يبدو لي أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ هو الأكثر اهتماما بمتابعة خيبات الحب، وأثرها في النفس الإنسانية. كل الكتّاب كتبوا عن الحب في سياق الأحداث التي رصدوها، أو تخيلوها، إلا أن زفايغ ـ يبدو لي- أنه تفرغ لذلك، لأنه أدرك قوة تأثير الحب في مصير المحبين، «دائما ما نخطئ في تقدير قوة الحب، لأننا نقيمه بأثره الحالي فقط، لا بالتوتر الذي زال عند قدومه».
يوثق ستيفان زفايغ طبيعة الحب انطلاقا من تأثيره، وليس بناء على أقوال مأثورة، أو قصائد غزلية، كما في التراث العربي، أو تجارب عرضية. فهو في كتاباته يذهب إلى الحب في مضانه، ويحلل بنيته، آخذا باعتباره إنسانية الإنسان، وليس مكانته الاجتماعية، أو إمكانياته الاقتصادية. لأنه يرى «أن الإنسان لا يحس أي معنى أو هدف لوجوده حتى يتبين له أنه في نظر غيره مخلوق له وزن، وأهمية، واعتبار». يتمتع زفايغ بهذه القدرة على فتح قلق الأسئلة، من خلال تجارب شديدة الخصوصية، وعينات اجتماعية متنوعة.
في الروايات الأخرى ليس المقصود بيان الحقيقة، بل الاقتراب منها، وإعطاء انطباع عنها، لذلك لم يكن هدف الروائي أن يكتب شيئا صحيحا، بل مقنعا! بناء عليه لم تكن الرواية تحاكي الواقع، بل تخلقه، ولهذا تعتبر الكتابة مجازفة دائمة. هذا المهرب الفني لم يذهب إليه ستيفان زفايغ، لأنه يرى «أن الإنسان يستطيع أن يهرب من أي شيء، إلا نفسه». ولأن الحب بطبيعة الحال يشبه المحب، أي أنه متنوع بتنوع الناس، ومتعدد بعددهم، فقد اختار أن يتابع تلك الأنواع المميزة بعطائها، من حيث أن الحب هو العطاء بعينه، والمتفانية أقصى درجات التفاني.
من خلال شخصيات رواياته المغلقة على أسرارها.. «كانت كل كلمة من كلماتك إنجيلي وكتاب صلواتي. العالم برمته لم يوجد إلا في العلاقة معك». هكذا، بكل وضوح، دون أي محاولة لتدوير زوايا اللهفة، فهو يؤمن بأن «للحب طاقات كامنة عظيمة، تمكث في حالة انتظار، ثم تنطلق بذراعين ممدودتين، تجاه أول شخص يبدو أنه يستحقها». وحين يتعذر ذلك لا يزهد بالحب، بل يزهد بما يمكن أن يقدمه الآخر «كل ما أطلبه منك أن تدعني أحبك في صمت». هذه الحالات بقدر ما هي نادرة، بقدر ما هي مهمة. لأنها تمثل الحب في أقصاه، حيث تذوب الأنا، وتضيع الأنانية. إذ ليس المهم كلمات الأغنية بقدر أهمية الآه التي تتخلل بين تلك الكلمات. هذا ما تقتضيه نزاهة الكاتب حين يكتب عن الحب. من حيث أن الحب ليس شخصا وحسب، بل هو ذلك الشخص، وعاطفتنا نحوه. لأن الشخص يمكنك أن تجد مثله، وأحسن منه أيضا، لذلك في كتاباته نلاحظ الأهمية القصوى لتلك العاطفة، والتأكيد على عدم الشفاء منها، مهما حصل، وإن ادعى المحبون ذلك. فالشفاء ضرب من المستحيل.
كاتب سوري
جميل .. مكثف وموجز ومعبّر ..
مودتي