لم يعد الصراع الاقتصادي الشرس بين الولايات المتحدة والصين يقتصر على الحرب التجارية والقيود المتبادلة على التجارة والتكنولوجيا والاستثمار، وإنما يمتد هذا الصراع بسرعة إلى مناطق محورية في العالم. الولايات المتحدة من ناحيتها تحاول حصار الصين اقتصاديا داخل مجموعة آسيان ودول المحيط الهادي، عن طريق ضغوط بواسطة أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام. الصين في المقابل تحاول الإفلات من هذا الحصار بواسطة إجراءات لاختراق أسوار الحماية التجارية الأمريكية عن طريق المكسيك في أمريكا الشمالية، وكذلك عن طريق بولندا والمجر وصربيا وإسبانيا في أوروبا. الأسبوع الماضي كان مناسبة لحدثين كبيرين في هذا السياق. الحدث الأول تمثل في منتدى دافوس الاقتصادي الصيفي، الذي انعقد في الصين خلال الفترة من 25 إلى27 من الشهر الحالي، وشارك فيه قادة ونخبة كبيرة من رجال الأعمال في العالم، بما في ذلك وفود من منطقة الخليج، وترافق انعقاده مع زيارة قام بها إلى بكين كل من الرئيس البولندي أندريه دودا، ورئيس الوزراء الفيتنامي فام مينه تشينه. الحدث الثاني في الوقت نفسه، كان زيارة وزير التخطيط والاستثمار الفيتنامي نغوين تشي دونغ إلى واشنطن، لإجراء لقاءات مع المسؤولين هناك لمراجعة الانجازات التي تمت خلال الأشهر الأخيرة على صعيد اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين. وبينما كانت الولايات المتحدة تريد توجيه رسالة قوية إلى الصين خلال زيارة الوزير الفيتنامي، فإن الصين كانت هي الأخرى أشد حرصا على توجيه رسالة قوية إلى الولايات المتحدة عن طريق الرئيس البولندي ورئيس الوزراء الفيتنامي.
خطة صناعية مشتركة مع بولندا
الحقيقة أن اهتمام الصين كان أكبر بالرسالة الموجهة عن طريق بولندا، لأنها تأتي في وقت دخلت فيه المواجهة التجارية مع الولايات المتحدة وأوروبا في مسألة صادرات السيارات الكهربائية، منعطفا حرجا بعد فرض قيود حمائية شديدة ضد الصادرات الصينية. الصين فتحت كل أبوابها للرئيس البولندي، وذكرت صحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ بوست» يوم الثلاثاء الماضي، أنه تم توقيع خطة عمل مشتركة تغطي الفترة (2024-27) بشأن تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وبولندا، تم التأكيد فيها على أن «الجانبين سيدعمان نمو الاستثمارات ثنائية الاتجاه في السيارات الكهربائية والتنمية الخضراء والخدمات اللوجستية وغيرها من القطاعات». ويعد التعاون بين الصين وبولندا في قطاع السيارات الكهربائية دليلا حيا على هذا التعاون الاستثماري. وعلقت أوساط اقتصادية صينية على الخطة بأن قرار الاتحاد الأوروبي الأخير برفع التعريفات الجمركية على السيارات الكهربائية من الصين، رغم أنه قد تسبب في ضجة كبيرة في ساحة التجارة العالمية، إلا أن هذا لم يعق التعاون بين الصين وبعض دول الاتحاد الأوروبي. وبدلا من ذلك، فإنه يلفت الانتباه المتزايد إلى الحاجة الماسة والامكانات لتعزيز التعاون الاستثماري بين الصين والاتحاد الأوروبي. وجدير بالذكر أن الصين تقوم بتطوير استثمارات كبيرة في عدة بلدان أوروبية في صناعة السيارات الكهربائية وغيرها. ومن هذه البلدان إسبانيا وصربيا والمجر إضافة إلى تركيا. ويتم تصدير السيارات ومكوناتها من مراكز الاستثمار الصيني إلى أوروبا دون الخضوع لعقوبات أو قيود تجارية. وقد جاء توقيع هذه الخطة بعد أيام من أنباء تفيد بأن شركة صناعة السيارات الصينية «جيلي» تعمل مع شركة «إليكتريك موبيليتي» البولندية المدعومة من الدولة لتطوير سيارة كهربائية من المتوقع أن تدخل الإنتاج الضخم في غضون عامين.
