معرض الرسامة التونسية هيفاء المديوني: «امرأة من ورق» من المجاز الشعري الى المقاربة التشكيلية

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»:  وسط الساحة المغطاة للمركز الثقافي السليمانية في المدينة العتيقة بتونس، تعرض هذه الأيام أعمال الفنانة التشكيلية الشابة وأستاذة الفنون البصرية هيفاء مديوني، تحت عنوان: «امرأة من ورق».

المعرض يهدف إلى تقديم رؤية متنوعة لموضوع قديم جديد تم تناوله من عدة زوايا ويتعلق بالمرأة في علاقة بيئتها الاجتماعية وحياتها اليومية ومواقفها المتعددة من مختلف القضايا وهو يضم 26 لوحة.
لقد فاجأت هيفاء مديوني عشّاق فنها بالعنوان الذي تم اختياره لهذا المعرض، لأن عبارة «امرأة من ورق» قد تُعطي الانطباع للوهلة الأولى بأن هذا المعرض التشكيلي سيهين المرأة ويحط من شأنها ولن يعطيها القيمة التي تستحقها. لقد فتح هذا العنوان الباب للتساؤل، هل أن المعرض سيسلط الضوء على امرأة هامشية غير مؤثرة في محيطها؟ أم على امرأة ورقية فعلا نتخيلها ونستطيع تشكيلها بطريقتنا الخاصة مثلما نشكل الورق والصلصال؟ أم أن الأمر يتعلق بامرأة ضعيفة هشة سهلة الإنكسار والتفكك وليست لها القوة والقدرة على مواجهة صعوبات الحياة؟
لكن عند الإطلاع على معرض هيفاء مديوني ومشاهدة اللوحات يخرج الزائر بانطباع مفاده أن موضوع اللوحات لا علاقة له بما يوحي به العنوان المختار، باعتبار أن المعرض مخصص للمرأة المناضلة والمكافحة والمجاهدة. وهذه المرأة هي في الأصل مهمشة ومتروكة داخل المجتمع مثل الورق، لكنها تناضل من أجل الكرامة ومن أجل نيل حريتها والحصول على مكانتها الحقيقية في المجتمع وتحارب كل مظاهر الاذلال.

بين الحضور والغياب

ومن بين اللوحات المعروضة لهيفاء المديوني في هذا الفضاء التاريخي الجميل للسليمانية، والتي تلفت انتباه الزوار الذين توافدوا على هذا المعرض التشكيلي، واحدة بعنوان «الجسد بين الحضور والغياب». هذه اللوحة هي تلخيص لفكرة وجب التمرد عليها تتعلق بجسد المرأة الذي يراه البعض مجرد شيء جميل خلق لغاية محددة. بينما تريد الرسامة من خلال هذه اللوحة محو هذه الفكرة الرديئة والقول بأن المرأة ليست مجرد جسد للرغبة والشهوات وإنما هي كائن مفكر وفاعل في المجتمع الذي ينتمي إليه.
لقد أصرت الفنانة هيفاء مديوني على إبراز جمال جسد المرأة من خلال تصوير شعرها الطويل الذي يتدلى وينساب ليشكل في نهايته الخط والكتابة رمز العلم والمعرفة، إنها المرأة العالمة وجميلة الجسد في آن، وقد تم تمثيل هذا الجسد وتخيله بعناية فائقة ولعب فيه الشعر الطويل والخط العربي دورا بارزا ولافتا. فهذا الخط معين للجمال لا ينضب وهو الذي قال عنه الرسام الشهير بيكاسو منذ عقود «إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم وجدت فيها أن الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد».
وتعرف هيفاء مديوني نفسها لـ«لقدس العربي» بالقول: «تخرجت من معهد الفنون الجميلة وبدأت المشاركة في المعارض الجماعية مع اتحاد الفنانين التشكيليين منذ عام 2013. وأقمت معرضي الأول (هندسة حبر) عام 2020 ومعرض (زخات الشعر) عام 2024، ولاحقا معرض (ظل العابرين) وهو موضوع مخصص عن الهجرة غير النظامية وتحدياتها وهواجسها النفسية والإنسانية. ومعرضي الحالي (امرأة من ورق) هو عبارة عن خلاصة لكل المعارض التي قمت بها سابقا وحوصلة لتجاربي الفنية. فقد اعتمدت فيه المواد الأولية من ورق وكارتون كنت قد استعملتها في معرض (ظل العابرين) لأعبر عن الجسد المهمش وعن الحاضر الغائب. كما استلهمت من معرض (زخات الشعر) برسم الجازية الهلالية بشعرها الطويل. كما استوحيت من شعر ابو النواس هذه الأبيات: رَأَت شَخصَ الرَقيبِ عَلى التَداني. فَأَسبَلَتِ الظَلامَ عَلى الضِياءِ. فَغابَ الصُبحُ مِنها تَحتَ لَيلٍ. وَظَلَّ الماءُ يَقطِرُ فَوقَ ماءِ. فحاولت أن أُعبّر عن هذا البيت وأحاكي المجاز الشعري بمفاهيم تشكيلية تعكسها امرأة بشعرها الطويل. حاولت ان أعبر عن بلوحاتي وريشتي وألواني عن هذه الأبيات الشعرية الجميلة التي لامست روحي ووجداني بمقاربة تشكيلية».
يشار إلى أن لتونس باع في مجال الخط العربي حيث برز فيها الخط القيرواني نسبة إلى مدينة القيروان التونسية التي كانت في عصر الأمويين والعباسيين عاصمة ولاية المغرب الإسلامي، ثم أصبحت عاصمة الدولة الأغلبية وعاصمة مرحلة من زمن الدولة الفاطمية، وعاصمة الصنهاجيين أو الزيريين ثم عاصمة الإمارة الشابية. ولذلك أصبح البعض يطلق على الخط القيرواني التونسي الأصيل تسمية الخط المغربي الذي كتبت به مصاحف شهيرة وقديمة جدا بماء الذهب وبغيره ما زال يضمها إلى اليوم متحف الفنون والحضارة الإسلامية برقادة بمدينة القيروان.

تقنيات عديدة

لقد اختارت هيفاء مديوني استخدام عدة تقنيات في تقديم أعمالها، وقدمت للمعجبين بفنها في هذا المعرض مجموعة تمثل أحدث إبداعاتها التي أنجزتها في سنة 2024. حيث وظفت في هذه اللوحات الألوان الزيتية أحسن توظيف على مساحة القماش، كما استعملت الخشب الرقيق في تشكيل هذه اللوحات وكذا الورق المتموج والورق المركب.
ويمنح هذا الاختيار المتنوع للتقنيات زائري المعرض فرصة للاطلاع على الاتجاهات الفنية الحالية في الفن المعاصر في عمل فني هو بالأساس بحث عن المواقف من مختلف القضايا التي تهم المرأة من خلال الابتكار والتجديد في وسائل العمل. هو ممارسة تستمد مصدرها مما هو موجود، ومما هو متاح أمام الفنانة التشكيلية التونسية في حياتها اليومية وذلك باستخدام مواد بسيطة وسهلة يمكن الوصول إليها.
إن معرض هيفاء المديوني يدعو فعلا إلى التأمل والنقاش في موضوع جندري بامتياز ويستحق أيضا الزيارة أكثر من مرة للغوص في مدلولاته وأبعاده. هو نص صامت يعبّر بهدوء وسكينة على ما تجاهر به الحركات النسوية من أفكار حقوقية تحررية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية