«مناهضة السامية» أم صناعة التخويف

يقرّ المستنيرون من الغربيّين ومن اليهود غير الصهاينة أنّ الصهيونية و«معاداة الساميّة» ولعلّ الأصحّ ترجمة المصطلح الأجنبي بـ«مناهضة الساميّة»، ليستا بقوّتين متعارضتين، بل الأقرب إلى الحقّ أنّهما «توأمان» تولّدا منذ بدايات نشأة الحركة الصهيونيّة؛ وإن كان البعض يرى أنّ الصهيونيّة نفسها «تولّدت» من «مناهضة الساميّة» أوروبيّا، أو أنّ هذه كانت السبب الأبرز في نشأتها. ومثل هذه القراءات سائغة مقبولة إجمالا، لأنّ الأمر يتعلّق بمفاهيم تاريخيّة خالطتها أمشاج وعناصر دينيّة وسياسيّة وفكريّة مختلفة أحيانا إلى حدّ التباين بالجملة. غير أنّ ما يلفت الانتباه في السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 أنّ هناك في دولة الاحتلال وخارجها في الغرب عامّة، من يقترح الأخذ بمفهوم «مناهضة الساميّة الجديدة» على نحو ما صاغه «التحالف البرلماني الكندي ضدّ مناهضة الساميّة». بل هناك في أمريكا خاصّة من يجعل «مناهضة الساميّة» معاداة للصهيونيّة و«الإسرائيليّة» معا. وتحدّ «مناهضة الساميّة» في الأدبيّات الكلاسيكيّة من حيث هي العداء أو التمييز ضدّ اليهود باعتبارهم مجموعة دينيّة أو أقلّيّة. وأمّا محاولة إدراج انتقاد دولة الاحتلال في تعريف مناهضة الساميّة فهي ظاهرة أعقبت حملة المقاطعة التي ظلّت بين شدّ وجذب منذ 2005. وهي اليوم تزداد حدّة بعد أن أصدرت المحكمة الجنائيّة الدوليّة مذكّرتي اعتقال بحقّ نتنياهو وغالانت. ولا غرابة في هذا، فتاريخ الحركة الصهيونيّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قام على اعتبار «مناهضة الساميّة» شرطًا أساسيا من أجل تحقيق المشروع الصهيونيّ الاستعماريّ. ويتمثّل الذين أشرت إليهم أعلاه بتيودور هرتزل الذي يبيّن في بواكير كتاباته أنّ «مناهضة الساميّة» هي التي أفضت به إلى الصهيونيّة. كان ذلك منذ محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس الذي اتّهم زورا بالخيانة، فهي القضيّة التي جعلت منه صهيونيّا كما يقرّ هو نفسه في مقال له. ورأيه أنّ هناك حكومات مصابةٌ بـ«مرض» أو ظاهرة معاداة السامية «ستهتمّ شديدا بمساعدتنا في الحصول على السيادة التي ننشدها». وخلص إلى أنّ «المعادين للساميّة سيصبحون أصدقاءنا الأكثر وثوقا، وأنّ الدول المعادية للساميّة ستكون حليفة لنا». ويقول في يوميّاته، وهي جديرة بأن تُقرأ بكلّ عناية: «إنّ مناهضة الساميّة تكبر باستمرارـ كذلك أنا… ليست المناهضة علميّا، إلاّ نتيجة لتحرير اليهود. وعلى أيّة حال فإنّ الجماهير التي يعوزها الفهم التاريخي ـ أي جميعها ـ لا تنظر إلينا نحن [اليهود] باعتبارنا نتاجا تاريخيّا، ومن حيث نحن ضحايا العصور الماضية القاسية ضيّقة الأفق. إنّهم لا يدركون أنّنا بلغنا ما نحن عليه، لأنّهم صنعونا كذلك بواسطة الإرهاب؛ ولأنّ الكنيسة جعلت التعامل بالمال والربح [الفائدة أو الربا] عملا لا يشرّف المسيحيّين. ولأنّ الحكّام أجبرونا على التعامل بالمال، فنحن نحرص على المال أيّما حرص، إذ هم الذين أغرقونا فيه. وفضلا عن ذلك كان لزاما علينا أن نكون دائما على استعداد للهرب أو لإخفاء ممتلكاتنا خوفا من النهب. هكذا نشأت علاقتنا بالمال، وأصبحنا نحن عبيد القيصر الخصوصيّين أداة لجباية الضرائب».
ويضيف في هذا التحليل العميق الذي قلّما نقف عليه في نصّ صهيوني: «لقد سحبنا المال من أيدي الشعب، ثمّ سُلب هذا المال منّا أو صادرته السلطة. وهذه الضائقة هي التي جعلتنا بشعين… أمّا عندما يولّي اليهود ظهورهم للمال، ويتّجهون إلى تعاطي المهن الأخرى التي منعوا من ممارستها سابقا؛ فهم يسبّبون ضغطا قويّا على أوضاع الطبقة المتوسّطة الاقتصاديّة، ويقاسون من ذلك قبل غيرهم». وهذا «الاستشراف» لم يكن مجرّد رؤية استراتيجيّة محدودة، بل كان سياسة مصمّمة تعهّدتها الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال حتّى اليوم. وممّا يعزّز من وجاهة هذا الطرح أنّ آرثر بلفور كان معاديا للسامية معروفا، وقد رعى في عام 1905 مشروع (قانون الأجانب) الذي كان يهدف إلى منع اليهود الأوروبيّين الفارّين الناجين من المذابح، من الاستيطان في بريطانيا. وهذا لم يمنع الصهاينة من التواصل معه، خاصّة أنّ دعمه المشروع الصهيوني كان يهدف إلى تهجير اليهود من بريطانيا العظمى إلى فلسطين. وهذا يؤكّد ما كان يتوقّعه هرتزل. وهو ما تواصله حكومة نتنياهو اليمينيّة المتطرّفة التي لا تخفي تعاونها مع الحكومات والجماعات الأوروبيّة الفاشيّة الجديدة إلى حدّ أنّ كبير الحاخامات الأوروبيين، بنحاس غولدشميت، دعا الحكومة الإسرائيلية إلى إنهاء تعاملها مع أحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا. بل حذّر المسؤولين الإسرائيليّين من أنّ تقرّبهم إلى الجماعات القوميّة في أوروبا يعرّض الجالية اليهوديّة المحلّيّة لأخطار شتّى. يقول غولدشميت: «إذا كان حزب ما طائفيّا يعارض قطاعات كبيرة من المجتمع، وغير متسامح مع الأقلّيات؛ حتّى إذا لم يكن اليهود هدفا له الآن، فإنّهم سيكونون كذلك في المستقبل (القريب)».
إنّ الصهيونيّة حركة قوميّة متطرّفة، واليهوديّة ديانة؛ وهذه ليست تلك. ومع ذلك يصرّ الصهاينة وأنصارهم على أنّهما شيء واحد. ومن ثمّة فإنّ نقد أو انتقاد إسرائيل ومشروعها الصهيوني، هو مناهضة للساميّة. ولا يخفى أنّ هذه طريقة من بين طرائق شتّى، في ترهيب معارضي نظام الفصل العنصري الإسرائيلي وتخويفهم وإسكاتهم؛ والتخويف ليس فزعا فحسب أو هلعا وهو أسوأ الجزع وأفحشه، وإنّما هو أيضا «صناعة»، بل هو اليوم مفردة من مفردات «مناهضة الساميّة»؛ وثمّة في «تقديس» هذه «المناهضة» متلازمات من الخوف والتخويف والصراع والهروب، وما بعد الصدمة (صدمة قرار المحكمة الجنائية الدوليّة في اسرائيل، المطالب باعتقال مجرميْ الحرب نتنياهو وغالانت) أو «الخوف المشروط»، وهي تتضافر كلّها في ضمان بقاء دولة الاحتلال والإبادة والميز والعنصري، والحيطة من كلّ خطر يتهدّدها. ويكفي أن نذكر بعض المشهورين من العلماء والمثقّفين اليهود الذين «عرّوا» طبيعة الصهيونيّة و«أدانوها» مثل ألبرت أينشتاين ومارتن بوبر وغيرهما من جماعات حقوق الإنسان الإسرائيليّة؛ فهل مثل هؤلاء معادون للسامية؟ يبيّن يوآف ليتفين طبيب الأمراض العقليّة والنفسيّة والكاتب اليهودي الأمريكي المستنير أنّه لا ينبغي الخلط بين الدولة واليهوديّة، ولا اليهود من حيث هم جماعة، وأنّه في حال دولة إسرائيل، ينبغي أن يُسمّى «إجلالها حدّ العبادة» بـ«الإسرائيليّة» التي يمكن إدراكها بسهولة أكبر من مصطلح «الصهيونية»، وليس اليهوديّة.
وتأكيد الصهاينة على أنّ دولة إسرائيل تمثّل جميع يهود العالم، ليس كذبة فحسب، بل عمل خطير يترتّب عنه تحميل اليهود الذين لم تتلطّخ أيديهم بدماء الفلسطينيّين مسؤولية جرائم دولة الاحتلال؛ ذلك أنّه «إذا كانت دولة إسرائيل متّهمة بارتكاب جرائم ضدّ شعب مجاور، وهي الدولة التي تقول إنّها تجسّد أيضا اليهوديّة العالميّة… فإنّ جميع اليهود يجدون أنفسهم مُورّطون في مشاركة الذنب الجماعي مع هذه الدولة نفسها، بالرغم من أنّ العديد منهم ما انفكّوا يعارضون صنيعها». والتخويف ممّا هو محتمل أو وارد أو متوقّع أو مجهول؛ في عالم يكاد يكون فيه المستقبل جزءا من حاضرنا القلق، هو الذي «يؤمّن» لدولة الاحتلال بقاءها، وقد قرنته قرانا مؤبّدا بـ«مناهضة الساميّة» وكأنّ هذه «المناهضة» من فصيلة «جين الروحانيّات» الذي يهيّئ الناس للدين، ويجعل كثيرا من البشر يولدون «مكبّلين سلفا» بقوّة هذه الشبكة.
وهي سياسة ترسّخت إلى حدّ أنّ غالبيّة الاسرائيليّين لا يرون ولا يحبّون أن يروا سوى «مخاوفهم»، أمّا مخاوف الفلسطينيّين المشروعة من اغتصاب أرضهم، فلا شأن لهم بها في فلسطين المحتلّة، حيث يتمّ كما يبيّن يوآف ليتفين الحفاظ على «العلاقة بين الصهيونيّة واليهوديّة» بواسطة إعادة صياغة التاريخ وتحريفه باستمرار، وتوظيف ظاهرة مناهضة الساميّة الأوروبيّة وتأجيج المشاعر المعادية لليهود، والمحرقة التي أفضت إليها. ويخلص إلى أنّ هذه السياسة من شأنها أن تفضي في نهاية المطاف، إلى ضعف مفهوم «مناهضة الساميّة» في حشد الأنصار؛ إذ عندما يُنظر إلى كلّ الذين يعترضون على سياسة دولة الاحتلال على أنّهم مناهضون للساميّة، فما الذي سيتبقّى من هذه «الظاهرة». وهذا ما بدأ يحدث، ويتمهّد خاصّة بعد القرار التاريخي الذي اتّخذته المحكمة الجنائيّة الدوليّة. لكنّ اللافت أنّ «الخوف» أو «التخويف» من الآخر غير اليهودي الصهيوني، هو في إسرائيل صناعة الدولة منذ تأسيسها، وهو يشمل الإسرائيليّين واليهود عامّة؛ منذ 1948 إذ دعتهم إلى «العودة» الجماعيّة، من أجل «أمنهم» وحمايتهم من «مناهضة السامية» و«مناهضة نفوذ اليهود»؛ أي صناعة «الضحيّة الأبديّة» و«الآخر العدوّ الأبدي».
وهذه السياسة هي التي يسّرت ولا تزال لحكوماتها العدوانيّة الإقصائيّة التوسّعيّة المتعاقبة تبرير الإنفاق العسكري، وخوض الحرب. وهي التي تفسّر «شعبيّة» الأحزاب اليمينيّة والدينيّة والفاشيّة التي تهيمن الآن على دولة الاحتلال والإبادة. لكن بالرغم من نجاح الصهيونيّة في ربط اليهوديّة بالدولة وعنصريّتها، فإنّها فقدت القانون الأخلاقي الذي ما انفكّت تدّعيه، وهو المستمدّ، كما تزعم، من تعاليم التوراة والشريعة الموسويّة.

*كاتب من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    أجرأ مقالك ( سياسي ) قرأته لحضرتك.

  2. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
    خطابي هذا إلى القدس العربي، هو دفاع قوي عن قضية عمري، وهي العدل وحرية التعبير. والحمد لله، في اليونان ومصر معروف جيدًا أنني لا أخاف من قول ما أراه مبنيًا على العدل أولًا وحرية التعبير ثانيًا. سأدافع دائمًا عن المظلوم، وأقف في وجه الظالم، وأقول ما يملأ ضميري ويشعرني بأنني إنسان له كرامته وحريته.
    مشكلتي تكمن في حبي للوطن العربي عمومًا، ولبلدي مصر بشكل خاص. لكن القضية الفلسطينية تمزقني، وأنا في سن 82 عامًا، لا يسمح لي هذا الغضب والحزن الذي أشعر به كل صباح، من الساعة الرابعة صباحًا حتى الساعة العاشرة مساءً. من قتل وتدمير وخراب. مثلما أقرأ القدس العربي وأطالع صحفًا أخرى، لا أجد أي خبر مفرح لا في غزة ولا في لبنان. حتى وقف الحرب في لبنان، لا أثق في استدامته. والحرب الصليبية في عالمنا العربي على قدم وساق، ومنطقتنا مهددة بالكامل.

اشترك في قائمتنا البريدية