مغارة سمسم للاستشراق… عن حكاية علي بابا مع دار الوراق

قبل سنوات قليلة، عملت دار الجمل بالتعاون مع الباحثين محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلا جبران من جامعة ساو باولو ـ البرازيل، على تحقيق ونشر مخطوطة، أو تحفة الحلبي الماروني حنا دياب، ورحلته لباريس في بدايات القرن الثامن عشر. وفي هذه الرحلة، روى لنا دياب تفاصيل عن عالم القرن الثامن عشر، وطقوس التعذيب التي كانت تجري للمجرمين في شوارع باريس مثلا. وعن قصة لقائه بأنطوان غالان المستشرق الفرنسي، الذي ترجم للعالم الغربي قصص ألف ليلة وليلة. لكن قبل تحقيق هذه المخطوطة، يمكن القول إنّ حنا دياب بقي شخصية غامضة في العالمين العربي والغربي. وإذا بهذا الغموض يختفي لاحقا مع إعلان المستشرق الفرنسي جيروم لنتان سنة 1993 عن وجود مخطوطة مودعة في المكتبة الرسولية في مدينة الفاتيكان. مع ذلك، بقيت المخطوطة مجهولة للقراء، وبالأخص العرب حتى عام 2017 مع صدور التحقيق العربي (صدرت بالفرنسية عام 2015). ومن خلال هذا التحقيق استطعنا التعرف أكثر على هذه الشخصية، والدور الذي أدته في إكمال موسوعة ألف ليلة وليلة الفرنسية، من خلال روايته لغالان لبعض الحكايا الأخرى التي لم يكن قد سمع عنها بعد.
يشير المحققان إلى أنّ دياب يظهر في إحصاء للجالية المارونية في حلب سنة 1740، كرب أسرة مكونة من 12 نفرا، ستة ذكور وست إناث.

ويبدو أنه ولد في سنة 1689، وكان والداه قد حاولا إلحاقه بأحد الأديرة اللبنانية، لكن الشاب دياب فضل عوضا عن ذلك مرافقة رحالة فرنسي يدعى بول لوكا. ومعه سافر إلى مصر وقبرص وتونس وليبيا وإيطاليا وفرنسا، قبل أن يعود به المطاف مرة أخرى إلى حلب، ليدون رحلته هذه في الستينيات من القرن الثامن عشر. لكن التعرف على دياب لن يقتصر على ترجمته فحسب، وإنما ستتيح لنا المخطوطة التعرف على حكواتي ورجل مثقف حلبي، وعلى عين إثنوغرافية كانت قادرة على التقاط تفاصيل غاية في الدقة والغنى عن واقع المدن التي زارها، بإسلوب يمزج بين العامي والفصحى، وهو أسلوب كان سائدا آنذاك في أوساط واسعة من الطبقة الوسطى في إسطنبول ودمشق وحلب. لكن لعل أكثر ما استوقف الباحثين في هذه الرحلة، قصة لقائه بأنطوان غالان، إذ يذكر دياب أنه «وفي تلك الأيام صغرت نفسي واتضجرت من السكنه في البلاد (باريس). وكان يزورنا كثير أوقات رجل ختيار، وكان موكل على خزانة كتب العربية وكان يقرا مليح (بشكل جيد) بالعربي، وينقل كتب عربي إلى الفرنساوي. ومن الجملة كان في ذلك الحين ينقل كتاب عربي إلى الفرنساوي وهو كتابة حكاية ألف ليلة وليلة. فهذا الرجل كان يستعين فيّ لأجل بعض قضايا ما كان يفهمهم. فكنت أفهمه إياهم. وكان الكتاب ناقص كام ليلة، فاحكيت له حكايا الذي كنت بعرفهم، فتمم كتابه من تلك الحكايا. فانبسط مني قوي كثير، ووعدني بأن كان لي مسألة حتى يقضيها من كل قلبه». ومن بين الحكايا التي رواها دياب لغالان، حكاية «علي بابا والأربعون حرامي». ويبدو من خلال يوميات غالان، أنّ دياب لم يقتصر في مساعدته له على رواية هذه الحكاية، وإنما أيضا هناك ما يوحي بأن دياب دوّن هذه الحكاية وقام لاحقا غالان بترجمتها للفرنسية مع إجراء بعض التغييرات، دون أن يوثر في بنية الحكاية وعالمها المقبل من التراث السردي لسوريا.
ومع هذه المرويات، بات بإمكان الباحثين القول، إن حنا دياب هو صاحب قصة علي بابا، ولعله نقلها أو سمعها، أو قرأها في حلب، وأعاد كتابتها أيضا بأسلوبه. وهذا ما مثل إضافة جديدة لعالم ألف ليلة وليلة، أو لنقل بشكل أدق، إننا أمام أحد كتاب ألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر، وهو استنتاج ربما يتقاطع مع ما ذهب إليه جان كلود غارسان في (قاموس البحر الأبيض المتوسط) عندما أشار إلى أنه لم يبق أي شيء من الحكايا الاصلية المكتوبة في القرن الثامن عشر، كما أن الحكايا الأخرى التي يعود زمنها الى القرون الوسطى، تمت إعادة كتابتها في أغلب الأحيان. ومن ثم يمكننا اعتبار ألف ليلة وليلة، كما نعرفها اليوم، إنتاجا أصيلا للعصر المتوسطي المصري ـ السوري الذي اتّخذ شكله النهائي في كنفه.

ظهور آخر للمخطوطة ومحقق خائن

حظيت هذه الرحلة أيضا بتحقيق آخر صدر عن جامعة نيويورك أبوظبي ضمن مشروعها المهم عن تحقيق المخطوطة العربية. وقد صدرت مع مقدمة بالإنكليزية تحت عنوان (كتاب السياحة) وعمل على تحقيقها الباحث الألماني جوهانز ستيفان، الذي شارك أيضا في ترجمة الرحلة للإنكليزية. وبالتالي أصبحنا في العالم العربي أمام تحقيقين للنص، وإن ظل تحقيق الجمل أكثر غنى، بسبب الملاحق والمقالات الأخرى التي أضافها المحققان، وأغنت معرفتنا بحنا دياب. وبالتالي أمام هذه الجهود، بات من الصعب الحديث عن قصة علي بابا دون المرور بمخطوطة دياب، والجهود التي بذلت فرنسيا وعربيا وإنكليزيا في هذا الشأن. مع ذلك، يبدو أنّ واقع النشر في العالم العربي ما يزال يفاجئ الجميع، ويعيش حالة الاستثناء نفسها التي تعيشها المنطقة كاملة. وربما هذا ما حدث مع حنا دياب وبطله علي بابا، مع صدور كتاب بعنوان «علي بابا والأربعون حراميا.. النص العربي المكتشف حديثا» ترجمة حسين تقي سنبلي، دار الوراق للنشر. يوحي العنوان للقارئ بأننا أمام نسخة جديدة من القصة. وفي مقدمة الكتاب كتب الملاحظة التالية، «هو مجموعة من البحوث نشرت في مجلات علمية مختلفة، وقد قمنا بجمع هذه البحوث ذات الموضوع الواحد وجعلناها كتابا».

وبالتالي نحن لسنا أمام ترجمة كتاب من الإنكليزية، وإنما أمام أبحاث يعاد جمعها وترجمتها وتعود للمستشرق الأمريكي دانكان بلاك ماكدونالد 1863ـ 1943، الذي عثر على مخطوطة عربية تقبع في مكتبة بودلي في جامعة أكسفورد عام 1910 (ليس هناك أي إشارة لهذا التاريخ في كتاب الوراق) بعنوان «حكاية علي بابا مع اللصوص الأربعين والجارية مرجانة على التمام والكمال والحمد لله وحده». والمخطوطة عبارة عن كتيب صغير عليه علامة بائع يدعى فرنك، وقد اشترتها المكتبة منه في سنة 1860 بمبلغ ثمانية سنتات. وفي المخطوطة قصتان، الأولى بعنوان حكاية الخليفة هارون الرشيد مع بنت كسرى، والثانية حكاية علي بابا. ويبدو كما يرى ماكدونالد أنّ المخطوطة قد كتبت بيد شخص اسمه يوحنا بن يوسف واريسي، وهو وفق تعريف مترجم الكتاب، أو المحقق الخائن بالأحرى كما سنرى، كان مستشرقا مولعا بجمع المخطوطات العربية ونسخها، وكان صاحب خط عربي جميل. ومصدر المعلومة وفق المترجم/المحقق هو: (مواقع مختلفة من الإنترنت). كما يشير المترجم في هذا السياق إلى كتاب محسن مهدي (ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى) دون أن يكلف نفسه أن ينقل لنا ما ذكره مهدي، من أنّ هذا المؤلف هو تلميذ للمستشرق سيلفستر دي ساسي. وكأن الموضوع أمر ثانوي، كما يبين لنا الباحث محمد مصطفى الجاروش (محقق رحلة دياب لاحقا) في كتاب صادر عام 2011 بعنوان (الليالي العربية المزورة) أنّ صاحب مخطوطة بودلي، تاجر ومستشرق فرنسي عاش طويلا في القرن الثامن عشر، كان اسمه جيان آرسي (أو يوحنا بن يوسف وارسي) وكان له اهتمام بالغ بجمع مخطوطات ألف ليلة وليلة، ويضيف الجاروش، أنه في مكتبة جون ريلندز البريطانية مخطوطة لألف ليلة وليلة ناقصة، تعود إلى القرن السادس عشر، وقد حاول يوحنا نفسه أن يكملها بخطه العربي الجميل، ويستدرك ما فيها من هفوات وأوراق مفقودة. وعلى الرغم من أنّ نسخة هذا التاجر كما يذهب لذلك محسن مهدي، قد ترجمها من نسخة غالان، يتنبه جاروش إلى أنها لا تتفق اتفاقا كاملا مع النسخة الفرنسية التي نقلها في الأساس عن حنا، ما يدل على أنه أضاف عناصر أخرى مثل الأشعار التي كان يتجنبها غالان. ولذلك يمكن القول إنّ هذا النص هو نص غير مترجم فقط، بل أنتِج في بيئة عربية/ شرقية، وهي بيئة كانت تعيش آنذاك أيضا تحولات على مستوى الكتابة واعتماد العامية (منذ القرن الثامن عشر) ما يذكرنا أيضا بأسلوب دياب في رحلاته.

الملاحظ أنّ المترجم/المحقق، ودار النشر لم يكلفا نفسيهما بوضع ترجمة ماكدونالد ضمن إطار هذه القراءات وظهور نصوص جديدة. واللافت أكثر أن القارئ لهوامش وملاحظات المترجم/المحقق، يكتشف أنّه لا وجود على الإطلاق، ولا حتى ملاحظة أثناء إشارة ماكدونالد لحنا دياب، إلى مخطوطة دياب المحققة قبل سنوات، والتي وفرت لنا ترجمة جيدة عنه، وكأنه لم يسمع بها مطلقا! ولعل هذا احتمال وارد، لكنه يبقى غير مقبول. فكيف بالدار الناشرة، ألا تقوم مثلا بإطلاع باحث آخر على هذه الترجمة قبل نشرها، بدلا من اعتماد منطق السوق في طرح الكتاب تحت عبارة (النص العربي المكتشف حديثا) (عام 1910 وقبل) بما يوحي وكأننا أمام اكتشاف جديد. كما أنّ المثير للانتباه أنّ الجاروش في كتابه (الليالي المزورة) قام بتحقيق النص ذاته، أي عام 2011، وأضاف له ملاحق أخرى موجودة أيضا في نسخة الوراق. وهذا لا يعني التقليل من جهود المترجم أو الدار، وبالأخص على صعيد ترجمة بعض دراسات ماكدونالد، لكن كان من المفروض أن تكون هناك، على أقل تقدير، مراجعة ومعرفة بما نشر، أو مقدمة تضع أفكار ماكدونالد وتحقيقه للنص، في سياق الأبحاث والمراجعات الأخيرة في حقل ألف ليلة وليلة ونص حنا دياب.

الوقوع في مكيدة ألف ليلة

ولعل من المفارقات الطريفة هنا، أنّ المترجم والدار وقعا في قصة مشابهة لما حدث مع حكاية علي بابا. تروي الحكاية أنّ علي بابا اكتشف في أحد الأيام مغارة مليئة بالمال والجواهر، وتعود بالأساس إلى أربعين رجلا. أخذ يتنصت على الرجال، وعلم من خلالهم أنّ عليه ذكر عبارة «يا سمسم افتح الباب» لدخول المغارة. وعندما غادر الرجال وابتعدوا، اقترب وصاح على سمسم، واذا بأبواب المغارة تفتح. وهنا بدأ علي بابا يملأ صناديقه الفارغة من الذهب، وعاد لمنزله. بعد فترة من الزمن اكتشفت العصابة ذلك، وأخذت تبحث عنه في المدينة، وهنا سيبرز دور جاريته مرجانة، التي تمكنت بذكائها وفطنتها من إفشال كل جهود العصابة للنيل من مالكها، ومن قتلهم وإخفائهم لاحقا في حديقة المنزل، باستثناء قايدهم. وبعد سنوات، قرر هذا القايد العودة للمدينة بهيئة تاجر ثري للثأر، وبالفعل تمكن خلال فترة قصيرة من أن يصاحب ابن علي بابا، وبحكم هذه الصداقة قرر الابن دعوته لمنزلهم لتناول العشاء، وهذا ما كان ينتظره (الغضبان) لينال من علي بابا. لكن هذه النوايا عادت واصطدمت مرة أخرى بفطنة مرجانة، التي اكتشفت الحيلة، وحالت دون مقتل صاحبها. وربما الشي ذاته هو ما حدث مع الدار والمترجم، اللذين تعاملا مع نص علي بابا، وكأنها مغارة خاصة بهما. وعندما اكتشفا أن هناك من دخل هذه المغارة، قررا الدخول إلى سوق الكتاب، محاولين تجاهل (قتل رمزي) كل النصوص والجهود الأخرى، إلا أن هذه الحيلة لم تنفع هذه المرة، حتى ولو جاءت تحت عبارة «المكتشف حديثا». ويبدو أن الدار والمترجم وقعا في مكيدة من مكائد عالم ألف ليلة وليلة، خاصة أنهما حاولا أن يبيعا بضاعة قديمة مستغلين اسمها.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ألاعيب المستشرقين في تزوير التأريخ العربي الإسلامي مكشوفة للمختصين !
    قصص خيالية وحكايات مؤلفة للإستهلاك التجاري !!
    و لا حول و لا قوة الا بالله

  2. يقول Mustafa Abdurrahman:

    ذكر شيخ البااحثين المجدين هادي حسن حمودي الحقيقة عن الف ليلة وليلة، وكان عثر على الكتاب كاملا في الهند في جامعة حيدر اباد، والمؤسف لم يلق جهد العمر كله ل(الدكتور هادي حمودي) أي صدى لدى الباحثين العرب وغيرهم، فاستمروا على غيهم وتنكره لاكتشاف د هادي وكأنه لا شيء. لو تنازلوا عن غرورهم وتعمقوا في ا لاكتشاف ودرسوه لاستفاد دارس الف ليلة وليلة إلى حد الاكتفاء ولبدأ عصر جديد في دراسة الف ليلة وليلة وحكاياتها الأصيلة. لكن مع الاسف هذا شأن الدارس العربي دائما، غما ان يسير إلى منتصف الطريق أو ينوه من غيرمعرفة مع الأسف

اشترك في قائمتنا البريدية