معارض “غزّة الباقية” إلكتروني ويتحدى اللوبي الصهيوني: عامر الشوملي: المتحف الفلسطيني في بيرزيت ينشط على خط المواجهة ضد المحو الممنهج للإنسان وذاكرته

زهرة مرعي
حجم الخط
0

بيروت-“القدس العربي”: الفنون الفلسطينية لصيقة بناسها منذ ما قبل النكبة. بعضها استشعر المشروع الصهيوني مبكراً فتسرّب القلق إلى مختلف أنواع الإبداع. ولم يكن احتلال فلسطين هماً يُثقل شعبها فقط، بل أن فرادة الحالة الفلسطينية جذبت فنانين من العالم، حيث لم يسبق أن طُرد أكثر من نصف الشعب من أرضه.
منذ انطلاقها عبّرت الثورة الفلسطينية من خلال المُلصق الذي رافق مرحلة هامة من نضالها، وفي الضفة الغربية وغزّة برزت حالة فنية مميزة وخاصة. ومع العدوان المفتوح على غزّة باتت المتاحف والمعارض والمحترفات أثراً بعد عين. وانضمّت مجموعة كبيرة من الفنانين إلى قافلة الشهداء.
المتحف الفلسطيني في بيرزيت سارع لتنظيم معرض من 300 لوحة لفنانين من غزّة بعنوان “هذا ليس معرضاً”. كما وافتتح معرض “نحو التجريب والإبداع: ديمومة التجربة”.
هنا حوار مع مدير عام المتحف الفلسطيني الفنان عامر الشوملي:
■ بعد 37 سنة رباعي “نحو التجريب والإبداع” أضافوا إلى مسيرتهم “ديمومة التجربة”. فما هي أبرز المتغيرات؟
■ يقال إن التاريخ يعيد نفسه مرّة على شكل مأساة ومرّة على شكل ملهاة، للأسف نحن الفلسطينيون يستعاد تاريخنا بمآس متتالية. في هذا المعرض نستذكر تجربة هؤلاء الفنانين الذين عبروا كجزء من التحامهم بالانتفاضة الأولى وحركة التحرير، وبكيفية تحرير موضوعهم الفني من أثقاله. سعوا للإبداع من داخل عملهم الفني، فأمتنعوا عن شراء المواد الفنية المستوردة عبر الكيان. استخدموا المادة الأولى للفن وهي الأرض. مزج سليمان منصور تراب الأرض مع النشاء والحنة، ووضع مزيجه على اللوحة، وأشعل تيسير بركات النار بالخشب. وبحث نبيل عناني عن جلود الحيوانات في مدابغ الخليل وابتكر أعماله. وكوّنت فيرا تماري أعمالها باستخدام مادة السيراميك. إذاً حركة التحرر التي نسجها الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة شكلت إلهاماً. ولأننا كشعب فلسطيني نعيش حالة قاسية جداً نتيجة الإبادة المستمرّة، قررنا استذكار التجربة الفنية لمرحلة الانتفاضة الأولى، بهدف حث الأجيال الجديدة على قراءتها من منظور يومنا هذا. والسؤال عن التغيير المحتمل بطرائق عمل الفنانين الجدد، كاستجابة لما تفرضه الإبادة من تعبير وتغيير في الممارسة الفنية، والهدف أن يكون الفنانون أكثر قرباً من حركة التحرر والحالة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
■ وما هي النتيجة التي وصلها الفنانون الأربعة بعد تلك الأسئلة؟
■ أنجزوا أربع جداريات ضخمة داخل المتحف حاكت أعمالهم السابقة. بالنظر إلى الجداريات الحالية والسابقة، ستبصر العين بالتأكيد تراكم خبراتهم عبر السنوات الماضية، فجدارياتهم خُلاصة لتجاربهم. جدارية فيرا تماري بطول 28 مترا، وسليمان منصور 12 متراً. وجدارية تيسير بركات 17 مترا، وجدارية نبيل عناني 17.5. وتشغل بهو المتحف الفلسطيني، مُظهرة عمق التجربة، وباتت جزءاً من بنيانه.
