منازلة الجسد الأخيرة

حجم الخط
10

من السلوكيات اللافتة لكبار السن كثرة الشكوى من الأمراض الجسدية، إذ إنني وعندما أقوم كل أسبوع بجولة سريعة في مجموعة اتصالات لتفقد أصدقائي وصديقاتي من كبار السن، أصبح في مواجهة عنيفة معَ الشكوى غير المنقطعة في كل ما يخص الجسد، إذ يتطرق غالبيتهم العظمى إلى تفاصيل غاية في الدقة في وصف الآلام وعلاقة كل غضروف مع الطبيب المختص ومدى تفاقم الحالة ليلاً، وهكذا أضطر لتكرار ردات الفعل نفسها، فأحياناً أتظاهر بالتعاطف الشديد، وفي أحيان أخرى أسهو مع التفاصيل الدقيقة في الشرح، التي غالباً لا أفهم معناها ومآلاتها. ولكن يصدف عندما أبقى وحيدة في منزلي فترات طويلة ليتصل بي أحدهم من أجل الاطمئنان علي، ألاحظ بأنني أسلك نفس السلوك في وصف حالتي الصحية بالتفصيل الممل، مع تذييل كلامي بالأشعات البانورامية وبعض التقارير الطبية، لأتفاجأ أن المستمع يقوم بردات الفعل ذاتها التي أقوم بها أنا في حال استسلامي للإصغاء إلى شكوى هنا أو هناك؛ وهذا ما جعلني أفكر بالجسد عندما يفيض عن الحاجة.
في كتاب المرض كاستعارة للكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ؛ تبدأ سونتاغ بملاحقة المرض كاستعارة للجسد في حال انتقاله من الجسد البشري إلى الجسد الاجتماعي؛ أي عندما يتحول إلى فكرة، بل منظومة كاملة من الرمزيات التي تحشر المريض في خانة اجتماعية وتجمدهُ هناك إلى الأبد. تحدثت عن مرض السرطان بأنه من الأمراض القليلة التي يخجل صاحبها بالتصريح به، لأنه يحمل فألاً سيئاً ومشؤوماً بالنسبة للمجتمع، أكثر من باقي الأمراض الأخرى، إذ يتجنب بعض الناس حتى لفظ اسمه. وقد استوحى اسم السرطان وفق «غالين» من التشابه بين العروق المتورمة والمتضخمة، وبين أرجل السرطان أو «السلطعون». وقد كان يبعث هذا المرض قديماً على التقزز الاجتماعي منه لأنه غالباً يبدأ بنتوء أو ورم صغير، ولأنه مرض مصاحب بعلامة تنمو تحت الجلد، فلا يمكن مقارنته بمرض الذبحة الصدرية على سبيل المثال؛ إذ وعلى الرغم من خطورة الأخير لكنه يبقى مخفياً داخل الجسد ولا يدل عن نفسه، مثل المرض الوثاب الذي لن يتوانى عن الانتشار بلا تلكؤ أو خجل. أما السل فهو مرض الفقراء على حد تعبير سونتاغ، إذ إنه مرض المعوزين الذين يحتاجون إلى الكساء، أصحاب الأجساد النحيلة الذين يحتاجون إلى تدفئة، على العكس من السرطان، مرض الطبقة المتوسطة صعوداً إلى الطبقة المترفة، المرتبط بوفرة الحياة وراحتها الزائدة، والإفراط في الاسترخاء، لأنه ينتج عن تناول الأطعمة المليئة بالدهون والبروتينات. ويحدث أحياناً بسبب استنشاق الأبخرة غير المرئية والسامة التي يخلفها الاقتصاد الصناعي. ومن ناحية أخرى، يسبب علاج مرض السل الشهية المفتوحة للطعام، بينما على العكس منه يحدث مع السرطان؛ إذ يسبب الغثيان وانسداد الشهية. ومع هذه المفارقة، تكتشف أن المرض الجسدي وسبل علاجه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة المحيطة، وعلاجه غالباً يتطلب ردم فجوة قديمة عانى منها المصاب على المستوى الاجتماعي.
وفي ما يخص النهايات، فمرض السل ليس مؤلماً مثل السرطان، إذ إنه يحيل الجسد إلى ضآلة تثير شهية الأدباء للكتابة، حيث تسطع الروح أكثر كلما ينكمش الجسد، فنلاحظ أن أكثر مرض تداولاً في الأدب هو السل بدون منازع، مثل موت إيفا الصغيرة في كوخ العم توم، وابن دومبي في رواية دومبي أند سن، وسمايك في رواية نيكولاس نيكلبي، حيث وصف ديكنز السل بأنه المرض المرعب الذي يهذب الموت وينقيه.
اعتبرت سونتاغ أن حوادث الموت الناتجة عن السل أغلبها مشرفة وهادئة ووقورة مقارنة بميتات السرطان الحقيرة والمؤلمة، مثل موت والد «يوجين كانت» في رواية توماس وولف، وميتات أخرى في الأدب. ستلاحظ أن تصوير الموت بالسل دائماً ما يكون صاحبه جميلاً جداً ومفعماً بالعاطفة؛ بينما الذي يموت بمرض السرطان يُصور على أنه جرد من كل سموه الذاتي ومن قدراته وتفوقه وأذل بالخوف والألم.
وفي عودة إلى كبار السن، فغالباً لا تنطبق عليهم ما ذكر آنفاً، إذ إنهم مهما كان مرضهم مخجلاً أو مدعاة للفخر الاجتماعي، لن يتوانى كثير منهم من أخبار أي عابر بتفاصيل غاية في الدقة فيما يخص اعتلالهم الجسدي، وذلك لأن الجسد تحول مع خلو الحياة شيئاً فشيئاً من الوظيفة اليومية ومن أداء الأعمال المنزلية والكثير من الواجبات التي بدأت تتضاءل مع تقدمهم في العمر، إلى «آخر»؛ فعندما تفرغ حياتك بالكامل من يوميات محشوة بالأحداث، سيصبح الجسد هو الآخر الذي يتفاعل معك لتشكيل الحدث، سوف تتحدث عنه بطلاقة وتشتكي منه دون أي تفكر بمعناه الرمزي أو بتأثيره الاجتماعي، وسينفصل الجسد عنك لدرجة يمكن اعتباره كائناً متخارجاً عن ذاتك بالكامل، مسؤولاً عن نفسه ويسدد لك اللكمات واحدة تلو الأخرى بدون أي شعور بالذنب، وهو ما يجبرك على فضح سلوكياته بين الناس وإضاءة أشد أفعاله عتمة دون تردد.
المرض الذي تحدثت عنه سونتاغ لا يشمل أولئك الذين استعملوا أجسادهم، حتى بدأ الأخير بالتخلي عنهم تدريجياً وبلا هوادة؛ بل كانت تقصد الذين لا يزال الجسد يشكل لهم كليتهم الجامعة، إذ ما يُصيبهم هو فعل شمولي، سيظل يرافقهم حتى بعد الموت كجزء من حكايتهم الأثيرة. لكن ما إن تتعدى مع جسدك عمراً معيناً، حتى تنفك عنه بالكامل، فيصبح المرض استعارة كاملة عن حياة الآخر، وليس بالضرورة حياتك أنت. لذلك، فالمرض في عمر الشباب يُصيب الروح قبل الجسد، أما في مرحلة متأخرة من العمر فيأتي بفعل مراوغة جسدية من أجل حياة تصارع «الملل» الذي هو أخطر مرض عرفته البشرية حتى الرمق الأخير.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Dheyaa:

    تذكرتُ عبارة لسيوران وأنا أقرأ ما تناولته الدكتورة شهد في مقالها، يقول “كل شخص في صحة جيدة هو شخص مُخيب للآمال”. إنه لا يملك تجربة المُرعِب التي تمنح وحدَها شيئاً من الكثافة لأحاديثنا، كما أنه لا يملك مخيّلةَ الشقاء التي لا يستطيع دونها أحدٌ التواصل مع تلك الكائنات المنفصلة الذين هم المرضى. علماً أنه لو امتلكها لما ظل في صحة جيّدة. لقد خلاَ من أيّ شيء يورثهُ وباتَ حيادياً حدّ الاستسلام، لذلك فإنّه ينهار في الصّحة، حالة كمالٍ عديم الشأن، وامتناع عن الموت وعن غيره، وعدم انتباه للذات وللعالم. مادام مستقراً هناك فهو شبيه بالأشياء. ما إن يُقتَلع من هناك حتى ينفتحَ على الكُل ويَعلَمَ الكُل: إنها كليّةُ علْمِ الفزَع.
    كلٌّ منّا هو نتاج أمراضه الماضية، وإذا كان قلقاً، نتاج أمراضه القادمة. تنضافُ إلى ذلك المرض الغامض وغير المحدد الذي يتمثل في أن يكون بشراً، أمراض أخرى متعددة ودقيقة، تنبثق كلها كي تعلن لنا أنّ الحياة حالة لا أمنٍ مُطلق، وأنها مؤقّتة أصلاً، وأنها تمثل نمط وجود عرَضِيّ. لكن، “إذا كانت الحياة عرَضاً، فإنّ الفرْدَ عَرضُ العرض” (حسب تعبير سيوران أيضاً). (1)

  2. يقول Dheyaa:

    علينا أن نتعهَّدَ أمراضنا وأن نجد لذة فيها بما أننا عاجزون عن الانتصار عليها. مجاملةٌ كانت ستبدو انحرافاً في نظر القدامى الذين لم يكونوا يقرّون بمتعة أكبر من ألا نتعذب. ولمّا كنا عاقلين أقلّ منهم فقد اختلفَ حُكْمُنا على الأمر في نهاية عشرين قرن اعتُبِرَ فيها التشنّج علامة تقدّم روحانيّ.
    ما كان للوعي أن يُوجدَ في غياب الألم. رأى ذلك جيداً مؤلّفُ “الصوت الباطني”(دوستويفسكي). والإشارة الوحيدة التي تسمح بافتراض أن الوعي ليس وقْفاً على الإنسان هو الألم الذي يؤثر في كل الأحياء. سلّطوا بعض العذاب على دابّة وتأملوا التعبير الذي يسكن نظرتها، وستلمحون هناك بريقاً يقذفُ بها للحظةٍ أعلى من مستواها. ما إن تتعذّب حتى تقطع خطوة في اتجاهنا وتجهد للحاق بنا مهما كانت. وإنّ من المستحيل علينا طيلة مرضها أن نأبى عليها درجة مهما كانت ضئيلة من الوعي. (2)

  3. يقول Dheyaa:

    كان باسكال على حق حين لم يتوسّع فى الاعتناء بالأمراض مفضّلاً الاعتناء بِطُرُق الاستفادة منها. إلّا أنّ من المستحيل علينا الاقتداء به حين يؤكّد لنا: “إنّ أمراض الجسد ليست سوى العقوبة والتصور الكامل لأمراض الروح”. إنّ هذا التأكيد مجانيٌّ إلى حدِّ أنّه يكفينا أن ننظر حولنا لتكذيبه: ليس من شكّ في أنّ المرض يصيب المذنب والبريء بلا تمييز. بل إنّه يُظهِرُ تفضيلاً واضحاً للبريء. وهو في النهاية أمرٌ طبيعي، ما دامت البراءة والنقاوة الباطنية تفترضان دائماً بنيةً ضعيفة. إنّ أمراضنا الجسدية التي تُسبب أكثر مما تعكس أمراضنا النفسية، تحدد رؤيتنا للأشياء وتقرر الوجهة التي ستتخذها أفكارنا. إنّ عبارة باسكال صحيحة شرط أن نقلبها.
    أن نحب العذاب يعني أن نحبّنا دون حقّ وأن نحرص على ألا نضيّع شيئاً منّا وأن نستمتع بعاهاتنا. كلما أكبّ الواحد منا على عاهاته طاب له أن يُكرّر السؤال : “كيف كان الإنسان ممكناً؟” يأتي المرض على رأس قائمة العوامل المسؤولة على ظهوره. (3) .

  4. يقول ياسر:

    لم انظر لادب المرض بشاعريه ادبيه يوما كهذه الشاعريه ولم افكر بالموضوع بهذا العمق يوما

  5. يقول احمد محمود:

    رائع

  6. يقول ياسرHY:

    العمر واحد لكن هناك فرق مابين من يعيش عمره كاملا بصحة جيده ومابين من يبتلى بالعلل
    هذا الجسد امانة لديك سوف تسترجع منك
    صدقوا حتى الجرح الصغير الذي لايؤلم هو بسبب فعلاً قبيح قد فعلته هو مثل الانذار المبكر على انك قد فعلت خطأ فانتبه وعندما تراجع نفسك تجد انك قد اهنت شخصا بكلمه او حركه او اي فعلا يدل عليك بعدم الاحترام او المزاح الغير مبرر
    المرض نوعان اما بلاء او ابتلاء
    هذا التفسير الديني .
    اماسلوكيات الانسان العامله على تحميل جسده مالايطاق كالعمل بجهد كبير متواصل لعمر طويل سيدفع بهذا الجسد الى نهايته مبكراً وبعد ان تضهر علامات الامراض عليه يبدأ بالشكوى
    لكل شيئ مبدأ ومبدأ الجسد يقول اذا عملت وتعبت فاسترح قليلا ثم ارجع واكمل عملك اما اذا استمررت بالعمل رغم اعراض التعب عليك
    ستفقد طاقتك بسرعه
    وقد تصل الى مرحلة الاعياء
    وفي الختام اتمنى لكم جميعاً ان تعيشوا بصحه جيده

