مكونات الخطاب السردي في رواية «عنيدة»

تتألف رواية «عنيدة» للروائية المصرية عواطف أحمد البتانوني من ثلاثة أجزاء، وتقع في 384 صفحة من القطع المتوسط؛ الجزء الأول بعنوان «البراءة»، ويتضمن فصولاً مرقمة من (1 إلى 21)؛ الجزء الثاني يحمل عنوان: «الترحال»، ويشتمل على فصول مرقمة من (1 إلى 16)؛ الجزء الثالث موسوم بـ»النضوج»، وهو يضم فصولاً مرقَّمة من: (1 إلى 12)، وقد صدرت عن «سلسلة روايات الهلال»، القاهرة، أبريل سنة 2021. وسنقارب الرواية انطلاقاً من مكونات الخطاب السردي.

المتن الحكائي:

رواية «عنيدة» مليئة بالأحداث والشخصيات، وتعالجُ العديدَ من القضايا الاجتماعية السلبية والإيجابية في المجتمع المصري، سواء في الأرياف أو في بعض الحواضر المصرية، من خلال أسرة مصرية شاءت ظروف عائلها «صادق» الموظف في أحد المرافق العمومية، أن تنتقل من بلد إلى آخر في أرجاء مصر من مدينة طنطا إلى الصعيد وغيره من المناطق النائية. تقول الساردة ـ المشاركة «فادية» في مدخل الجزء الثاني الموسوم بـ(الترحال): «وهكذا كانت طفولتُنا.. تنقلٌ وترحالٌ من بيت أحببناه إلى بيتٍ ما كدنا أن نحبُّه ونحبُّ ناسَه حتى انتقلنا إلى بلد بعيد غريب». ومن الجدير بالذكر أن «فادية» يتيمة الأب حضَنها «صادق» زوجُ أمها «منيرة»، ولها أخ من أبيها هو «أدهم». ومنذ أن أدركَتْ ما بين الجِنسين من فروق، قَررتْ أن تتحدى واقعَها كأنثى حتى تُثبتَ وجودَها. وهذا ما تؤكِّدُه في فقرة من مقدمة الرواية. تقول: « فارتْ مشاعرُ التَّحدي والثَّورة والعِناد في نفسي التي بدأتْ تنضج وتتبلور أهدافُها، وقررتُ أن أصنعَ مكاناً لنفسي تحت الشمس».

تعيدنا هذه الرواية تعيدنا إلى الحكي المُشوِّق الذي يأخذ بتلابيبِ القارئ لمتابعةِ الأحداث ومصائر الشخصيات التي تعجُّ بها الرواية.
تواكب رواية «عنيدة» زمنياً عدة مراحل من حياة المجتمع المصري فتحكي عن مرحلة الملكية في عهد فؤاد وفاروق والاحتلال الإنكليزي، كما ترصد مرحلة قيام الثورة المصرية، وكيف استقبلها الشعب المصري بسعادة غامرة، عاقداً الآمال على العهد الجديد الذي نادى بشعارات الحرية والتقدم والرخاء. تقول الساردة ـ المشاركة فادية: «غمرتنا سعادة لا حدود لها عندما قامت ثورة 1952.. كنا في قمة الحماس، وقالت أمي وهي تكاد تزغرد: «غمة وانزاحتْ يا أولاد.. أخيراً الشَّمس طلعتْ ومعها نورُ الحرية»، لكنها ما لبثت أن انحرفتْ عن المبادئ التي نادت بها، وتراجعت عن الوعود الخُلَّب بسيادة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وتتحدثُ الساردة ـ المشاركة في بعض الفقرات السَّردية عن الاعتقالات التي تعرضتْ لها بعضُ الفئات المختلفة في مشاربها السياسية والأيديولوجية من يمين ويسار بسبب اختلافها مع النظام. وهذا ما يؤكده بتفصيل كاتبٌ كبير مثل نجيب محفوظ في حواره مع رجاء النقاش بقوله: «عندما قامت ثورة يوليو/تموز 1952، تحمستُ لها إلى حد كبير، ومع مرور السنوات بدأت الأخطاء في الظهور، مثل الفساد في القطاع العام وانفصال سوريا، والتدخل في اليمن والاعتقالات العشوائية، والأسلوب الديكتاتوري في الحكم» (نجيب محفوظ، صفحات من مذكراته..، مؤسسة الأهرام، القاهرة)

