مما لا شك فيه أنّ الدولة هي الأساس في تنفيذ القوة في السياسات العالمية، وحجر الزاوية في تحديد أبعاد الدور الذي تؤديه على مسرح العلاقات الدولية. فعناصر مصادر القوة هي التي تحدد أوزان الدول ومن ثم إدارتها وتوظيفها؛ وبالتالي فإن أي مصدر من مصادر القوة لا يكتسب وزنا وتأثيرا بمجرد وجوده، بل يكون مرتبطا بنفس الوزن والتأثير بالتدخل الواعي لتحويل مصادر القوة المتاحة إلى طاقة مؤثرة وسلامح منتج وفعّال.
بالنسبة للإمبراطوريات والدول القومية على حد سواء، كان امتلاك أفضل فهم ممكن لقدرات الأعداء المحتملين لديهم هو إبراز القوة الصلبة، لا سيما في المجال العسكري الذي كان يُنظر إليه دائما على أنه أداة حيوية في فن الحكم. وكان الاتجاه هو أن تحافظ الدول على سرية قدراتها، ولا تزال هذه الضرورة قائمة لغاية اليوم. لكن التجربة التاريخية الأخيرة – ولا سيما الحرب الباردة – أدّت إلى ظهور ثقافة ردع إستراتيجية تقوم على الوعي المتبادل بالقدرات ووسائل القوة.
ما الذي يجعل بعض الدول أقوى من غيرها؟
هذا هو السؤال الأكثر أهمية لدراسة وممارسة العلاقات الدولية. يحتاج العلماء والخبراء والباحثون إلى طريقة سليمة لقياس القوة، وكما يقال فالقوة مثل الحب، والتجربة أسهل من التحديد أو القياس، تماما كما لا يمكن للمرء أن يقول “أحبك عشر مرات أكثر منها”، وهذا مثل حساب ميزان القوة، لأن الأخيرة، إلى حد كبير، غير قابلة للرصد بشكل دقيق وتعتمد على السياق. تُعرَّف عادةً على أنها قدرة الدولة على تشكيل السياسة العالمية بما يتماشى مع مصالحها، ولكن قياس هذه القدرة بشكل منهجي أمر صعب، لأن القيام بذلك يتطلب تحليل مصالح كل دولة والتأثير عليها في عدد لا حصر له من الأحداث الدولية. علاوة على ذلك ، فإن قياس القوة من خلال تقييم النتائج ليس مفيدا كثيرا لصنع السياسات، لأنه يتعين على المحللين انتظار وقوع حدث (على سبيل المثال ، حرب أو قمة دبلوماسية أو نزاع معين) قبل أن يتمكنوا من تقييم ميزان القوى – وحتى ذلك الحين، فإنهم سيعرفون فقط توزيع القوة فيما يتعلق بهذا الحدث بالذات.
للتغلب على هذه المشكلات، يقيس معظم العلماء القوة من حيث الموارد، خاصة الثروة والأصول العسكرية. من البلدان التي لديها عدد أقل من هذه الموارد.
في القرن الحادي والعشرين، يمر العالم بتحول حاسم، حيث تواجه الدول القومية قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة. والاتجاه السائد في السياق العالمي اليوم هو قلق الدول القومية الفردية على قوتها وتأثيرها. هذا مهم بشكل خاص في ضوء التوترات الجيوسياسية المتزايدة ، فضلاً عن انتشار القوة بين الجهات الفاعلة العالمية.
القوة نسبية
لا شك أن مفهوم القوة في العلاقات الدولية يشكّل أحد المرتكزات الرئيسية لفهم سلوك الفواعل الدولية، وتعرف أنها “القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج التي يتوخاها المرء” وبقي هذا الموضوع محل اهتمام علماء السياسة والاجتماع منذ عقود عديدة، إن لم يكن لقرون، منذ كتابات أرسطو وأفلاطون ومكيافيللي. على الرغم من هذا الاهتمام الكبير، لا تزال هناك نقاشات أكاديمية ملحوظة حول التعريف المحدد للسلطة وخصائصها، مما يؤدي إلى تعقيد الموضوع وغموضه.
