الحروب والمواجهات العسكرية توصف دوماً بتعابير جانب أزرق (قواتنا) وجانب أحمر (العدو). لكن الجانب البرتقالي هو من جلب وقف النار هذا الأسبوع. الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب شخصية سائدة من خلف الاتفاق، الرجل الذي قد يجلب نهاية للحرب الطويلة ويصمم مستقبلنا.
رئيس الوزراء نتنياهو الذي يثرثر لمؤيديه شعار “النصر المطلق” طوال سنة، كان مشكوكاً فيه أن يصل بنفسه إلى اتفاق وقف نار في لبنان لو لم يتلقَ رسالة واضحة من ترامب متوقعة منه. لقد تعثر حظ نتنياهو، وبدأ كثيرون في إسرائيل يصدقون بوجود شيء ما كهذا مثل “النصر المطلق”، وقد غصب على التوقيع على اتفاق، حتى فنان تسويق مثله لا يمكنه أن يغلفه ويبيعه كـ “نصر”، فما بالك “مطلق”؟
اتفاق الخليل، وصفقة شاليط وحقائب المال التي نقلها إلى حماس، أثبت نتنياهو بأن أيديولوجيته قد تكون مرنة مثل لاعبة جمباز فني ابنة عشرة. فهيم أكثر بكثير من وزير دفاعه، وإن اتخذ نتنياهو جانب الحذر من التفوه بكلمة “نصر” لدى عرضه الاتفاق على الأمة، لكن أبواقه فاقوه وأظهروا مرونة وليونة حين سوقوا الاتفاق كلحظة أخرى من الانكشاف الرباني (لربهم).
كان الأبواق محقين في شيء واحد: اتفاق وقف النار الذي تضارب مع كل ما روجوا له في السنة الأخيرة، هو إنجاز ذو مغزى لإسرائيل، يختلف عن كل الاتفاقات السابقة مع لبنان، هو يشكل مقابلاً مناسباً للإنجازات المعتبرة التي حققها الجيش الإسرائيلي في ميدان المعركة. لقد وقعت إسرائيل على اتفاق مع دولة لبنان، يتنازل فيه لبنان عن سيادته ويوافق بحكم الأمر الواقع على نشاط عسكري إسرائيلي في أراضيه، إذا ما خرق الاتفاق. هذا بحد ذاته إنجاز معتبر.
لقد سبق أن قيل الكثير بأن وقف النار لن يفحص صياغاته، بل تصميم إسرائيل على إنفاذه، حتى بثمن دخول متجدد للقتال. صحيح أن الاتفاق يبقي حزب الله كقوة عسكرية لا بأس بها في لبنان، لكن حزب الله، المتضرر والضعيف، يصعب عليه الآن تسويق هذا الاتفاق كنصر.
لنا إشارة من غزة
فضلاً عن ترهات “النصر المطلق”، لم تدع إسرائيل ولم تضع لنفسها هدف إبادة القوة العسكرية لحزب الله أو احتلال شريط فاصل داخل لبنان. فالبقاء على أرض لبنان كان يضمن إبقاء بلدات الشمال تحت النار لسنوات أخرى. أما الشروط التي حققها الجيش الإسرائيلي، فقد أزالت عن بلدات الشمال تهديد الاجتياح وخلقت فرصة لإبعاد تهديد نار حزب الله. إذا كانت مهمة إسرائيل فرضه بتشدد وبقوة، فربما يعود الشمال ليزدهر السنة القادمة.
ثمة فرصة لتغيير ذي مغزى في مكانة حزب الله في موازين القوى الداخلية في لبنان. فالبريطانيون على مدى أشهر يهيئ قوات من الجيش اللبناني لإنفاذ الاتفاق، سواء على طول معابر الحدود مع سوريا أم في جنوب لبنان. حزب الله، الذي قُتل أو أُصيب عشرة آلاف من رجاله، لم يعد القوة الأقوى في الدولة.
معقول الافتراض بأن تحاول إيران الأيام القريبة القادمة البدء بضخ المال لإعادة بناء حزب الله. إذا نجحت إسرائيل في تشجيع دول الغرب والخليج لتعزيز القوات الأخرى في لبنان، الجيش اللبناني والمسيحيين، برزمة مساعدات توازن المال الإيراني، فإنها ستكون القوات المؤثرة في الدولة.
