هذه اللحظة، لا تكتفي بتوصيف الخيانة فقط، بل تذهب أبعد: إنّها توثّق لحظة التحوّل الوجودي التي يمر بها الإنسان حين يُخذل من الحب. الألم هنا ليس صراخاً أو عويلًا، بل خفوت عميق، صامت، أشبه بانطفاء شمعة في غرفة مغلقة. وهذا ما يُضفي على هذا المقطع جماله: أنه لا يصرخ بالحزن، إنما يهمس به برهافة، ويجعلك تشعر أن العالم فعلاً يمكن أن يفقد لونه كله من أجل نظرة واحدة، وحقيقة واحدة، ووجه كان يبدو مألوفاً ثمّ أصبح غريباً في لحظة خاطفة.
يوحي عنوان الرواية بالكمال الذي يُصوّر في الشخصيتين اللتين تعرضتا للخيانة القاسية. كما تعبّر هوفر على لسان بطلتها كوين: «لابد أنها لم تدرك هذا، وإلا لما كانت قد تخلت عن علاقتها مع رجل أثار إعجابي في ساعة واحدة أكثر مما فعله إيثان في أربع سنوات». أصبح الزمن نفسه لا قيمة له أمام حقيقة واحدة: أن الشخص الذي يستحقّ الحب والاحترام لا يحتاج إلى سنوات ليترك أثراً عميقاً في قلب الآخر. الخيانة ليست فقط كفعل مؤلم، بل كتحول جذري في فهم العلاقات الإنسانية، حيث تكتشف الشخصية الأساسية كوين أن الوقت والزمن ليسا العاملين الأهم في بناء الحب، بل الإخلاص والصدق هما ما يصنعان الفارق الحقيقي.
تلاشت علاقة كوين وإيثان تدريجياً، ولم تنتهِ بشكل سريع، فهناك فرق كبير بين الانهيار السريع والتضاؤل التدريجي؛ إذ إن الأخير أكثر قسوةً وأشدّ تأثيراً من الأول. يتجلى الخذلان مرّة أخرى في الرواية عندما تتزوج كوين من الرجل الذي التقته عند باب الشقة، ذلك الذي كشف لها خيانة حبيبها السابق. وعلى الرغم من ارتباطها به، فإنها تعيش فقداً من نوع آخر، فقداً لشخص لا يزال إلى جانبها، لكنها أتقنت معه فنّ التجنّب والصمت، وكأنّ العلاقة تمشي على خيط رفيع بين القرب والغياب. قال زوجها غراهام: «لقطتان من أي شيء قد تساعدنا على نسيان الساعة الأخيرة من حياتنا»، وكأنّه يبحث عن خلاص مؤقت من الألم. لكن كوين، مع تكرار اللقطات وتوالي اللحظات، لم تتمكن من نسيان الخذلان المتكرر الذي ظلّ يلاحقها؛ لأن ذاكرتها مصممة على الاحتفاظ بالندوب أكثر من احتفائها بلحظات التعافي.
كانت ترى في غراهام جاذبية فريدة لا تعتمد على الوسامة الاعتيادية، إنها تنبع من تناغم تفاصيله الصغيرة. لم تكن ملامحه لافتة بحدّ ذاتها، لكنها تآلفت بطريقة ما لتولد في داخلها شعوراً كبيراً بالانجذاب. كانت تحب نظرته إلى العالم بعينين تنبضان بالسكينة، بينما حياته كانت تسير وسط فوضى عارمة. جذبتها ابتسامته المنحازة إلى نصف فمه، وعادته الغريبة حين يتكلم، إذ يتوقف ليمرر إبهامه على شفته السفلى. كان مثيراً بعفوية، من دون أن يسعى لذلك. وقد أقرت بأن من يؤمن بجاذبيته كفاية، سيجعل الآخرين يصدقون ذلك أيضاً، غير أنها لم تجد في قربه ما يرضي أعماقها.
لم تعرف طعم الأمان منذ طفولتها؛ بدءاً من انفصال والديها والعلاقة المتوترة التي جمعتهما، مروراً بإيثان، وانتهاءً بغراهام، ظلت الخيانة تطاردها كظل لا يفارقها، حتى تسللت إلى أحلامها، فغدا غراهام يعتذر لها عن أخطاء ارتكبها في منامها. كان الحزن ينسج حولها خيوطه في صمت، كشبكة عنكبوت لا تراها إلا حين تُحاصر بها، وعندها فقط تبدأ محاولاتها المضنية للانفلات من قبضته. استمرت كوين في علاقتها مع غراهام على الرغم من الخيانة العارضة وعجزهما عن الإنجاب، غير أن الكاتبة أشارت ببراعة إلى أن كونهما كانا مثاليين لبعضهما في وقتٍ ما، لا يعني أنهما ما زالا كذلك الآن. فقد أصبحا أبعد ما يكونان عن تلك المثالية. وفي هذا السياق، تُلمّح الرواية إلى أن مهما بلغ حُبك لشخصٍ ما، فإن سعة هذا الحب محدودة، لا معنى لها إذا كانت تفوق قدرتك على التسامح.
الدموع ليست جديدة، لكنها مختلفة هذه المرة. إنها لا تبكي على شيء لم يحدث، إنما تبكي من أجل شيء يقترب من النهاية، كما تصف ذلك قائلةً: «التقطتُ شظية زجاج وتوجهتُ نحو الحائط متكئةً عليها. مددتُ ساقيّ أمامي وحدقتُ في قطعة الزجاج. قلبتُ يدي وضغطتُ الزجاج على راحة يدي. اخترق الزجاج بشرتي، لكنني واصلتُ…أضغط بقوة أكبر. أشاهده وهو يتعمق أكثر فأكثر في راحة يدي. أشاهد الدم يتدفق حولي. لا يزال صدري يؤلمني أكثر من يدي، بل أسوأ بكثير».
جسّد هذا التصوير الأدبي كيف يمكن أن يكون الألم النفسي أكثر حدة من الألم الجسدي، وكيف أن الخيانة أو الخيبة يمكن أن تترك جروحاً خطرة في النفس. تُظهر الرواية أن الألم العاطفي لا يمكن تجاوزه بسهولة، وأنه قد يدفع الإنسان إلى البحث عن طرائق للتعبير عنه أو التخفيف منه، حتى وإن كانت تلك الطرائق مؤذية. هذا الأمر يُبرز أيضاً براعة هوفر في التعبير عن المشاعر المعقدة بلغة بسيطة/ شفافة ولكنها مؤثرة؛ ممّا يجعل القارئ يشعر بصدق الألم والتعاطف مع البطلة. إنه تذكير قوي بأن الألم العاطفي يمكن أن يكون ساحقاً، وأن التعبير عنه حتى لو كان من خلال الألم الجسدي، هو محاولة لفهم الذات والواقع المتغير من حولنا دائماً. في النهاية ودعت غراهام على شاطئ مُنعزل، غير نادمة على حواراتها المسهبة والمقتضبة معه، بعد أن أصبح واحداً من الأشياء الكثيرة التي تفاقم ألمها. الحب يصمد أمام كل شيء، ما دام الحب قائماً بين شخصين، فلا شيء يفرقهما. ولا حتى المأساة. لكن هوفر أدركت أن المأساة يمكن أن تهدم حتى أقوى الأشياء ومن هذا الإدراك ولدت روايتها.
إذن بدأت علاقة كوين وغراهام بطريقة غير مألوفة؛ إذ كان كلاهما يجرّ خلفه خيبة خيانة من شريك ماضٍ. افترقا كغريبين التقيا صدفة، ثم شاء القدر أن يجتمعا من جديد بعد أشهر، لتبدأ بينهما قصة حب عاصفة، بدت وكأنها كُتبت لهما منذ البداية. سارت علاقتهما بسلاسة توحي بأنها قدر محتوم، لكن بعد ثمانية أعوام من الزواج، تلاشت الأحلام الأولى، وتبدّدت البدايات المتوهجة. تحوّلت الوعود التي تبادلاها إلى غصّة، واختبأ خلف الكلمات صمتٌ ثقيل يخفي خيبة عميقة: عجزهما عن الإنجاب. بات كل منهما يدفن ألمه ويكتم خيبته عن الآخر، حتى أصبحت المسافة بينهما غير مرئية ولكنها موجعة. ولعلّ السبيل الوحيد لاستعادة ما ضاع هو التذكّر – أن يتذكرا من كانا، وماذا شعرا به حين بدأت حكايتهما. ربما يكون هذا التذكّر طوق النجاة الأخير، أو الدليل الأخير على أن الرحلة قد انتهت، وأن من كانا يحبّان بعضهما لم يعودا يعرفان بعضهما من الأساس.
لم تقتصر مظاهر الخذلان في هذه الرواية الرومانسية على خيانة الحبيب الأول إيثان، بل امتدت لتشمل شعور كوين المستمر بالفقد في علاقتها مع زوجها، وإحساسها بخذلان الذات، إلى جانب انكسار الصورة المثالية التي كانت ترسمها للحياة الزوجية.
وعليه فإن الحب العميق الذي يبدأ بشكل مثالي لا يضمن البقاء مدى الحياة حين يجمع بين شخصين يحملان نقائصهما. فالحب والسعادة لا يسيران دائما جنبا إلى جنب؛ قد يوجد أحدهما من دون أن يُرافقه الآخر: ” إذا سلطت الضوء فقط على عيوبك، فإن كل الكمالات لديك سوف تخفت“. بين طيات هذه الرواية ينبض تذكير دائم بأن الكمال الحقيقي لا يُدرك إلا في تقبّل الحياة بكل ما فيها من نقص، فالجمال يكمن في تفاصيلها غير المكتملة.
كاتبة عراقية