■ كيف تفسّر شعاركم “انضموا إلينا لنرفع اصواتنا ضد المحو الممنهج للفلسطينيين وثقافتهم”؟ وما هي تبعاته العملاتية؟
■ ننظر إلى المتحف كؤسسة على خط المواجهة، وله دور في معركة محو الفلسطيني وذاكرته، والأرشيف من المشاريع المهمة والدائمة للمتحف. نُهب أرشيفنا سنة 1948 ثمّ سنة 1967 لدى احتلال القدس الشرقية. وفي اجتياح بيروت سنة 1982 نهبوا أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وفي اجتياح رام الله سنة 2002 نهبوا أرشيف دار الكرامة. ومع افتتاح المتحف الفلسطيني بدأ مشروع ريادي يتمثّل بتوثيق الذاكرة الفلسطينية. جلنا على منازل الفلسطينيين، وأخذنا ألبومات صورهم لأرشفتها، ونمتلك الآن حوالي 400 ألف وثيقة، مقابل 500 ألف وثيقة مدفونة في مخازن الجيش الصهيوني، نُهبت خلال 77 سنة الماضية. مشروع الأرشيف على خط المواجهة، يؤرشف الذاكرة للأجيال المقبلة ليتذكروا فلسطين. وفي سنة 2024 عملنا مع متاحف غزّة لإخلاء مجموعاتهم. أحضرنا جرّافات أزاحت الركام عن المتاحف المستهدفة، وعملت طواقم متخصصة لإخراج الأثواب والجرار وغيرها من المجموعات، وحُفظت في أماكن أكثر أماناً من استمرارها تحت الأرض. قصف المحتل المتاحف العشرة في 28/10/2023 ومن بينها آرت غاليري، وأرشيفي بلديتي رفح وغزّة، بهدف محو الفلسطيني، ولهذا رفعنا الركام لتحرير المجموعات من تحت الأرض.
■ ما هي التحديات التي واجهتكم في محاولة الحفاظ على ما تبقى من تاريخ ومحفوظات؟ ومع من نسقتم؟
■ شركاؤنا على الأرض هم طواقم العاملين في هذه المتاحف والمحفوظات. عملنا مع متحفي القرارة ورفح في غزّة، وقدمنا لهم دعماً لوجستياً ومادياً وتوثيقياً. لم يكن العمل سهلاً، فالعمل ليومين في رفح يتبعه دخول المحتل، يسارع الفريق لإخلاء الموقع والذهاب إلى خان يونس.. وعندما يُخلي المحتل رفح يعود الفريق إلى العمل وتفقد المكان. وحينها كان المكان يتعرض للسرقة ومزيد من التدمير. عملنا كما لعبة القط والفأر مع المحتلين لنتمكّن من إخراج تاريخنا المدفون، وما تبقى بعد التدمير والحرق وسرقات المحتل. فهدف الصهاينة ليس قتل الفلسطينيين وحسب، بل محوهم من تاريخ غزّة، بحيث لا يعرف الغزاويون بناء مدنهم مجدداً، أنها محاولة لمحو الفلسطيني من الحاضر والمستقبل.
■ وكيف تقيمون نتائج سعيكم لمواجهة هذا المحو مع استمرار الإبادة؟
■ نحن مصابون بداء الأمل، بدونه لا ضرورة لأن يصحى أحدنا كلّ صباح. نستيقظ كلّ صباح ونعرف أننا حيال معركة، إما يكون لنا دور، أو نهزم كأفراد. ولهذا اشتغلنا في المرحلة الماضية على معرض كبير لفناني غزّة بعنوان “هذا ليس معرضاً”. معرض من 300 لوحة يحتضنه المتحف لفناني غزّة. كثير من الفنانين الذين عُرضت أعمالهم قُصفت مراسمهم، وحُرقت لوحاتهم. وخلال العدوان المستمر استشهد 30 فناناً وأستاذ فنون، لخمسة منهم أعمال في معرض “هذا ليس معرضاً”. تواصلنا مع الفنانين في بداية العدوان واطلعناهم على المعرض الذي كنّا بصدده في القاعة الرئيسية، ومن ثمّ توالت علينا رسائل بهذا النموذج “مرحبا أنا الفنان محمد حرب لي عمل في بيت لحم في دار الكلمة”. وهكذا دواليك.
■ تشكّل المعرض من لوحات المقتنين؟
■ في جزء منها نعم. وفي جزء آخر كانت وديعة لدى البعض في الضفة الغربية. طرقنا الأبواب بحثاً عنها، فجمع معرض “هذا ليس معرضاً” 300 لوحة. “هذا ليس معرضاً” شكّل مُظاهرة فنية، ومساحة تذكّر وتضامنا مع فناني غزة بشكل فاعل، وخلق نقاشاً حول الإبادة الشعواء الحاصلة على الأرض. وبرزت أهميته كمعرض حاضر في وقت تُقصف فيه المتاحف، والفنانون بذاتهم مستهدفون، ومعرضون لعملية تهجير كمواطنين غزّاويين. وبالتزامن مع الإبادة كان المتحف الفلسطيني يعمل على أربعة أعمال دائمة، فهذا تأكيد بأن الاحتلال مؤقت، وبأن الشعب الفلسطيني في غزّة سوف يتجاوز الإبادة، هو تأكيد ومثابرة على العمل في زمن الإبادة والتدمير وقصف المتاحف، وأننا كفلسطينيين لسنا بصدد الهروب بالاتجاه المعاكس لدى افتعال الحرب.
■ هل من صور للمتاحف التي دُمّرت في غزّة؟
■ نعم الصور موجودة، أنقذنا كل ما طالته الايدي. وعندما تتوقف الحرب سنعمل لإعادة بناء تلك المتاحف كما كانت، وأفضل.
■ ماذا في “قراءة للتاريخ الاجتماعي لمدينة غزّة تحت الاستعمار البريطاني” للدكتور أباهر السقا هل من موجز؟
■ للدكتور أباهر السقا كتاب يتناول التاريخ الاجتماعي لمدينة غزّة. سيقرأ في الأعمال الفنية ويقدم للحضور من خلالها مقاربة للتاريخ الاجتماعي والحراك الثقافي لمدينة غزّة، وكذلك واقع غزّة قبل سنة 1948 وكيف أصبح حالها بعد احتلالها سنة 1967. فلسطينيو الضفة الغربية لا يعرفون غزّة وأنا أحدهم. الطريق إلى غزّة ممنوع على الفلسطيني منذ عشرات السنوات. الدكتور أباهر السقا من غزّة ويعرف تماماً تاريخها الاجتماعي. فيما تصلنا حالياً من غزّة صور الموت والدمار ومن خلال الإعلام، إنها محاولة للقاء مع غزّة من خلال عارف وباحث، يُدخل بعض الواقعية لحالة التضامن التي وجد المعرض لأجلها.
■ في إطار ترميم الذاكرة ماذا عن الأثواب التي سُحبت من تحت الركام في غزّة؟ وهل تعيش بعد المواد الكيمائية التي أسقطها الصهاينة؟ واعتذر من السؤال في ظل الإبادة؟
■ ليس بعيب طرح السؤال عندما نُدرك خصوصية علاقة الفلسطيني مع بالثوب. الفتاة الفلسطينية تباشر بتطريز ثوب عرسها في عمر الـ12 سنة. ثوب ينمو معها حتى موعد زواجها. الثوب الفلسطيني من إرث العائلات. نعمل لتدريب فريق وطني سيتوجه إلى غزّة فور وقف الحرب للبدء بترميم الأثواب التي اُنقذت من متحفي رفح والقرارة. سيعاد بناء غزّة، ونحن جاهزون لهذه اللحظة، ستتوزع الأدوار، وسنبني الذاكرة ونعيد المجموعات التي تحكي تاريخنا كفلسطينيين. الأثواب التي تُحفظ في الظروف الصحية المطلوبة تعيش طويلاً، ففي المتحف الفلسطيني أثواب بعمر 150 سنة. الأثواب المصنوعة من القطن وأصباغها طبيعية، إن لم تُقصف بصاروخ يفترض أن تعيش طويلاً.
