ساهم التلاقح الثقافي والحضاري بين المغرب والأندلس في تشكيل تقاليد وعادات برزت آثارها في العديد من المدن المغربية العريقة، وكان من مظاهر هذا التلاقح أن أحمد المنصور السعدي شيَّد قصر «البديع» في مراكش وقصري «المسرة والمشتهى» على غرار ما شيده ملوك الأندلس، كما أن ولع هذا السلطان السعدي بالعمران والشعر، جعله يحلي هذه القصور بنقش الأشعار على جدرانها، وهو شكل يذكرنا بقصائد الشعر الجاهلي المنتخبة، التي علقت بأستار الكعبة، وقد كتبت على الرقاع بماء الذهب؛ وفي هذا السياق برز في العصر السعدي، ما أطلق عليه الباحث السعيد الدريوش، المعلقات الشعرية السعدية، ففي كتابه «المعلقات الشعرية في العصر السعدي»، نفض الغبار عن مادة شعرية تعبر عن فترة زمنية من تاريخ المغرب، وقدّم شكلا من أشكال الشعر المغربي، الذي خلّد ذكر دولة جمعت في ولعها بين العمران والشعر، على غرار ما فعله الأندلسيون في الغرب الإسلامي.
وفي هذا المقال سنتناول مضامين كتاب «المعلقات الشعرية في العصر السعدي» من خلال ما قدمه الباحث في دراسة هذا النوع من الشعر، تعريفا به وبخصائصه وسماته الفنية والجمالية.
ولعُ السعديين بالشعر والعمران
ظهر السعديون في حقبة شهدت هزات حضارية عنيفة منها: ضياع الأندلس، وهروب الأندلسيين من محاكم التفتيش واستقرارهم في المغرب، واحتلال البرتغال للثغور المغربية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي؛ وظهور دولة السعديين كان له دور في تحقيق انتصارات أعادت للمغاربة الثقة بأنفسهم، خاصة بعد معركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة. وقد واكبت هذه الحركة السياسية حركةٌ أدبية، لما لحكام السعديين من إلمام فقهي وأدبي، كما كان لهم ولع بفن العمارة الإسلامية الفاتنة، حيث يستمد هذا الفن مقوماته الإبداعية من التداخل الذي تشكله الفنون العديدة كفن الخط وفن الشعر وفن النقش. وقد اختار الباحث السعيد الدريوش هذه الحقبة التاريخية الزاخرة ليطلع القارئ على ما سماه شعر النقوش أو المعلقات الشعرية، حيث عرّفها بـ«القصائد الشعرية المعلقة على جدران وقباب وأبواب ونافورات القصور الملوكية السعدية». وقد قسم الباحث الدراسة إلى أربعة فصول، مبرزا الخصائص الجمالية والأسلوبية للقصائد المنقوشة، ومختلف المكونات الحضارية التي ترتبط بالعصر السعدي، متناولا أبرز مظاهر العمارة في هذا العصر، التي تجلت في قصر البديع الذي شيده السلطان المنصور السعدي، بعد انتصاره في معركة وادي المخازن، تخليدا لانتصاره العظيم، جريا على عادة الملوك المغاربة الذين سبقوه. وتعود تسمية البديع بهذا الاسم (كما يرى الباحث) إلى ما يعرف عن المنصور من شغف بالبديع في الشعر «وانبهاره الكبير بهذا الأسلوب البلاغي.. خصوصا إذا تأملنا نتاجه الشعري الذي ذكره المقري في النفح أو في روضة الآس»، ومنه جاءت تسمية القصر بالبديع. كما بنى المنصور كذلك قصري المسرة والمشتهى، وإن كان البديع أبهاها وأروعها، وقد أسهم بنفسه في رسم تصميم هندسي لبعض مرافقه، ما يوضح العناية الخاصة التي يوليها هذا السلطان للعمران.