وهذا ليس أول استثمار لشركة جيلي في أوروبا، لكن تعاونها في مجال السيارات الكهربائية هذه المرة، يمثل اتجاها مهما لشركات صناعة السيارات الصينية التي تذهب إلى الخارج، في مواجهة المشهد التجاري والجيوسياسي المعقد. ويعد إنشاء مصانع في الخارج استراتيجية ضرورية لشركات صناعة السيارات الصينية التي تتطلع إلى التوسع دوليا والترويج للعلامات التجارية الصينية في سوق السيارات العالمية. في الوقت الحاضر، نفذت كل من «جيلي» و«بي واي دي» و«شيري» الصينية خططا استثمارية في دول أوروبية مثل بولندا والمجر وإسبانيا. لا توفر هذه المشاريع الاستثمارية لشركات صناعة السيارات الصينية نقاط دخول جديدة إلى السوق الأوروبية فحسب، بل تولد أيضا نموا اقتصاديا جديدا وفرص عمل في أوروبا.
وتؤكد الصين من خلال تلك الرسالة الأخيرة إلى كل من أوروبا والولايات المتحدة أن فتح أبواب الاستثمار في الصين للشركات الأجنبية بما فيها شركات رائدة في صناعة السيارات الكهربائية مثل «تسلا» وكذلك سعي الشركات الصينية لإقامة مراكز إنتاجية في الخارج، أصبح اتجاها يفرض على منتجي السيارات الكهربائية الصينيين ضرورة الاستثمار في الأسواق الرئيسية مثل أوروبا من أجل تأسيس وجود أقوى في السوق وتوطين علامتهم التجارية. وبواسطة ذلك يمكنهم الاندماج في النظام البيئي الصناعي المحلي، ما يسرع عملية العولمة. وهذا لن يعزز السمعة الدولية لماركات السيارات الصينية فحسب، بل سيعزز أيضا فرص تعاون أكبر، وتوسعا في السوق لجميع الأطراف المعنية. وإذا تمكنت الصين من الوصول إلى السوق الأوروبية بشكل أكثر سلاسة من خلال الاستثمار، فمن المؤكد أن ذلك سيكون مواتيا للشركات الأوروبية لتوسيع استثماراتها في الصين.
متابعة التعاون
الأمريكي ـ الفيتنامي
في يوم الثلاثاء 25 من الشهر الحالي، وهو اليوم نفسه الذي تم فيه إعلان الخطة الصناعية الصينية – البولندية، استقبل وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للنمو الاقتصادي والطاقة والبيئة خوسيه فرنانديز وزير التخطيط والاستثمار الفيتنامي نغوين تشي دونغ في واشنطن لحضور أول حوار اقتصادي للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الولايات المتحدة وفيتنام. وجاء في بيان صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية أن الوفدين الأمريكي والفيتنامي احتفلا بالارتقاء التاريخي للعلاقات الثنائية بين البلدين إلى مستوى شراكة استراتيجية شاملة في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، خلال زيارة الرئيس بايدن إلى فيتنام. وقد ناقش الطرفان التعاون الموسع بشأن مرونة سلسلة التوريد في صناعة أشباه الموصلات، ودعم القوى العاملة في مجال التكنولوجيا الفائقة في فيتنام، والنهوض بانتقال الطاقة المتجددة وتنفيذ جهود التخفيف من حدة المناخ، والتعاون في مجال المعادن الحرجة، وإدارة المخاطر الأمنية في التجارة والتمويل الدولي، وتعزيز الأمن السيبراني والبنية التحتية الحيوية للمعلومات والاتصالات، والعمل معا لضمان أن تكون اللوائح القانونية في فيتنام بيئة جاذبة للاستثمارات عالية الجودة ومحفزة للنمو الاقتصادي المستدام والشامل. كما أعاد الحوار التأكيد على أهمية منطقة المحيطين الهندي والهادئ للاقتصاد العالمي، ومواصلة العمل على تحقيق الهدف المشترك المتمثل في بناء منطقة مزدهرة وحرة ومفتوحة وآمنة. واتفق الجانبان على الاجتماع مرة أخرى في ربيع العام المقبل لمراجعة التقدم المحرز في إطار اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة، والاستفادة من زخم التعاون الاقتصادي الثنائي بين البلدين.
ويعتبر هذا اللقاء، ثاني أهم خطوة على صعيد تفعيل صيغة الشراكة الاستراتيجية الشاملة للتعاون الأمريكي الفيتنامي، منذ تم توقيعها في ايلول/سبتمبر من العام الماضي خلال الزيارة التي قام بها الرئيس بايدن إلى فيتنام. وكان وزير الخارجية الامريكي أنتوني بلينكن قد التقى نظيره الفيتنامي
بوي ثانه سون في واشنطن في اذار/مارس الماضي لحضور الاجتماع الأول لوزراء خارجية الشراكة الاستراتيجية الشاملة. وفي ذلك اللقاء أعاد الوزير بلينكن ووزير الخارجية سون التأكيد على قوة العلاقة بين الولايات المتحدة وفيتنام والتفكير في التقدم المحرز منذ رفع مستوى العلاقات خلال زيارة الرئيس بايدن التاريخية إلى هانوي. وبحث الوزيران الطرق التي يمكن للولايات المتحدة وفيتنام من خلالها توسيع التعاون في المجالات الرئيسية، بما في ذلك النظام البيئي لأشباه الموصلات، وتنويع سلسلة التوريد، والتعليم والثقافة، والأمن، وحقوق الإنسان.
شراكة تكنولوجية
أمريكية ـ فيتنامية
كانت زيارة الرئيس بايدن لفيتنام في ايلول/سبتمبر من العام الماضي، وعقد اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين معلما تاريخيا في العلاقات الثنائية بين الخصمين السابقين. وتشير هذه الشراكة إلى تعميق المصالح والثقة بين الدولتين، ما يمهد الطريق لمزيد من التعاون في جوانب متعددة، بما في ذلك تعزيز نقل التكنولوجيا لفيتنام، وتعزيز الاستثمار والتجارة، وتوسيع الروابط بين الشعبين، ومكافحة تغير المناخ وتعزيز التعاون الدفاعي والأمني. إنه إنجاز مهم لبايدن، كما تشير أيضا إلى رغبة فيتنام في إقامة قدر كاف من التحوط والحذر والسعي لتحقيق توازن استراتيجي من خلال توسيع شبكتها من الشركاء الاستراتيجيين.
وطبقا لنص الاتفاق الذي وقعه الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الفيتنامي نغوين فو ترونغ والرئيس الأمريكي جو بايدن في العاصمة الفيتنامية هانوي، فإنه يهدف إلى الارتقاء بعلاقة البلدين إلى شراكة استراتيجية شاملة لأغراض السلام والتعاون والتنمية المستدامة. وقد جاءت هذه الشراكة استمرارا وتعزيزا للسياسة الخارجية الأمريكية في السنوات العشر الأخيرة منذ أن شكل الرئيس الفيتنامي ترونغ تان سانغ والرئيس الأمريكي باراك أوباما الشراكة الشاملة بين فيتنام والولايات المتحدة، حيث خطا البلدان خطوات ملحوظة في زيادة التفاهم المتبادل وبناء الثقة المتبادلة وتعزيز التعاون في جميع مجالات الشراكة الشاملة.
وبموجب الإطار الجديد، أكد الطرفان مجددا على أهمية التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، والنمو الاقتصادي الشامل المدفوع بالابتكار، باعتبارهما الركائز الأساسية ومصادر الزخم في العلاقات الثنائية. وتعهد الجانبان بتهيئة الظروف المواتية وتسهيل المزيد من فتح الأسواق أمام سلع وخدمات بعضهما البعض، ودعم السياسة التجارية والاقتصادية، والتدابير التنظيمية لتحقيق هذا الهدف. ومعالجة قضايا مثل الحواجز التي تسبب عرقلة الوصول إلى الأسواق من خلال الاتفاق الإطاري للتجارة والاستثمار. ومن جانبها أشادت الولايات المتحدة بالتقدم الذي أحرزته فيتنام في الإصلاحات الاقتصادية الهامة القائمة على تكريس قواعد السوق، وتعهدت بدعمها في هذا المجال. وتضمن الاتفاق تأكيد استمرار العمل على تعزيز نظام تجاري متعدد الأطراف، غير تمييزي ومفتوح وعادل وشامل ومنصف وشفاف وقائم على القواعد وفي القلب منه منظمة التجارة العالمية. وأشاد الجانبان بالتقدم المحرز حتى الآن، والتطلع إلى إحراز تقدم كبير إضافي في المستقبل القريب في إطار العمل الاقتصادي للازدهار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والذي سيحقق فوائد ملموسة للاقتصادات والعمال والأسر والشركات في البلدين والمنطقة.
كما تعهدت الولايات المتحدة بالتعاون الشامل في تعزيز الابتكار وريادة الأعمال، وتعزيز البنية التحتية الرقمية الآمنة والموثوقة في فيتنام، مؤكدة قدرتها على توفير فرص جديدة لتعزيز القدرات الرقمية للمبتكرين الفيتناميين لتوسيع نمو الاقتصاد الرقمي. وتستهدف هذه الجهود دعم بنية وهياكل الشبكات المفتوحة والقابلة للتشغيل البيني واعتماد التقنيات الناشئة لتقديم فرص جديدة لتحسين المهارات الرقمية للمبتكرين الفيتناميين. وأعلنت الولايات المتحدة خططا ملموسة لمساعدة فيتنام في تدريب قوة عاملة عالية الجودة، ما يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستقبلية. ورحبت باستضافة ما يقرب من 30 ألف طالب فيتنامي يدرسون في الولايات المتحدة، وستشجع المؤسسات التعليمية الأمريكية على قبول عدد أكبر من الطلاب الفيتناميين، وذلك إدراكا للأهمية الحيوية للاستثمار في رأس المال البشري كمورد حاسم للازدهار والأمن والاستقرار والتنمية في المستقبل.
انفتاح فيتنامي حذر
رغم قوة التقارب الأمريكي مع فيتنام، فإن صناع السياسة في هانوي يتصرفون بحذر شديد فيما يتعلق بالانفتاح على كل من الصين والولايات المتحدة. ويعتبر الحزب الشيوعي الفيتنامي أن الصين جار كبير ليس من السهل الوقوف ضده، حتى في حال وجود خلافات، فذلك يستوجب البحث عن طرق سلمية لتسويتها. كما يعتبر أن الولايات المتحدة تقدم لفيتنام فرصة تاريخية لتعزيز التنمية الاقتصادية السريعة، خصوصا في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والتجارة، ذلك أن السوق الأمريكية هي أهم أسواق الصادرات الفيتنامية بشكل عام، من الملابس الجاهزة، إلى أجهزة الكمبيوتر وأشباه الموصلات. وقد اتضح هذا التوجه الحذر خلال الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء الفيتنامي فام مينه تشينه في افتتاح منتدى دافوس الصيفي في مدينة داليان الساحلية الصينية. واعتبر تشينه إن الصين هي محرك رئيسي للنمو في العالم، وأن فيتنام تشجع بقوة الدعوات إلى التعددية والنظام العالمي المفتوح. وقال إن الصين قدمت مساهمات كبيرة في الاقتصاد العالمي من خلال نموها السريع على مدى العقود الماضية، وإن تنمية الصين «تقدم مثالا ملهما بالعديد من الفرص» للدول الأخرى. وأضاف «الصين من بين الدول القليلة التي تضطلع بشكل متزايد بدور قيادي في مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية وتعزيز مبادرات التعاون المختلفة، وتحتل موقعا محوريا في سلاسل الإنتاج والتوريد العالمية».
وعلى الرغم من أن الصين وفيتنام لا تزالان على خلاف بشأن المطالبات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، فإن الجارتين الشيوعيتين تحافظان على علاقات دافئة إلى حد كبير. وخلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى فيتنام في كانون الأول/ديسمبر الماضي، تعهد الجانبان بتعميق العلاقات وبناء مستقبل مشترك. كما دعا رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشي تشيانغ دول العالم في افتتاح المنتدى، أن تكون أكثر اتساعا في الأفق تجاه قضية التنمية، وحماية بيئة السوق المفتوحة، وتجنب الانخراط في الحمائية التجارية تحت ستار «تعزيز التنمية الخضراء والصديقة للبيئة».
السباق الصيني – الأمريكي على اختراق مناطق نفوذ كل منهما لن يتوقف، لكن منتدى دافوس الصيفي في الصين قدم خلال الأسبوع الماضي رسالة قوية بأن الطريق إلى مستقبل أفضل، يمر من خلال التعاون وليس الصراع.