في كتابه الأخير «منازل ـ سيرة ذاتية عابرة للأزمنة والثقافات» لفؤاد ماثيو كازويل، الصادر عن دار ميرا للنشر، نجد فكرة كتابة المذكرات من خلال المنازل التي عاش فيها الكاتب على مدى تسعين عاما، بأسلوب متميز ومثير للاهتمام، من حيث إنها تسمح للقارئ بمتابعة حياته في تسلسل زمني لا يمكن فصله عن المتغيرات الثقافية والاجتماعية، بل حتى المعمارية، التي ساهمت في تشكيل وعيه الثقافي والسياسي منذ الطفولة. والأجمل، أن الراوي لا يشير إلى صاحب المذكرات بالاسم، فهو في الفصول الأولى «الصبي» الحاد السمع، شديد الملاحظة، قليل الكلام بسبب التأتأة. في أحد الأيام يسمع والدته تتحدث لوالده أن جرعة الدواء التي تناولتها للتخلص من الطفل خلال حملها به لاعتقادها بأنها حامل ببنت، قد تكون السبب في هذه التأتأة. كان ذلك في منزلهم في حي الصابونجية في بغداد، قبل أن تشتري الحكومة البيت وتضطر العائلة لاستئجار بيت في حي البصوص لفترة مؤقتة، خلالها يحاول الأب شراء بيت أكبر في حي البتاوين. لكن حياة الصبي في حي السعدون بعد ذلك هي الأكثر تأثيرا في تشكيل وعيه السياسي وتوجهاته الاشتراكية، تأثرا بوالده مدير مدرسة مسعودة سلمان للطلاب اليهود، وبمدرس اللغة العربية الشيوعي ومدرسين شعراء يساريين آخرين.
وهناك يحدثنا الراوي عن «الشاب» اليساري المثقف الناشط في الكتابة والترجمة والنشر في الصحف المحلية. يوكل إليه ترجمة بعض الكلاسيكيات من اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وإجراء المقابلات مع الشخصيات الأجنبية الزائرة للبلد. بدأت قناعاته السياسية تثير غضب الحركة الصهيونية «السرية» في العراق، وعلى إثرها، يُعهد بمهمة تحرير المجلة التي كان يتولاها هو إلى أحد أصدقائه المقربين، ليكتشف لاحقا أن هذا الصديق عضو في الحركة الصهيونية العراقية.
في الفصل الخاص بمنزل «السعدون» يسهب الراوي بتفاصيل جميلة عن البيت الجديد والبيوت المحيطة والحدائق والنوافير، وعن بعض ساكني الحي، وعن المقاهي ودورها في الحراك السياسي في تلك الفترة.
ومن فصل السعدون يروي الكاتب: «غالبا ما كان الصبي يرافق والده إلى المقهى في الهواء الطلق، حيث يجلس الرجال اليهود في مجموعة في أحد جوانب المقهى، بينما يجلس الآخرون في مجموعات في الأماكن الأخرى. كان الصبي حرا في التمشي بين الطاولات بينما يسترق السمع على ما تتجاذبه المجموعات المختلفة من أطراف الحديث. سادت أجواء من الغبطة بعد النكسات التي وقعت بالإنكليز، والإعجاب بهتلر وجيوشه التي لا تقهر، والتي كانت تجتاح بسرعة البرق كل من يقف أمامها، هي تقترب أكثر من أي وقت مضى من العراق.
يأتي هذا السرد في سياق تاريخي قد يكون معروفا لبعض العراقيين، لكنه يضيف إليها تفاصيل أخرى، في رأي الكاتب بدأت ملامحها في الظهور، مهددة بتفكك النسيج الاجتماعي والديني والثقافي، الذي ميز المنطقة في تلك الفترة.
بعد غزو واحتلال جزيرة كريت، كان كل ما يقف بين هتلر والعراق هو سوريا، التي كان يسيطر عليها عدوه السابق والآن حليفه بيتان، ورغم أن العديد من العراقيين ابتهجوا بهذه الأخبار، خاصة بعد عقود من الهيمنة الإنكليزية البغيضة، المباشرة وغير المباشرة، لم يكن أي من هذه الميول الفاشية موجها ضد اليهود. في المقهى، عامل المسلمون واليهود بعضهم بعضا بتحضر، وأبقوا أنفسهم على مسافة محترمة، حيث عاملوا بعضهم على مبدأ المودة والرحمة كجيران يسكنون الحي ذاته.
في إحدى الزيارات للمقهى، وقعت عينا الصبي على طاولة شاغرة وفوقها مجموعة من أحجار الدومينو. تناول قطع الدومينو وبدأ ينظمها بجانب بعضها ويصنع منها أشكالا مختلفة، سأله رجل مرّ من جانبه عما إذا كان الصليب المعقوف هو ما أراد إظهاره، وهو يربت على كتفه باستحسان».
يأتي هذا السرد في سياق تاريخي قد يكون معروفا لبعض العراقيين، لكنه يضيف إليها تفاصيل أخرى، في رأي الكاتب بدأت ملامحها في الظهور، مهددة بتفكك النسيج الاجتماعي والديني والثقافي، الذي ميز المنطقة في تلك الفترة. بما في ذلك قدوم من يسميهم بالمعدان والكسيبة من المحافظات الأخرى إلى بغداد. في المقاهي الشعبية التي يرتادها المدرسون والمحامون والناشطون السياسيون، وحتى العمال والكسيبة، يتابع الشاب بكل حواسه حركة المجتمع والتحولات السياسية المقبلة. ففي أحد الأيام يدخل المقهى رجل بملامح جادة، ويقف معظم رواد المقهى لتحيته إذ يبدو انه معروفا لهم. هو عبدالله مسعود القريني، الرئيس السابق للحزب الشيوعي قبل أن يشي به أحدهم للسلطات ويدخل السجن ليعقبه يوسف سلمان يوسف (المعروف باسم فهد) في رئاسة الحزب. ويسهب بعدها الشاب برواية تفاصيل عن نشاطات الشيوعيين، الصهاينة، وأحزاب أخرى في تلك الفترة، ومن تلك المنطقة تحديدا في بغداد «حي السعدون».
ومن منزل السعدون يفوز الشاب بجائزة القصة القصيرة على مستوى القطر وينال منحة دراسية إلى بريطانيا، لكن إلى أن يتم رفع حظر السفر الذي فرضته الحكومة على اليهود في تلك الفترة المضطربة من تاريخ العراق. خلال فترة الانتظار، يحصل الشاب على وظيفة في إمبريال بنك أوف إيران. هو بنك بريطاني في كل شيء عدا الاسم. فقد أسسه ديفيد ساسون عام 1889 في لندن. في عام 1951 يُرفع حظر السفر ويغادر الشاب إلى لندن ليبدأ حياة جديدة، متنقلا أيضا في عدة بيوت هناك، ومعها يروي تاريخ كل شارع وحي سكنه حتى لتبدو المدينة مألوفة جدا للقارئ، فيتابع بسلاسة تفاصيل الحياة اليومية لهذا الشاب العراقي اليهودي في المجتمع الجديد، تفاصيل ممتلئة بذاكرة الشرق وبطموح لا يسيران في خط واحد. فالعائلة الكبيرة التي اضطرت للهجرة إلى إسرائيل بعد أحداث الفرهود لا تتوقف طلباتها منه، والمجتمع الجديد الذي لا يزال يعيش تبعات الحرب العالمية، والذي لا يستطيع تقبل يهودي شرقي بسهولة، حيث لا تزال لافتات «ممنوع دخول الكلاب واليهود والأيرلنديين» معلقة في العديد من المحلات التجارية والمقاهي، الأمر الذي يضطره لتغيير اسمه من فؤاد منشي زلوف إلى فؤاد ماثيو كازويل، ثم إلى الانتقال إلى مدينة ليدز في يوركشاير، حيث يستقر مع زوجته هيلين، ويستمر في العمل في القضاء. وفي هذه الفصول من الكتاب، ينقلنا الراوي إلى مجتمع اخر يختلف عن المجتمع اللندني، بإيقاع فني أنيق وغني بالمعلومات عن القضاء البريطاني وإشكالاته، وعن التنوع الطبقي، وعن علاقته بلاعب الكركيت الشهير السير جفري بويكوت وملاحقاته القضائية بين محاكم ليدز ومدينة كان في فرنسا. والفصل الأخير هو عن حياته في جامعة أكسفورد التي من خلالها يعيش القارئ أجواء تلك الجامعة بتفاصيلها التاريخية والأكاديمية العريقة، مكتباتها، طلابها، أساتذتها الذين عاش وعمل معهم كطالب دكتوراه وهو في أواخر الستين من عمره، وحصل منها على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي.
سيصدر الكتاب قريبا باللغة العربية عن دار المدى.
كاتبة عراقية