وثمة نقطة أخرى في صالح طرف الرئيس المنتخب: ترامب يعرف بأن الاتفاق تحقق بفضل مباركته، ولم يحاول قطف المجد، وسمح للرئيس الراحل بايدن الاستمتاع بالحظوة. وهذا فعل يعكس نضجاً من جانبه، وهذا النضج قد يفتح فرصة أخرى قبل أن يدخل إلى البيت الأبيض.
قطاع غزة، الذي عاد ابتداء من هذا الأسبوع ليكون ساحة قتالنا الأساس، يؤشر إلى وجود فرصة. فالأصوات التي صدرت عن حماس التي تفيد استعدادها للبحث في وقف نار في غزة أيضاً، تدل على أن حماس أيضاً في ضائقة: الجيش الإسرائيلي يكمل تفكيك المعقل الذي حاولوا إقامته في جباليا، شمال القطاع فرغ تماماً من سكانه.
أعلن الرئيس بايدن محاولته المضي بمنحى لوقف نار في غزة وإنقاذ المخطوفين بمعونة مصر وتركيا وقطر. يمكن لمثل هذا المنحى أن يتحقق إذا ما حظي بمباركة ترامب. لنتنياهو، الذي قلق من إنهاء القتال في غزة والمطالبات بالتحقيق التي ستأتي بعده، سيصعب عليه ابتلاع وقف نار في غزة. ما يحلي قرصه المرير هي رزمة مساعدات أمريكية من السلاح، وقد رفعها نتنياهو مرة أخرى على رأس فرحته. لكن سيكون كل شيء متعلقاً بحركة رأس زعيمه الجديد، ترامب.
صفقات، لا حروب
إيران تبدي بوادر عصبنة قبيل دخول الجانب البرتقالي إلى منصبه. هذا الأسبوع واصلت تهديد إسرائيل لكنها تبدو كمن اختارت تأخير ردها الموعود على الهجوم الإسرائيلي.
فقدت إيران ذراعيها حيال إسرائيل – حزب الله وحماس – لكن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع ذراعيها الآخرين – العراق واليمن – كساحتين نشطتين. الميليشيات في العراق تخضع لسيطرة كاملة من طهران، التي قد تدفعهما للتوقف عن نشاطهما في كل وقت. وقد ألمحتا هذا الأسبوع بأنهما تفكران بالانضمام إلى وقف النار. اليمن لاعب مارق، لا يقبل أي إمرة وتحكم.
يعرف الإيرانيون بأنهم مستهدفون كشركاء كاملين في المحور المناهض لأمريكا. روسيا تقاتل في أوكرانيا إلى جانب كوريا الشمالية، فيما إيران موردة السلاح، وإيران هي الحلقة الأضعف في هذا المحور الثلاثي. وترامب كفيل بأن يختارها كمن ينبغي تركيز الضغط عليها.
يؤمن البيبيون المسيحيون بأن ترامب سيرتبط بإسرائيل في معالجة النووي الإيراني. هذا سيناريو يتضارب وطبيعة الرئيس المنتخب، رجل يتبنى الصفقات وليس الحروب. لكن ترامب يعرف كيف يشخص الضعف، وإيران في نقطة دركها الأسفل منذ سنين. إذا ما فرض عليها عقوبات شالة ومسنودة بتهديد عسكري مصداق، فيمكنه أن يفرض على إيران نظام رقابة جديداً وقاسياً ومتشدداً، يبعد آية الله عن النووي طوال سنوات ولايته.
في السطر الأخير: بعد سنة من حرب رهيبة وإنجازات رائعة للجيش الإسرائيلي، تقف إسرائيل أمام بطانة فرص لإعادة تثبيت مكانتها في المنطقة. بعد أقل من شهرين، سيدخل إلى البيت الأبيض رئيس هو صديق حقيقي يريد طالح إسرائيل حتى قبل أن يرى صالح نتنياهو. بعد سنة كلها سواد، لعل البرتقالي ينجح بأن يكون الأسود الجديد.
ألون بن دافيد
معاريف 29/11/2024