مظاهر النقش بالأشعار
امتاز العصر السعدي بتطور حضاري وعمراني عجيب، على مستوى الزخرفة والتنميق والإبداع، وكان النقش بالأشعار سمة فنية بارزة، حيث استفاد مبدعو هذا العصر مما أنتجته العصور السابقة قبل قيام دولة السعديين، إذ كانت ظاهرة النقش الشعري تقليدا لما يجري في العدوة الأندلسية، كما أن المرينيين كذلك تمثلوا هذه الخاصية الفنية الفريدة في بيوتهم ومنازلهم وقصورهم ومختلف منجزاتهم الحضارية والعمرانية. أما كتابة الأشعار على الجدران والأبواب والقباب وشواهد القبور، فهي ظاهرة جمالية فريدة لها ارتباط وثيق بفن الخط العربي. وقد عمد السلاطين السعديون إلى كتابة الأشعار على المنشآت الملوكية، ومختلف المنجزات الحضارية، لإبراز جمالية الزخرفة الفنية، وأولوا لها عناية واهتماما حتى صارت من خصائص هذا العصر. وفيما يخص الرسم فقد ابتعد مبدعو هذا العصر عنه انطلاقا من الوازع الديني للسلاطين السعديين، فهم إلى جانب كونهم قادة وساسة، فقد كانوا علماء وفقهاء وأدباء، لهذا نجد غياب ظاهرة رسم الطبيعة الحية في منجزاتهم العمرانية، وقاموا بتعويضها بالرسم بالأشعار لما له من دلالة قوية تتمثل في العلاقة الفنية الوثيقة بين الرسم والشعر، حيث إن الشعر هو ضرب من الرسم كذلك.
ومن أشكال النقش الشعري أيضا، نجد التطريز، وهو فن زخرفي بديع يتوخى تزيين نجاد الأمير السعدي بنقش القصائد الشعرية عن طريق الغرز بالإبر، أو من خلال النسج الأولي للثوب المراد اتخاذه للسلطان، وقد بين الباحث أن التطريز يخص الأستار والأثواب، أما النقش فيكون على الأشياء الصلبة كالجبص والزليج والخشب.
السمات الفنية والجمالية للمعلقات النقشية
تناول الشعراء السعديون جميع الأغراض التقليدية وأجادوا فيها وأبدعوا، خاصة في عصر المنصور الذي عرف ازدهارا كبيرا، وتوسعا حضاريا متميزا، وعرف إبداعا عمرانيا تمثل في المنشآت التي شيدها السلطان المنصور في العديد من المدن المغربية، ويعد البديع بمراكش أبرز معالم العمارة في هذا العصر، فجادت قريحة شعراء البلاط المراكشي بقصائد تزخر بصور وأخيلة تتميز بوصف بليغ. ومن أبرز الشعراء الذين أبدعوا وتميزوا في غرض الوصف الشاعر الوزير عبد العزيز الفشتالي. وقد تناول الباحث بالتحليل مجموعة من المعلقات النقشية أو القصوريات التي تجلى فيها غرض الوصف، حيث تؤلف بين اللفظ والمعنى. كما كشف عن انبهار شعراء النقوش بحدائق البديع الغناء وجناته الآسرة، وجعلهم ينسجون من الطبيعة ومباهجها صورا شعرية تزخر بها أشعارهم النقشية.
ومن تجليات غرض المدح، المدح بالنسب الشريف، إذ هو قيمة نبيلة لجأ إليها شعراء النقوش في قصائدهم الشعرية، حيث يعتبر تذكيرا بتاريخ السلف الطاهر، وسبيلا من سبل الاقتداء بالنسب الشريف في تسيير شؤون الدين والدنيا، ويعد رابطا يربط الرعية بالحاكم السعدي، حيث يرتفع نسب الممدوح السلطان أبو العباس أحمد المنصور الذهبي، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا المدح يعد عند هؤلاء الشعراء أهم ركائز المدح في البلاط السعدي، بل في تاريخ السلطات الإسلامية الملوكية، لما له من دلالات متصلة بإضفاء شرعية الدين والقداسة على السلطان، وضرورة نصرة الرعية للخليفة، وبهذا النسب يسهل جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم.