المبنى الحكائي:

1 ـ المنظور السردي: تعتبرُ « فادية» الساردة – المشاركة في الأحداث، وأغلب الرواية تروى من زاوية نظرها، فهي تأخذ دفة السرد منذ الصفحات الأولى للرواية إلى آخرها، منذ طفولتها إلى أن وصلت إلى مرحلة النضج في الفصل الثالث الموسوم بالنضوج، وإلى أن حققت بإصرارها وعنادها إثبات وجودها بالعمل في الصحافة رفقة أخيها «أدهم» وإلى أن تزوجت من حبيبها الرسام كريم، وختمت سَرْدَها بجملة النهاية: «ولأول مرَّة في حياتي أستسلمُ بإرادتي لأقداري.. وأتنازلُ راضيةً عن شيء من عِنادي».
2 ـ الزَّمن الروائي: من خلال ما تقدم، يتبين للقارئ أن زمنَ الرواية زمنٌ خطي كرونولوجي، فليس ثمة ارتداد أو استباق. وهو الزمن الذي تعتمدُه الرواية الكلاسيكية كما نجد ذلك لدى كبار الروائيين سواء عند الغربين أو العرب (نذكر من الروائيين العرب مثلاً: نجيب محفوظ في أعماله الكلاسيكية أو عند إحسان عبدالقدوس أو محمد عبدالحليم عبدالله)، والجدير بالذكر أن ثمةَ إشاراتٍ إلى بعضِ أعمال بعض هؤلاء الروائيين في المتن الروائي مثل «النظارة السوداء لإحسان عبدالقدوس» واللافت للانتباه أن عناوين الفصول تؤكد هذا التسلسل الزمني: «البراءة» ـ «الترحال» ـ «النضوج».
3 ـ الشخصيات: الملاحظ أَنَّ الرواية تزخرُ بالشَّخصيات الرئيسة والثانوية، وتُعْنى الكاتبة بوصف ملامحها الداخلية والخارجية، ولاسيما بعض الشخصيات الرئيسية. ونمثل في ما يلي بالشاهدين التاليين: الأول يتعلق بالوصف الدقيق للشخصية من الخارج: «كان أدهم وسيماً جميل الملامح كلما نما عوده وامتلأ جسمه، واستدار وجهه حتى أصبح نسخة مصغرة من خالتي وجيدة.

كانتْ عيناه في لونِ العَسَل الرائق، وجفناه تُحيط بهما رموشٌ شقراء طويلة، وكان شعره يميل للَّون الأصفر قليلاً، وله أنفٌ مستقيم صغير وفم دقيق مفتوح الشفتين في دهشة، وله غمازة في خده الأيمن تزيده لطفاً وجاذبية». والثاني يتم التركيز فيه على الوصف الداخلي للشخصية، حيث تصف لنا الساردة ـ المشاركة «فادية» الحالة النفسية لطارق أخ «نور» ابنة عمتها من خلال ما قرأته من خواطره التي كتبها: «نفسٌ حائرة تدخل في صراع ونقاش مع كل شيء يُحيط بها.. رقيقة حالمة كقصيدة شعر في ليلة مقمرة.. متألمة متفلسفة كصوفي في صومعة. متأججة مضطربة كقارب فوق موج البحر. بسيطة بريئة كأحلام طفل لم تلوثه التجارب بعد». والملاحظ أن الوصف الخارجي يمثل (بورتريهاً) لوجه «أدهم» رُسِمَ بأنامل فنان مرهف الحس، دقيق الملاحظة، وليس هذا بغريب، فالمؤلفة درست في معهد الفنون الجميلة، كما ورد على ظهر غلاف الرواية. أما الوصف الداخلي، فيتسربل بغلائل الشعر بما يشتمل عليه من صور شعرية جميلة، كُلُّ ذلك يجعلنا أمام لوحتين تتسمان بالجمال ودقة التصوير. إذا كانت الروائية لم تعتمدْ في المنظور السردي تعددَ الأصوات، بل أعطتْ دفة السرد لصوت واحد، هو صوت فادية الشخصية ـ المشاركة في الحدث، فإنها تعتمد لغاتٍ متعددةً في متنها الروائي كما سنوضح في ما يلي:

تعدد اللغات:

أـ اللغة الفصيحة: وهي اللغة المهيمنة لاسيما في السرد الروائي، وتتميز بالسلاسة، والدقة في التعبير عن مشاعر الساردة ـ المشاركة « فادية « وغيرها من الشخصيات الرئيسية، والعناية بوصف التفاصيل الدقيقة سواء على مستوى الفضاءات أو الأشياء أو الشخصيات.
ب ـ مزيج من اللغة الفصيحة والعامية في السرد والحوار كما يلي: «وقد تزاحم حولنا الشحاذون يجذبون ملابسنا مستعطفين: «والنبي ما تكسفونا حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة». والملاحظ أن العامية التي تستخدم في الحوار تتناسب مع طبيعة الشخصيات الروائية، كما هو الحال في حديث الشحاذين في الحوار السابق.
ج ـ لغة الشعب التي تدور في الأحياء الشعبية بين أهله في كل صباح، حيث يبدأ النشاط والحيوية والحركة التِّجارية، وتُسْمعُ الأدعيةُ والنداءاتُ المتنوعة: ـ يا فتَّاحْ يا عَليمْ يا رزّاق يا كريمْ/ صباحْ الخِيرْ يا مْعَلّمْ خَليلْ../ صباحْ القِشْطة واللبَن الحَليبْ يا أُسْطى جاد../ يجْعَلْ يُومك نادي يا عَمّ مِتْولِّي… وقد ذكرتْني هذه اللغةُ التي تبدأ بها الحياةُ في صباحاتِ الأحياء الشعبية في المدن العتيقة بالمشهد الصباحي الذي بدأ به فيلم «العزيمة» للمخرج المصري كمال سليم، حيث نشاهد الحياة تدب في الحارة بعد صلاة الفجر بمختف أنشطتها الاجتماعية والتجارية التي يبدأ بها النهار في الحارات المصرية الشعبية، ونسمعُ النداءات والأدعية نفسها التي تمَّت الإشارة إليها أعلاه، والتي يتيمن بها الناس لاستقبال يوم جديد مبارك: (يا فتَّاحْ يا عَليمْ يا رَزَّاقْ يا كَريمْ)..
د ـ استخدام اللغة العامية المصرية بين الشخصيات في أغلب الحوارات الدائرة بينهم في جميع فصول الرواية.
5 ـ النصوص المُضَمَّنة: الملاحظُ أن الروايةَ تمتلئ الروايةُ بالأمثال الشعبية المتنوعة، والأمثال العربية الفصيحة، والأغاني الشعبية والأغاني العصرية لكبار مطربي العصر كأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب توظفها الكاتبة في أماكنها المناسبة حسب السياق والأحداث ومواقف الشخصيات وحالاتهم النفسية.
يبقى أن نقول: إِنَّ روايةَ «عنيدة» ، تقدمُ لنا الكثيرَ من المتعة، من خلال المحكياتِ التي تزخر بها، وعبر لغتِها الجميلة المُتسربلة بغلائل الشِّعر في كثير من فقراتها الوصفية، كما تقدمُ لنا المعرفةَ المتمثلة في إطلاعِنا على واقع المجتمع المصري وتقاليده وحضارته العريقة، وتضعُ يدَنا على كثير من أحداث التاريخ الحديث التي مرّ بها من عهد الملكية والاحتلال الإنكليزي إلى عهد جمال عبدالناصر.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية