تونس ـ «القدس العربي»: يستضيف الفضاء الفني «إيماجين» أو «تخيل» إن صح التعبير، الواقع في قرطاج الأثرية معرضًا للفنانة التشكيلية التونسية ليلى عمار. وقد افتتح المعرض يوم السبت 4 كانون الثاني/يناير، ويستمر إلى الرابع من شباط/فبراير المقبل ليفسح المجال لنشاط ثقافي جديد بهذا الفضاء على امتداد شهر كامل. وهكذا، وبعد الاحتفاء بديفيد بوند والباليه الخاص به، يواصل الفضاء الفني «إيماجين» احتضان المبدعين من مختلف الفنون من خلال تقديم جدرانه هذه المرة لمعرض جديد وأكثر أصالة.
ويعد معرض «ألوان متشردة (أو متجولة) من هنا ومن مكان آخر» لليلى عمار، والذي يقترحه الفضاء على رواده مع بداية هذا العام، بمثابة دعوة إلى السفر والهروب من خلال الألوان ومختلف مكونات اللوحة التشكيلية.
وتجدر الإشارة إلى أن تونس تشهد في السنوات الأخيرة انتشار الفضاءات الفنية والثقافية سواء الخاصة أو التابعة للبلديات أو لوزارة الثقافة أو غيرها، وذلك رغم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة التي عاشها البلد في السنوات الأخيرة. ولعل ذلك ما يؤشر للبعض على أن الفعل الثقافي لا غنى عنه بالنسبة إلى التونسيين في كل الظروف وفي كل الحالات ولن يردعهم تدهور اقتصادي واجتماعي ولا حتى سياسي وأمني عن الإقبال على الثقافة بمختلف مكوناتها وفنونها.
عصارة تجارب
إن ما يميز هذا المعرض هو لوحاته التي يلتقي فيها الفن بالهندسة من خلال عصارة تجارب صاحبته الفنانة التشكيلية ليلى عمار القادمة من كليات الهندسة المعمارية حيث تلقت تكوينها الأكاديمي. فهي في الأصل مهندسة معمارية لكن ميولها الفنية هي التي انتصرت بالنهاية، وعلى ما يبدو على باقي ميولها الأخرى بما في ذلك اختصاصها الذي اختارته لدراستها الجامعية.
ولدت ليلى عمار، المهندسة المعمارية، بتونس العاصمة سنة 1959، وانغمست منذ وقت مبكر جدًا في عالم الرسم والألوان. وقد أخذتها مسيرتها الحياتية فيما بعد من تونس إلى باريس والقاهرة، ومن اسطنبول إلى هافانا، ومن باليرمو ومرسيليا إلى لشبونة، فأثرت تجاربها.
وصبغت كل أماكن المرور والسفر والإقامة والمدن والمناظر الطبيعية التي مرت بها ليلى عمار أعمالها بعمق فني يلاحظ في مختلف لوحاتها، وتلاحظ أيضا التدفقات والمناظر الطبيعية، والانعكاسات المتحركة وتغيرات الضوء. ويظهر جليا مرور الشمس ولعب الظلال وقدوم وذهاب البشر والحيوانات. لقد كانت دائما حساسة في لوحاتها وبشكل كبير لسماء البحر الأبيض المتوسط، ولاحظت كما يجب الفروق الدقيقة في المحيط الأطلسي، وتعاملت بحس مرهف مع الحدائق والمساحات الخضراء، والحيوانات، والصور الظلية البشرية وأماكن المعيشة.
دمج للعناصر
دمجت ليلى عمار في ألوانها الطاغية على لوحاتها، وكذا مجموعاتها وإبداعاتها بوجه عام، هذه الطاقة الحيّة، وهذه التفاعلات الدقيقة بين مختلف العناصر. كما دمجت الهندسة المعمارية وأقحمتها بسلاسة لتطغى في تناغم على الأشكال الحرة، وحتى على الأشجار والشواطئ والنقوش، وعلى المدينة المثالية للتنزه أيضا.
لقد عملت الفنانة في هذه اللوحات بأسلوب حر وفطري فيه الكثير من الإبداع والإتقان، فنظمت بمهارة الخطوط والأشكال والمساحات المسطحة واهتمت بتناسق الألوان. وقامت بالنهاية بتجميع مختلف العناصر والمكونات المشكلة للوحة التشكيلية أجواء خاصة بها وبخطها الفني واستنسخت هذا الطابع المميز في حوالي أربعين عملاً معروضًا في هذا الفضاء.
إذن أصبحت الألوان المتجولة، حسب عنوان هذا المعرض، سواء في تونس أو في غيرها من الأماكن في هذه الكرة الأرضية الفسيحة التي جابتها الفنانة تلعب وترقص وتترنم. إنها تتفاعل جميعا في رقصة باليه رقيقة على أنغام موسيقى هادئة وكلمات تم نظمها بعذوبة لإثارة إعجاب المشاهد، زائر هذا المعرض، وكأن الفنون جميعها اختلطت في هذه اللوحات من موسيقى ورقص وشعر ونثر وزادتها الصور والألوان بهاء.
ان الجميل في هذا المعرض هو لقاء الهندسة المعمارية بالفن التشكيلي والذوق الراقي في تجوال ممزوج بالألوان وبالعواطف أيضا، احتضنه فضاء «إيماجين» الفني الإبداعي. والأجمل هو هذه الأجواء الفنية الرائقة التي تطغى على المعرض من حيث جمالية الفضاء.
بلغ عدد اللوحات المعروضة حوالي أربعين عملاً انقسمت إلى لوحات مائية وزيتية وأخرى تصويرية، وقد نالت استحسان الحضور بشكل لافت. إنه جمهور جاء وكله فضول لاكتشاف هذه الأعمال الفنية من جهة، والجانب الآخر من المهندس المعماري الذي يوثق أعماله في العادة بطريقة علمية من جهة أخرى.
لقد نجحت الفنانة في هذه المزاوجة الفريدة بين العلم والفن بشكل لافت وهما نمطان لا يلتقيان عادة وتختلف مناهجهما إلى حد التضاد. ففي حين تعتمد العلوم على ضوابط ومعايير دقيقة وقواعد، لا يتقيد الفن عادة بضوابط ولا تردعه قيود، وعندما توضع هذه القيود يتم الخروج عن النص ويغيب المنحى الإبداعي الذي يميز العمل الفني.
زيارة ضرورية
ترى الإعلامية التونسية المتخصصة في الشأن الثقافي لمياء الشريف في حديثها لـ«القدس العربي» أن المعرض التشكيلي الألوان المتجولة أو المشردة والانعكاسات المتحركة لليلى عمار، والذي يحتضه كاليري «إيماجين»، هو فرصة لاكتشاف لقاء العلم بالفن الذي أتقنته الفنانة وقدمته لزوار معرضها. فالتميز، حسب محدثتنا، يكمن هنا خاصة وأننا إزاء مجالين مختلفين تماما ومن تشبع بالعلوم الصحيحة سيصعب عليه الإبداع في المجال الفني، وبالتالي فإن ما أنجزته ليلى عمار في كامل مسيرتها ليس بالأمر الهين ويحسب لها.
وتضيف محدثتنا قائلة: «ولعل ما ساهم في نجاح هذه الفنانة التونسية هو أن مجالها الهندسي، وهو الهندسة المعمارية قريب من الفن التشكيلي باعتبار أن تصميم المباني والإنشاءات، وبالإضافة على اعتماده على الحساب الدقيق وحسن توظيف الأشكال الهندسية المناسبة، فيه الكثير من الذوق الراقي والإبداع الفني ويعتمد على التصميم على المساحات المسطحة وغير المسطحة. وبالتالي فإن زيارة هذا المعرض الذي يتواصل إلى بداية الشهر المقبل هامة للاطلاع على هذه التجربة الفنية والإبداعية الفريدة لفنانة مجتهدة ومتألقة تستحق كل الدعم والتشجيع من قبل الجهات المختصة بالوزارة ومن قبل جمهور الفن التشكيلي في تونس.
كما أن الفضاءات الإبداعية على غرار «إيماجين»، والتي باتت معاقل حقيقية للإبداع والمبدعين في تونس وتجندت لخدمة الثقافة المحلية وجب دعمها أيضا والتعريف بها والثناء على جهودها في خدمة الثقافة وتقريب الفعل الثقافي من التونسيين. فهي التي عوضت غياب دور الثقافة في السنوات الأخيرة وعدم قيامها بالأدوار التي أنيطت بعهدتها بعد الاستقلال وإن كان ذلك يقتصر على العاصمة والمدن الكبرى فحسب، وبالتالي نحن بحاجة إلى تواجدها في الجهات الداخلية من البلاد».