ويعدد شعراء النقوش مناقب وفضائل السلطان، كما يخلعون عليه النعوت والألقاب الإسلامية، كالمنصور، والإمام، والملك، وقطب الخلافة، والواثق بالله.. كشكل من إضفاء طابع القداسة والتفرّد. كما نجد هؤلاء الشعراء لجأوا إلى «المدح بالنصر»، خاصة النصر الذي حققه السلطان في معركة وادي المخازن سنة 986هـ، إذ إن هذه المعركة شكلت حدثا تاريخيا وعقديا وسياسيا مهما للشعراء السعديين.
ومن الأغراض الأخرى الفخر والرثاء، حيث إن الأشعار المنقوشة تفتخر بالعمارة الملوكية، ومدافع المنصور الحربية التي كانت تتخذ في المعارك والفتوحات. ويصب غرض الفخر في مدح السلطان بشكل واضح. أما الرثاء فيشير الباحث إلى ست معلقات نقشية في هذا الغرض، نقشت على قبور سلاطين الدولة السعدية، وهي تزخر بالعديد من الدلالات الكبرى كجلب الرحمة، بإعادة قراءاتها من طرف زائر قبر السلطان والدعوة له بالرحمة والغفران، وتذكر الزائر بالقبر وبالآخرة، كما تؤرخ القصيدة النقشية لسنة وفاة السلطان من خلال حساب الجمّل السائد آنذاك.
تناول الباحث هذه القصائد والأشعار بدراستها من الجانب الفني، وما تتميز به من خصائص كبراعة الاستهلال، من خلال اعتناء شعراء النقوش بمطالع معلقاتهم، بجعلها مطربة للآذان، حيث دأبوا على تصريع البيت الأول، ولجأوا في مطالع القصائد إلى الجناس، وفي هذا ما يبرز الجانب الجمالي لديهم، على اعتبار أن القصور السلطانية بديعة الجمال والتناسق والمعمار، وكذلك القصائد المنقوشة على الجدران ينبغي أن تتسم بالزخرفة اللفظية وكثرة البديع. ومن خصائص هذه الأشعار المنقوشة الختم بالدعاء للسلطان لما له من فضل التشييد والحماية والنصرة. ولم تكن سلطة الشاعر هي المحدد الأساس في نظم قصورياته، بل شكل السلطان منبعا رئيسيا في شاعريته وفنيته، عن طريق التوجيه والاقتراح والتغيير. وتعد سمتا الارتجال والبداهة خاصيتين مميزتين لبعض المعلقات النقشية، كما تهدف إلى تخليد الذكرى والأثر عبر التاريخ، ولهذا السبب تختم هذه المعلقات بتاريخ البناء.
أما من ناحية موضوع الصورة الفنية، فيدور حول محورين العمارة والسلطان، في ما يخص العمارة يبين الباحث أن شعراء النقوش يكثرون من استحضار الكعبة في صورهم الشعرية الموظفة في قصائدهم المعلقة على البديع، كإشارة إلى قدسية القصر وساكنه السلطان السعدي. كما تضفي هذه الأشعار على البديع صورة عروس فاتنة، ومنهم من يصور هذه العمارة والقصور السلطانية على أنها كون بأجرامه وأفلاكه وكواكبه.
كما ركزت هذه الأشعار المنقوشة على صورة السلطان، فخلع عليه الشعراء مجموعة من الصفات كالشجاعة والكرم، وأضفوا على شخصه هالة عظيمة من الجمال والإشراق، كما تتبعوا أسلوب التشخيص، حيث يضفون صفات بشرية على العمارة السلطانية، فتتحدث بضمير المتكلم لتبرز زينتها وجمالها، لأنها صرح السعادة والهناء لجلالة السلطان المنصور الذهبي، ومن أبرز شعراء المعلقات الذين أنطقوا القصر الملوكي ليخاطب الزائرين من سفراء وخلفاء ووزراء الشاعر علي بن منصور الشياظمي.
وفي سياق الصورة الشعرية بين الباحث أن الصورة الاستعارية تتعدد في القصوريات، ما بين تصريحية ومكنية، ولها حضور إبداعي مدهش، كما للتشبيه حضور قوي في نسج الصورة الشعرية، واتكاء شعراء النقوش على أداة (كأن) لما لها من قوة في المعنى وبلاغة في الصورة، وقد ركزوا على التشبيه كثيرا في معلقاتهم، على اعتبار أنه اللون البلاغي الذي يقرب بين صورتين بشكل واضح، كما أن اتكاءهم الكبير على الحواس (بصر- شم-سمع..) في تشكيل صورهم إنما كان تأكيدا على عنصر الإمتاع بالنسبة لمتلقي معلقاتهم وصناعة جمالية لقصائدهم النقشية.
ويناقش الباحث موسيقى الشعر المنقوش، من خلال وزنه، وقافيته، ويذهب إلى أن شعراء النقوش ملتزمون بقواعد الشعرية العربية التقليدية، لكنهم شعراء تقليديون معاصرون، وتتجلى حداثتهم ومعاصرتهم في انصهارهم الفريد في جماليات المعمار والفن في العصر السعدي، إذ إن قصائدهم نقشت على الجدران والنافورات والقباب، وحرصوا على خلق التماهي مع فسيفساء النقش على الجدران، لإنتاج علاقة متواشجة بين الشعر وفن النقائش. وفي سياق موسيقى الشعر درس الباحث ما تضمنته القصائد المعلقة من المحسنات البديعية، من جناس وطباق، كأسلوب ارتكز عليه الشعراء إفصاحا عن الدلالات الجمالية وإضافة عنصر التطريب، ثم أشار إلى ما وظفه شعراء هذا الفن من تكرار، بغية تقوية الجرس النغمي للقصيدة النقشية.
التعالق النصي في شعر النقوش
تناول الفصل الرابع التناص في الشعر المنقوش وظاهرة المعارضة الشعرية عند الشعراء السعديين، وبين أن التناص يحضر بشكل بارز من خلال توظيف التناص الديني، لما لهؤلاء الشعراء من التكوين الديني والفقهي، كما تعالقت نصوص نقشية سعدية مع كثير من معلقات العصر الغرناطي، وهو الأمر الذي يبرز تأثر الشعراء السعديين بنظرائهم في مملكة غرناطة كابن الخطيب السلماني وابن زمرك الصريحي وابن فركون شاعر الملك يوسف الثالث وعبد الكريم القيسي البسطي آخر شعراء الأندلس، وتأثرهم أيضا بالعصر المريني، كما يشير الباحث إلى تأثرهم بالقصيدة العربية حيث يورد نموذجا للتناص مع معلقة عمرو بن كلثوم، وهذا كله يبين عناية شعراء النقوش بالجمال اللفظي وربطه بجمال فن العمارة الإسلامية الفاتنة.
ختاما، إن كتاب «المعلقات الشعرية في العصر السعدي»، إضافة إلى ما يقدمه من نمط الشعر البارز في العصر السعدي، وما يكشفه من خصائص فنية وأساليب بلاغية تعد سمة لهذا الشعر، فإنه قد سلط الضوء على العمارة الإسلامية ومستوى الإبداع في العمران والفن وولوع السعديين بالمزاوجة بين الشعر والفن المعماري، كما أن الدراسة تدفع القارئ المغربي والعربي، من خلال ما يحلله الباحث من أشعار، كي يعود إلى التاريخ المغربي قصد استحضار الظروف السياسية والثقافية والأدبية لعصر السعديين، وما تأثر به شعراء هذه الحقبة التاريخية من أحداث وانتصارات هيمنت على وجدانهم وخالطت إبداعهم الشعري وذوقهم الفني والجمالي.
السعيد الدريوش، المعلقات الشعرية في العصر السعدي، القرويين للنشر والتوزيع، 2020.
كاتب مغربي