  7. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، منازلة الجسد الأخيرة
    أنا رجل من كبار السن، في 1 من مايو 2025، تركت خلفي اثنين وثمانين عامًا من الكفاح ضد الظلم، ونصرة المظلوم.
    وليس هدفي إظهار أو ادعاء الشهامة، ولكن هذه حقيقة يعلمها كل من يعرف اسمي في اليونان ومصر، من الجاليات العربية القديمة، سواء من كبار السن مثلي، أو من الصغار الذين يبلغون اليوم ستين عامًا أو أقل أو أكثر.
    المهم أنني معروف أيضًا لدى السلطة في مصر واليونان، وقد حصلت على لقب “عمدة أثينا” من الطرفين، وكذلك لُقّبت بصمام الأمان”.
    وياما كنت أسمع من شخصيات كبيرة: “لماذا تفعل كل هذا؟ وكان ردي دائمًا: “مفروض حد يفعل شيئًا”.”
    وهنا نقف عند الكلام وسؤالي: هل هذا مرض؟ وإن كان مرضًا، فما هو علاجه؟
    والسبب أنني لم أقتصّ ممن ظلمني. والظلم شيء فظيع، وهو أقوى من السرطان والسل.
    ألم السرطان خارجي، يسمعه الجميع، ويشفقون على المريض.
    لكن ألم الظلم داخلي، لا يسمعه إلا الله، ومؤلمه أقوى من جميع أمراض الدنيا. ولهذا حرّم الله الظلم على نفسه، فقال سبحانه (يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا)
    وعندما وصلتُ إلى هذا السن ولم أقتصّ من الظالم، كان السبب صلة الرحم. ( 1 )

  8. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    بل عندما تعثّر في تجارته، كنت أسدّد عنه مبالغ كي لا يدخل السجن.
    وحتى عند موته، لم يعتذر، خوفًا من إثبات تهمة التحريض على اغتيالي ثلاث مرات، رغم أنها معروفة، ووالدي حصل على الدليل كاملًا، وأطلع والدتي، رحمهما الله، لكنه ذهب دون اعتذار واحد.
    واليوم، أحاكمه في منامي.
    وعندما أشعر بألم الظلم، أقيم له محكمة عادلة: أنا القاضي، والدفاع، ووكيل النيابة، والسكرتارية.
    ومنذ جلستُ في منزلي، وأغلقت أعمالي من عام 2012 حتى اليوم، حاكمته أكثر من مئة مرة، وحكمت عليه بالإعدام ولا مرة استطعت أن أحكم عليه بالسجن المؤبد.
    وكل هذا أمام زوجتي التي لا ذنب لها، ترى زوجها يعاني بهذا الشكل طوال عمره وأرغب أن يقول لي أحد: ما هو الأصعب؟ الصراخ الخارجي الذي يسمعه الجميع؟ أم الصراخ الداخلي الذي لا يسمعه إلا الله؟ حسبي الله ونِعم الوكيل في كل ظالم. ( 2 )

  9. يقول مهند النابلسي:

    الفيلم المثير للجدل “أنت لا تعرف جاك؟”,يتقمص الممثل العبقري “ال باشينو” (المعروف بادائه العصبي المقنع) بشكل مذهل شخصية الطبيب الامريكي (الارمني الاصل) جاك كيفوركيان,ويستعرض أحداث حياته بشكل شبه تسجيلي في تسعينات القرن الماضي,والتي قادته في النهاية لان يسجن لثماني سنوات وذلك لاتهامه بمساعدة المرضى اليائسين على الانتحار والموت الرحيم بواسطة تخديرهم أولا ومن ثم اعطاءهم حقنة قاتلة.

    لقد كانت أول مرضاه جانيت ادكينس ذات الاربعة والخمسين عاما والتي كانت تعاني من الزهايمر,ثم قدم خدماته لحوالي مئة مريض حسب طلبهم وعلى مدى ثمان سنوات في تسعينات القرن الماضي.وعندما شاهدت بشغف هذا الشريط التلفزيوني المتقن,افترضت أن “ال باشينو” قد جلس لساعات طوال مع الدكتور جاك الاصلي ليتمكن من تقمص شخصيته بهذا الشكل اللافت,ومن ثم تأكدت من ذلك عندما وجدت له صورا عديدة مع جاك كيفوركيان أثناء تصوير الفيلم.

    استمرت أبحاث الدكتور كيفوركيان لمدة 33 عاما ,وعرف باسم “دكتور موت” في العام 1956,وبدأت أبحاثه تلفت الانتباه عند ملاحظته من تحليل صور عيون المرضى

  10. يقول لبنى شعث - فلسطينية مغتربة:

    الفلسفة الحقيقية تبدأ بفلسفة الجسد –
    لمن يقرأون جويس ولورنس على أقل تقدير!

اشترك في قائمتنا البريدية