وللقوة أثر كبير على سلوك الدول، إذ أن الدولة التي تمتلك القوة فإن أثرها يبدو واضحا في تصرفاتها وتحركاتها، والدول التي تتمتع بقدر أكبر من مكونات القوة هي أكثر نشاطا في علاقات الدولية من تلك التي تمتلك قدرا أقل من تلك المكونات، لذا؛ فإن النشاط هو محصلة لتوافر الموارد واتساع نطاق المصالح على مستوى العالم بأسره، ونتيجة لذلك دخلت الدول الأكثر قوة في سباق وصراعات، حيث كان لعنصر القوة دور بارز في التحولات الهيكلية للنظام الدولي والتفاعلات الدولية، مما أدى إلى تنوّع مؤشرات قياسها من مؤشرات اقتصادية وعسكرية وسياسية، بعض المحللين استخدم مثلا مؤشر معدل الدخل القومي لقياس القوة في حين استخدم آخرون التعليم ومعدلات الحياة …وغيرها.
كان وما زال حساب موضوع “قوة الدولة” من الاهتمامات المركزية في الدراسات السياسية والجيوستراتيجية المعاصرة، ليس بالمعنى الضيق للقوة العسكرية وحدها، ولكن أيضا بالمعنى الحضاري الأشمل، باعتبارها قوة الدولة المحصلة الأخيرة لمجموع (مواردها الطبيعية، فعاليتها العسكرية، قدراتها الاقتصادية، بنيتها الثقافية والاجتماعية، نظمها السياسية والإدارية، علاقاتها الدولية ..وعناصر عديدة أخرى) وعلى وجه الدقة فإنّ هذه المحصلة حسب العديد من خبراء الجغرافيا السياسية ليست مجرد مجموع العناصر في حد ذاتها، بل وأيضا فيما ينشأ بين تفصيلاتها من علاقات، وما يتداعى عن تفاعلاتها داخل الدولة الواحدة وبينها وبين غيرها من نتائج واحتمالات.
من الجدير ذكره هنا أن امتلاك أي قوة لدى أي دولة ليست شيئا مطلقا أو متفردا بحد ذاته، وإنما مسألة نسبية، فلا يمكن قياس قوة أو ضعف دولة ما إلا بالنسبة إلى الدول الأخرى من ناحية، وبالنسبة إلى قوتها هي ذاتها في فترات مختلفة من تاريخها من ناحية أخرى. بالتالي فإن انتشار قوة الدولة الزائدة خارج حدودها بالإضافة إلى زيادة إنفاقها على عناصر قواها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والعلمية قد يؤدي مع الوقت إلى تفاقم الحالة الاقتصادية مما يؤدي إلى إنحسار القوة وربما اضمحلالها. لذا فإن عملية احتساب القوة الفعلية لأي دولة بالمسطرة والقلم هي مسألة صعبة، من هنا يحاول الباحثون اللجوء لدراسة بعض الخصائص البارزة التي تبني بقوة هذه الدولة أو تلك.
كما ذكرنا أعلاه فإن عناصر قوة الدول لا تتسم بطبيعة الحال بالديمومة والاستمرارية، بل ينتابها الكثير من التبدّل والتغير، وما يترتب على ذلك من من اختلال في موازين القوى. إذ على سبيل المثال كان الاتحاد السوفييتي في أوج قوته ويتنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية في مركز الصدارة نظرا لامتلاكه وقتها عناصر القوة وقدرته على استخدامها الأمثل، وبعد الحرب العالمية الثانية طرأ تغيير جذري على الاتحاد السوفييتي بالرغم من امتلاكه ترسانة من أسلحة الدمار الشامل والسلاح النووي، إلا أنه لم يتمكن من الحفاظ على على عناصر قوته التي بدأت تتدهور حتى وصل إلى مرحلة الانهيار والتفكك.
المعيار التاريخي الأول للقوة كما معروف هو المقياس العسكري الذي ساد سابقا، لكن اليوم ضعف تأثير هذا المقياس على أهميته، بعد أن تبيّن أن القطاع العسكري قد يستنزف طاقات الدولة على حساب قطاعات أخرى مهمة وضرورية لبقائها.
وللإشارة هنا، فإنّ ثمة العديد من العلماء وفقهاء السياسة والمفكرين قاموا على مدار العقود الماضية بإصدار دراسات عديدة تتناول أساليب قياس العناصر التي تدخل في حساب قوة الدولة بمكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والجغرافية والسكانية، إضافة إلى تحليلها، وكذا تحديد الأوزان النسبية لعناصرها الفرعية. لكن شاب هذه الدراسات الكثير من الاختلافات والتباينات؛ إذ ما زالت هناك نقاط تثير جدلا حول أساليب القياس ومؤشراتها وتعددت مناهجها بهدف التوصل لرؤية جديدة تتماشى مع المتغيرات التي فرضت نفسها، على موضوع “قوة الدولة” كواحد من أبرز الاهتمامات الأساسية في الدراسات الجيوستراتيجية المعاصرة، ليس فقط بالمعنى الضيق للقوة العسكرية وحدها، ولكن أساسا بالمعنى الحضاري الأشمل، باعتبار قوة الدولة المحصلة الأخيرة لمجموع (مواردها الطبيعية وقدراتها الاقتصادية وبنيتها الثقافية والاجتماعية ونظمها السياسية والإدارية وعلاقاتها الدولية وفعاليتها العسكرية ومساحتها الجغرافية …الخ ) فهذه النتيجة ليست مجرد مجموع العناصر في حد ذاتها، بل وأيضا فيما ينشأ بين تفصيلاتها من علاقات، وما يتداعى عن تفاعلاتها داخل الدولة الواحدة وبينها وبين الفواعل الأخرى من نتائج واحتمالات.
هذا الحديث ليس موضع تشكيك أو تقليل من شأن وقيمة عناصر القوة التقليدية مثل الموقع الجغرافي، المساحة، السكان والحدود…، ولا من قدرات الدولة العسكرية، سيما أسلحة الدمار الشامل والقوة النووية منها، لكننا نشهد اليوم دخول قوة تأثير التكنولوجيا الرقمية، والقدرة على الابتكارات العلمية التي أصبحت عناصر رئيسية في تحديد أوزان ونفوذ الدول، وحجم مكانتها بين الأمم، وهذا ما يتفق عليه الكثير من دارسي العلاقات الدولية على أن عناصر قوة الدولة التقليدية على أهميتها لم تعد حاسمة في تعريف مفاهيم القوة بعد المُعطيات الجديدة التي فرضها العصر الرقمي، والتي وضعت بصمات دامغة على موازين القوى الدولية، إضافة إلى إحداثها تعديلات على بعض مؤشرات قياسها.
التطور التكنولوجي
اليوم يجري الحديث عن القوة الإلكترونية التي ارتبط ظهورها بالتطور التكنولوجي الذي شهده العصر، حيث يقصد بها “امتلاك المعرفة التكنولوجية والقدرة على استخدامها، من خلال استغلال الفضاء السيبراني للتأثير على الأحداث التي تجري عبر البيئات التشغيلية” ويتم توظيف الفضاء الإلكتروني لتحقيق مزايا أخرى قد تندرج ضمن القوة الصلبة أو الناعمة أو الذكية والحادة، وحاول العديد من الباحثين قياس هذه القوة من خلال مؤشرات التطور الحاصل في هذا المجال الذي أدى إلى تعقيد معايير قياس القوة التقليدية والنطريات التي تحكمها، فالقوة الافتراضية أو الإلكترونية هذه، باتت مرتبطة بامتلاك المعرفة العلمية والقدرة على استخدامها، وقد حدد المفكر جوزیف ناي ثلاثة أنواع من الفاعلین الذین یملكون هذه القوة: الأول هو الدولة التي لدیها القدرة على تنفیذ هجمات إلكترونیة، والنوع الثاني الفاعلون من غیر الدول، ویستخدمونها لأغراض هجومیة بالأساس، والنوع الثالث هو الأفراد الذین یملكون معرفة تكنولوجیة وقدرة على توظیفها. ولا بدّ من القول هنا أن الاستثمار بالموارد البشرية والطبيعية في أي دولة لا يمكن أن يحصل من دون استخدام السّبل والأدوات الحديثة بمعنى الاستعانة بالتكنولوجيات المتطورة، وبالمهارات الفنية والرقمية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. ناهيكم عن أن القوة العسكرية للدولة لم تعُد تقاس بكثرة عدد الجنود، وبحجم المعدات التي تمتلكها، بل بالقدرة أيضا على التطور التكنولوجي والرقمي في الفضاء السيبراني، وقد تضاعفت مكانة وقوة بعض الدول الصغيرة من جراء تفوقها التقني في هذا المجال.
ما يجمع عليه الخبراء أنه لم يعد بمقدور الدولة أي دولة في المعمورة أن تثبت مكانتها كقوة إقليمية، أو دولية، بالاعتماد فقط على عوامل القوة التقليدية، حيث أضحى من الضرورة بمكان امتلاكها لمقومات القوة العصرية المتمثلة بامتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا، كعلامة أساسية من علامات تقدم الدول ومواكبتها تطورات العصر.
بناء على هذا القول، فقد وضعت دراسات عديدة معايير في ترتيب قوة الدول بالنظر إلى أعداد مستخدمي الهواتف الذكية والإنترنت، وشبكات تكنولوجيا الجيل الرابع والجيل الخامس للاتصالات بالمقارنة مع إجمالي عدد السكان، وكذلك الاختراعات السنوية ودرجة التنافسية الرقمية التي تقيس مدى الاستعداد لتطوير تكنولوجيات جديدة، والقدرة على استغلال الابتكارات الجديدة والبناء عليها. هذا بالإضافة إلى ظهور نماذج قياس في الآونة الأخيرة تقيّم القدرات السيبرانية للدولة القومية والقوة الوطنية وتصنفها وفق مؤشرات الاستراتيجية والعقيدة مثل الحكم والقيادة والسيطرة؛ القدرة الأساسية للاستخبارات السيبرانية؛ التمكين والاعتماد على الإنترنت؛ الأمن الإلكتروني؛ الريادة العالمية في الفضاء السيبرانية، وقدرة الهجمات الإلكترونية .
القوة اليوم لا تقاس بالقدرة على قهر الأعداء، بل بالمنافسة العالمية، والاستقرار المحلي والعالمي. كما أن أسلحة الدمار الشامل والترسانة العسكرية والنووية (على أهميتها في موازين القوى) لا تحقق وحدها الاستقرار، إذ أثبت التاريخ أن الدولة يمكن أن تمتلك كل مصادر القوة التقليدية (الصلبة)، ولكنها يمكن أن تنهار كما حدث للاتحاد السوفييتي الذي كان يملك من القوة ما يفوق الولايات المتحدة الأمريكية وقتها.
عود على بدء نقول إذا كان علماء السياسة وفقهاؤها يعتقدون أن الدولة هي الوحدة الأساسية في العلاقات الدولية، وأن القوة لا يمكن أن تترجم إلا من خلال الدولة منذ معاهدة ويستفاليا 1648 إلا أن الحاصل أن المشهد العالمي قد تغير بوتيرة دراماتيكية ومتسارعة، وبتنا نعيش فترة “ما بعد الهيمنة ” التي ينبغي على الدول أن تبحث فيها عن وسائل وأدوات ومقاربات جديدة لتحقيق قوتها المنشودة ابتداء من الاستخدام الأمثل لكافة مواردها بأسلوب ينعكس تأثيره على الدول الأخرى من الاستثمار ببنى الثورة الصناعة الرابعة والتكنولوجيا الرقمية والمعرفة والاتصال..وليس انتهاءً بتوظيف ثقافتها وقيمها السياسية لكسب العقول والقلوب معا.
إنّ القرن الحادي والعشرين هو قرن انتشار القوة وتوسعها وضبط إيقاع هذا الانتشار يتطلب أهداف استراتيجية ثابتة مع التأكيد على أن القدرة وليس القوة هي التي تحدد مكانة الدولة، فقدرة الدولة تكنولوجيا هي عنوان مهما لقياس القوة في ظل التغيير الدولي الحاصل اليوم حيث أن التقدم التكنولوجي شمل متغيرات ساهمت في جعل العديد من المدارس الفكرية للدول تعمل للحاق بركب التكنولوجيا ومجاراتها.
باحث في العلوم السياسية