مفهوم الذوق بين نجيب محفوظ وبيير بورديو

حجم الخط
2

في الذكرى الرابعة عشرة لرحيل نجيب محفوظ، لا بدَّ أن نستذكر أحد أهم أدباء العرب وأعظمهم، الذي حكى لنا قصص الحارات المصرية بأسلوب مشوق وآسر، وأبرز من خلال رواياته الآفات الاجتماعية والصراع الطبقي والسياسي في مصر، فاستحق عن جدارة جائزة نوبل.
من الضروري أن نعيد قراءة أدب محفوظ على ضوء الدراسات الحديثة خاصة الدراسات السوسيو- نقدية، ومنها دراسة بيير بورديو عالم الاجتماع الفرنسي الشهير. فعند قراءة ثلاثية نجيب محفوظ نجد أن الكثير من المفاهيم الاجتماعية التي رصدها ووثقها محفوظ تناولها بورديو أيضاً في مؤلفاته العديدة، ومنها مسألة الذوق وآداب السلوك.
قد نظن أنَّ ذوق الإنسان هو مسألة شخصية نابعة من إحساسه وعواطفه، ولكن الدراسات السوسيولوجية لها رأي مختلف، فهي تعتبر أنَّ ذائقة المرء مرتبطة بشدة بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فلكل طبقة إدراك ووعي فني وثقافي يحددهما ما يسميه بيير بورديو عالم الاجتماع، بـ«الهابيتوس الطبقي».
لقد سعى بيير بورديو خلال مسيرته الحافلة في حقل العلوم الاجتماعية، لتفكيك آليات الهيمنة وتعريتها، وشرح لنا في مؤلفاته العديدة الأسباب التي تؤدي إلى إعادة إنتاج التراتبية الطبقية نفسها في المجتمع، من خلال التنشئة الاجتماعية المبكرة في الأسرة ثم في المدرسة. قسَّم بورديو الفضاء الاجتماعي إلى مجموعة حقول مستقلة، فهناك الحقل الصحافي والحقل الأدبي والحقل السياسي إلخ… يتصارع الفاعلون داخل كل حقل للسيطرة على ثرواته الرمزية، وهذه الثروات ليست بالضرورة مالًا، فمثلًا في الحقل الاجتماعي يتنافس الناس على كسب الأصدقاء والحظوة الاجتماعية، أما في الحقل العلمي مثلا فيتصارع المفكرون لتحقيق الإنجازات العلمية ولنيل الاعتراف والتكريس من قبل بقية العلماء أو الجامعات المرموقة.
من المفاهيم التي عمل بورديو على تطويرها هو مفهوم «الهابيتوس» وقد عرَّفه بأنه مجموعة من الاستعدادات الدائمة التي يكتسبها الفرد عبر تجاربه الشخصية، لتتحول مع مرور الوقت إلى بُنيات مُنَظِّمة لسلوكه، فالهابيتوس هو كل المُضمرات من خبرات وكفاءات وقدرات، ترسخت داخل الفرد، جراء التنشئة الاجتماعية، لتشتغل بلا وعي منه، ومن خلالها يواجه المواقف الصعبة والمعقدة داخل عالمه الاجتماعي.. يكتسب الفرد هذه الاستعدادات خلال مراحل التعليم والتجارب الاجتماعية المبكرة. في كتابه «التمييز: نقد اجتماعي لأحكام الذوق» يشرح لنا بورديو بشكل دقيق الفوارق بين مختلف الطبقات الاجتماعية، من ناحية الذائقة الفنية ويرى بورديو أن التمييز الثقافي يُستخدم لتعزيز التميييز الطبقي وهذا ما يفسر لماذا، في ظروف مماثلة، يكون للأفراد المنتمين للطبقة الاجتماعية نفسها الرؤية ذاتها للعالم، المعايير نفسها لاختيار هواياتهم وأصدقائهم والأذواق التجميلية أو الجمالية نفسها.
تُستخدم حاليا المفاهيم التي أرساها بورديو في الدراسات النقدية، لتبيان الفوارق الطبقية والصراع الاجتماعي، في ضوء الروايات العربية، فثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، التي تروي قصة أسرة مصرية تعيش في حي شعبي من أحياء القاهرة، عبر ثلاث أجيال متعاقبة، تعكس لنا الفروقات بين ذائقة الطبقة الوسطى والأرستقراطية. خلال زيارات كمال أحد أبطال الرواية لصديقه حسين في قصر آل شداد، تظهر الاختلافات الطبقية بين كمال، الذي يمثل الطبقة الوسطى فهو ابن السيد أحمد عبد الجواد صاحب دكان في منطقة بين القصرين، أما حسين فهو يمثل الطبقة الارستقراطية فوالده عبد الحميد شداد صاحب الثروة الهائلة. يُبيّن لنا الكاتب عبر عدة مشاهد روائية، كيف يسعى أبناء الطبقة الأرستقراطية للتميز عن سائر المجتمع، من خلال عدة أمور أهمها المأكل والملبس وديكورات المنازل واقتناء ثروات ثقافية كاللوحات الثمينة والتحف النادرة.
يقول بورديو، إنَّه كلّما ارتفعت الطبقة الاجتماعية للفرد، كان حريصاً على كل ما هو استعراض للجسد لإظهاره بأفضل صورة ممكنة، من خلال المحافظة على الرشاقة واختيار الثياب والإكسسوارات المناسبة، للحصول على أجمل هيئة. فعندما ذهب كمال في نزهة إلى الأهرام مع صديقه حسين، ظهرت عايدة شقيقة حسين ومحبوبة كمال وهي تخطر بفستان باريسي قصير، وشعر «غرسون» بينما كانت نساء الطبقة الوسطى والفقيرة في مصر خلال تلك الحقبة الزمنية لا يخرجن إلا متلفعات بعباءات سوداء؛ أما قامة عايدة فهي رشيقة هيفاء في حين تتميز الطبقة الوسطى والفقيرة بعشقها للنساء الممتلئات دليلا على الجمال والصحة والعافية، فالسمنة هي الجمال الحقيقى في أسرة كمال عبد الجواد، حتى إنَّ أم حنفي مربية الأسرة اعتادت تحضير البلابيع السحرية من السمن والسكر لتسمين نساء العائلة.

تسعى الطبقة المهيمنة دائماً، من خلال اتباع نمط باذخ مترف من العيش، للمحافظة على تميزها عن الطبقات الأخرى، وتأكيد سيطرتها الثقافية لإدراكها أن الشعب ليس بمقدوره مجاراتها، بسبب ضعف حالته الاقتصادية.

عندما حان موعد الطعام بدأت الفروقات المجتمعية تتضح أكثر فأكثر، خاصة حين أخرج الرفاق الزاد من الحقيبة، فكمال أحضر معه دجاجتين وبطاطس وجبناً وموزاً وبرتقالاً، أما حسين وعايدة فقد أحضرا فقط ساندوتشات من اللحم وترموث بيرة؛ وإذا قارنا بين الوجبتين نجد أنَّ طعام كمال يبدو أكثر دسامة ووفرة بينما طعام آل الشداد، فيعتمد على الكيف أكثر منه الكم، وهذا يوافق استنتاجات بورديو عن أنَّ الطبقات العاملة في المجتمع تميل لاختيار الطعام الغني بالسعرات، الذي يؤدي إلى الشبع ويمنح الطاقة للجسد، بينما تسعى الطبقة الأرستقراطية إلى اعتماد عينات صغيرة من الطعام، ولكن من نوعية أغلى وأجود وأقل توفرًا في الأسواق. نلاحظ أيضاً تَعَمُّد آل شداد اختيار مأكولات تبعد كل البعد عن عادات وتقاليد المجتمع المصري المسلم. يهتم أفراد الطبقة الارستقراطية كذلك بطريقة تقديم الطعام، ويحرصون على تزيين المائدة، لذلك نرى كمال يشعر بالخجل بسبب افتقاد زاده لِحِلية الأناقة أمام ساندوتشات آل شداد الأنيقة. فالطبقة الأرستقراطية تعتبر أنَّ العامة يميلون، لكل ما هو خشن جاف وبذيء ووظيفي، ونسمع حسين مخاطباً كمال، أحب الجمال وأزدري القبح، ومن المؤسف أن الجمال قلَّ أن يوجد في العامة.. وهذا الاختلاف يعود سببه للنظرة الفلسفية إلى الغذاء، فالطبقات العامة محكوم عليها باختيار الضروري وهي تهتم بالطعام، من ناحية أنه يؤدي وظيفة طبيعية بيولوجية ويشكل مصدراً للطاقة ويضمن لها البقاء على قيد الحياة؛ بينما الطبقة الأرستقراطية تركز على شكل المائدة ونوعية الأطباق وأدوات المائدة. هذا السعي الدائم للتنميط لدى الأرستقراطيين، يهدف إلى استبعاد الوظيفة البيولوجية للغذاء، التي تُعتبر دنيوية بحتة، من خلال تزيينه وتأطيره فنيا وابتداع أساليب راقية لتناوله، فعايدة عندما تُقَطع الساندوتشات وتمسكها بأناملها الرشيقة، تبدو نموذجا مثالياً لطبقتها وهي لا تتكلف بذلك، لأن طريقة تناولها للطعام ناتجة عن «الهابيتوس» الخاص بمجتمعها، وحركاتها المتقنة تعكس العادات الأرستقراطية التي تربت عليها منذ نعومة أظفارها.
أما بالنسبة للغة فنرى عايدة تكثر من الرطانة بالفرنسية، لغة الدبلوماسية والصالونات، فهذه اللغة تميزها عن العامة الذين لا يجيدونها، وعند الاستماع للموسيقى تختار هي وحسين الاستماع إلى أسطوانات أجنبية، بينما كمال يفضل الموسيقى الشرقية وأغاني أم كلثوم. تتبدى الفروقات الطبقية أيضا من خلال اختيار الكتب، فكمال المحب للعلم والفكر يقرأ القرآن والسيرة النبوية ويحب كتب المنفلوطي، أما عايدة فتعتبر ان الثقافة الحقيقية تكمن في قراءة روايات بلزاك وجورج صاند والمسرحيات الفرنسية. ورغم انتماء آل شداد إلى الطبقة الارستقراطيه، فإنهم بخلاء ويدرسون مصير كل فلس فهم يدفعون للخدم رواتب ضئيلة، ويقدمون لكمال وأصدقائه فقط الماء المثلج عند زيارتهم في السراي؛ ولكنهم مستعدون للانفاق بغير حساب على شراء التحف الثمينة، وتغيير الأثاث عند زيارة شقيق الخديوي لمنزلهم، أي أنَّهم يدفعون المال فقط للشكليات وللتباهي بالمظاهرالخادعة وللتزلف، فاستقبال عائلة الخديوي في قصرهم يعزز من رأسمالهم الاجتماعي والرمزي، ومن الممكن أن يؤدي إلى حصول عبد الحميد شداد على لقب الباشوية ذات يوم. اختيار الدراسة الجامعية يعكس أيضا الفوارق في المجتمع، فالطبقة الأرستقراطية في تلك الحقبة كانت تميل لاختيار دراسة الحقوق لأبنائها، لكي تؤمن لهم الوَظَائِف المرموقة في السلك الدبلوماسي أو القضائي، وبالتالي تعيد المدرسة والجامعة إنتاج الطبقة الاجتماعية نفسها عن طريق الانتقاء والاصطفاء، خاصة أنه ليس بإمكان جميع الطلاب دخول كلية الحقوق، فهي تحتاج إلى معدل عال، وواسطة سياسية؛ لذلك نرى السيد أحمد عبد الجواد، يحث ابنه كمال على الدخول إلى كلية الحقوق لإيمانه بأنَّها ستؤمن له حياة كريمة، ومركزاً اجتماعياً لائقاً، ولكن كمال يرفض بشدة ويصر على اختيار مدرسة المعلمين، لأنه يرغب بدراسة الفكر والأدب، ممَّا يثير سخرية الأب الذي يعتبر تفكير ابنه مثاليا وغير واقعي.
من خلال هذه الأمور التي قد نظنها بسيطة للوهلة الأولى، تحاول الطبقة الأرستقراطية استغلال رأسمالها الاقتصادي والاجتماعي لفرض سيطرتها وإثبات هوية خاصة بها، فهي التي تحدد الثقافة الشرعية الوحيدة. تسعى الطبقة المهيمنة دائماً، من خلال اتباع نمط باذخ مترف من العيش، للمحافظة على تميزها عن الطبقات الأخرى، وتأكيد سيطرتها الثقافية لإدراكها أن الشعب ليس بمقدوره مجاراتها، بسبب ضعف حالته الاقتصادية؛ وكلما تقلصت الفروقات الاجتماعية لسبب ما، سعى الأغنياء والبورجوازيون جاهدين للبحث عن أساليب جديدة للتميز، ولتعميق الهوة أكثر بين الفئات الاجتماعية؛ لكن من المهم جدا كما يقول لنا بورديو، أن نفهم كيف تحاول هذه الطبقة التلاعب بنا، للمحافظة على سلطتها فمتى فهمنا ذلك استطعنا كسر طوق الهيمنة المفروض علينا ومقاومة القيود الاجتماعية الظالمة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول القاريء الجديد:

    مقال جميل

  2. يقول يوسف:

    جميـــــــل، مقالك الأول في أسرة القدس العربي على ما أظن،
    أعجبني تحليلك للكتاب، وبفضلك سأقرأه في أقرب وقت ممكن.

اشترك في قائمتنا البريدية