■ جماعة “نحو التجريب والإبداع” فيرا تماري، سليمان منصور، تيسير بركات، ونبيل عناني تكونت مع الانتفاضة الأولى هل هم محفّز لتأسيس المتحف؟
■ بل كانوا جزءاً من تأسيس أكاديمية الفنون، وكذلك كاليري 79 وهم ناشطون في تأسيس المتحف في الأرض المحتلة، في سنة 2016.
■ وهل من مراحل مرّ فيها المتحف؟
■ يقع المتحف الوطني الفلسطيني في القدس. احتله الجيش الصهيوني مع احتلاله للقدس الشرقية سنة 1967، وصادر محتوياته، وجرى تغيير اسمه إلى العبرية ليصبح جزءاً من المتاحف الإسرائيلية، وخسرنا متحفنا الوطني. ومع تغوّل الاحتلال كان السؤال الدائم عند الفلسطيني هل نبني متحفاً جديداً وهذا يعني تنازلاً عن متحفنا المُحتل؟ أو نبقى على مطالبتنا به؟ المتحف الفلسطيني في بيرزيت مؤقت إلى حين استعادة المتحف الوطني.
■ نحن حيال احتلال لا ذاكرة له ولا أرض. هل تخشى من انقضاضهم على المتحف الوطني؟
■ طبعاً أخاف. هو نوع من الخوف يُحفّز على المزيد من العمل بدل جمع المقتنيات والهروب. فلا خيار آخر.
■ كيف بني هذا المتحف؟
■ إنها مساهمات من فلسطينيين حول العالم، وبعض الأصدقاء العرب المناصرين لفلسطين.
■ هل من شراكات دولية لمتحف فلسطين تُساهم بحمايته؟
■ الجميع يتعامل مع فلسطين كمنطقة صراع، حتى شركات التأمين لا ترضى التأمين على المتحف. هناك متاحف شريكة متعاطفة مع متاحف غزّة، إنما الأسلوب المهذّب الراقي لن يوقف الاحتلال عن الإبادة، والصهيونية لن توقف التخريب والدمار عبر الإيميل.
■ هل من مشاريع جديدة لديكم؟
■ سعينا مؤخراً إلى نوع جديد من المعارض الجاهزة للتنزيل والطباعة والعرض اسمه “غزّة الباقية”. من يرغب يدخل إلى المعرض وله قدرة تنزيل ما يرغب به معارض وصفحات “بي دي اف”مع فيديوهات وبودكاست ومعلومات. هو معرض مجاني، وفي نهاية هذا العام أنجز 109 معارض حول العالم في 32 دولة. مشروع يتيح للناشطين حول العالم خلق مساحات للتضامن مع فلسطين. على سبيل المثال عرض طلاب جامعة كولومبيا هذا المعرض، وكذلك فعلت كافة الجامعات التي تضامن طلابها مع فلسطين. وهذه المعارض أقيمت أيضاً في اليابان، وماليزيا وغيرهما. ولأنها لم تعد قائمة في المكان، وليست مركزية، فقد اللوبي الصهيوني قدرة السيطرة عليها. معارض تُعفي من المظاهرات المناهضة لها، ومن كلفة الشحن. 100 دولار فقط تنجز معرضاً في الشارع. إنها كرة الثلج، وحدث أن تزامن أكثر من معرض في مكانين مختلفين من العالم، وبمنأى عن سيطرة الصهيونية.
■ من هم زوّار المتحف؟
■ في داخل فلسطين هم من طلاب الجامعات وتلامذة المدارس، وجمهور من المجتمع المحلي. عدد الزوار جيد، إنما عدد زوّار المعارض التي ننظمها خارج فلسطين أكثر بأربع أضعاف. قد يصل زوّار كامل العام في فلسطين لـ25 ألف زائر. في حين يحضر معارضنا خارج فلسطين بحدود الـ100 ألف زائر. ويدخل إلى أرشيفنا الإلكتروني ومعارضنا بحدود الـ6 مليون زائر سنوياً. 80 في المئة من الشعب الفلسطيني يعيش في الشتات وهم جمهورنا الحقيقي، ممنوعون من زيارة المتحف الفلسطيني، وهو يذهب إليهم حتى تحرير فلسطين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية