معاصِر زيوت الخردل والسِمسِم مهنة تقليدية يمنيّة مُهددة

أحمد الأغبري
حجم الخط
0

صنعاء-“القدس العربي”:مِن عشرات المعاصِر التقليدية لإنتاج زيوت الخردل والسِمسِم في صنعاء القديمة، لم يتبق في هذه المدينة المُدرجة في قائمة التراث العالمي، سوى بضع معاصِر ضاعفت الحرب من معاناتها. إلا أن علاقة اليمنيين بثقافة التداوي بالزيوت الطبيعية عززت من إمكانات ما تبقى من هذه المعاصِر على مواجهة ما فرضته تكنولوجيا إنتاج الزيوت من تحديات.

اكتسب مُحمّد باشا الحزّيَزي (25 سنة) مهنة العمل على معصَرة باب اليمن، الواقعة على المدخل الجنوبي للمدينة القديمة، من والده الذي بدروه تعلمها من جده، وهكذا تتوارث عائلته هذه المهنة لأكثر من مئة سنة، بينما يصل عمر هذه المعصرة لأكثر من ذلك، مؤكداً أن تاريخ جلب الصخرة التي نحتت منها المعصرة الحالية يعود لأكثر من مئة وخمسين سنة، على حد قوله.

وتُعدّ هذه المعصَرة من أشهر معاصر صنعاء لإنتاج زيت التَرتَر (الخردل) والجلجلان (السِمسِم) ويطلق في اليمن تسمية “سليط” تقليدياً على اسم الزيت.

وتُمثل هذه المهنة جزءاً من تراث المدينة التقليدي الحرفي، كما ما تزال حاضرة في حياتها، بل أن بعض الزبائن يقصد المدينة من خارجها فقط من أجل شراء هذه الزيوت، التي ما زال لها سوق يطلبها على امتداد البلاد، وإن كان صار محدوداً.

لا توجد دراسة دقيقة ووافية عن واقع معاصِر الزيوت التقليدية في المدينة؛ إلا أن واقعها تراجع بشكل كبير، فمن عشرات المعاصر إلى عددٍ قليل لا يتجاوز أصابع اليد من المعاصِر بسبب ما وفرته التكنولوجيا من تقنيات وفرّت كثيراً من الجهد والمال، لكن نبيل، وهو حرفي يعمل في عصْر الزيوت التقليدية في صنعاء، يؤكد أن الزيوت المنتجة باستخدام المعصَرة والجمل “تبقى هي الأجود والأنقى” على حد تعبيره.

 معصرة الجمل

وحتى تبقى حاضرة استفادت المعاصِر التقليدية في صنعاء من التكنولوجيا أيضا بجانب ما يُعرف بمعصرة الجمل، وباتت تعتمد على الآلات الحديثة في إنتاج عددٍ كبير من أنواع الزيوت مثل زيت الحبة السوداء، وزيت البصل، وزيت الثوم، وزيت الزيتون، وزيت الخروع، وزيت اللوز وغيرها، باستثناء زيت الخردل وزيت السِمسِم؛ إذ ما زالت تعتمد على المعصَرة التقليدية في إنتاج هذين الزيتين المشهورين في اليمن. “لأن بذور وحبوب الخردل والسِمسِم أقوى من قدرة الآلات على عصرها واستخراج زيتهما بالجودة والنقاوة المطلوبة، حيث لا يقوى عليهما إلا معصَرة الجمل” يقول مُحمّد باشا متحدثاً لـ” القدس العربي”.

جمل المعصَرة

يتم إنتاج الزيوت في هذه المعاصِر التقليدية بالاعتماد على معصَرة حجرية ضخمة تتكون من صخرة منحوتة بشكل دائري بقطر يتجاوز المتر تقريباً ومغروسة في الأرض، كما يتم تثبيت حوض حجري في وسط الصخرة من أعلى بارتفاع يقارب المتر تقريبا، وله شكل دائري، أيضاً، ومن جوف الحوض يتنصب عمود خشبي كبير مرتبط للخارج بمقود خشبي مربوط بالجمل الذي يدور حول المعصَرة، وجراء الدوران يتحرك العمود داخل الحوض، ويتم عصر البذور. يدور الجمل بالمعصرة في اليوم لمدة تستمر إلى ثلاث ساعات يتم خلالها إنتاج الزيت بواقع بضع لتراث حسب مُحمّد باشا.

 يدور الجمل حول المعصَرة مغطى العينين، وتغطية عينيه تأتي لحمايته من الإغماء نتيجة الدوران، كما يقول نبيل، الذي يعمل في المعصَرة، وبعضهم يقول إنه لو لم يتم تغطية العينين فإن الجمل لن يمشي كثيراً؛ لأنه سيجد نفسه يدور في المكان نفسه، لكن عند تغطية عينيه فهو يدور لعدة ساعات في المكان نفسه معتقداً أنه في طريق طويل. ويمثل جمل المعصَرة في اليمن مضرب مثل لمن لا يجني من عمله شيئا باعتبار الجمل لا يأكل مما يعصر.

بخلاف الزيت تبيع المعصَرة ما يُعرف بـ”العصارة”؛ وهي بقايا حبوب الخردل أو السِمسِم بعد عصْر الزيت، ويشتريها بعض الناس غذاءً للحيوانات، والأكثر ظرافة إن المعصرة تبيع، أيضاً، بول الجمل، حيث يقول بعض العاملين في المعاصِر هناك إن بعض النساء يشترينه ويستخدمنه لغسل الرأس اعتقاداً أنه يطوّل الشعر.

الحبوب

تحصل المعاصِر على بذور وحبوب الخردل والسِمسِم من المزارعين في مناطق مختلفة في اليمن؛ والذين، كما يقول مُحمّد، يأتون إليه ويشتري منهم حاجته من الحبوب لمدة سنة كاملة.

أما الجمل فيوضح أنه “لا يستمر عمره في المعصرة أكثر من عشر سنوات وأحياناً خمس سنوات ويموت” ويضيف “كان لدينا في السابق معصرتان وأربعة جمال اثنان منهما كانا يعملان واثنان يرتاحان، بينما الآن بالكاد نعتمد على جمل واحد؛ لأن العمل لم يعدّ مثلما كان زمان، حيث تراجع كثيراً”.

العمل في هذه المعصَرة هو مصدر الدخل الوحيد لعائلة مُحمّد؛ فمنذ عشرات السنوات تتوارث العمل فيها، ويؤكد عدم تفريطه بها، ليس لكون هذه المهنة من التراث الثقافي للمدينة وحسب، وإنما لأن هناك مَن ما زال يطلب هذه الزيوت، وخاصة زيت الخردل والسمسم وزيت اللوز الحلو الذي يزداد الطلب عليها من داخل اليمن وخارجه وخاصة من دول الخليج، وهذه الزيوت، كما يقول، لا تنتج بجودتها إلا من خلال معصَرة حجرية وجمل، ومن هنا تأتي قيمة هذه المهنة.

 الحرب

 ارتفعت أسعار الحبوب في اليمن خلال الحرب بسبب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية التي ترتب عليها ارتفاع أسعار السقاية والنقل وغيرها من مستلزمات الزراعة، ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار الزيوت، حيث يُباع غالون الزيت عبوة خمسة لتر، وفق نبيل، بخمسة وعشرين ألف ريال يمني (خمسين دولارا أمريكيا تقريباً) سواء من زيت الخردل أو زيت السمسم.

ويستخدم اليمنيون زيت الخردل في علاج أعراض البرد والتهابات المفاصل والروماتيزم وغيرها من الأمراض المتعارف على علاجها تقليدياً بواسطة هذا الزيت الذي له رائحة قوية لكنها ليست لطيفة، أما زيت السِمسِم فيستخدم للشعر وللتداوي من أمراض المعدة وغيرها بما فيها استخدامه كبديل طبيعي عن زيوت الطباخة لأنه يمنح الأكل نكهة ويعزز من فائدة الطعام صحياً كما يقول العاملون في المعصَرة.

المتأمل في تفاصيل عمل هذه المعاصِر يستغرب من الدِقة في تصميمها واستخدام قوة الجمل فيها، وهي دِقة توفرت في ثقافة المدينة منذ قرون، ما يجعلها جديرة بإخضاعها لدراسة شافية. كل جزئية في هذه المعصرة، التي تفتح أبوابها يومياً صباحاً ومساء، تحكي قصصا من تاريخ هذه المدينة العريقة، التي تعد من الأقدم عربيا المأهولة بالسكان حتى الآن. وتتعرض كثيرٌ من المهن والحرف التقليدية في المدينة لتحديات كثيرة ضاعفت منها ظروف الحرب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية