منصور الرحباني مسكونا بأسئلة وجودية، ووحيدا في ديوانه «أنا الغريب الآخر» الصادر عن دار النهار 2007، وهو الذي كان حاملا الاسم الثاني بعد أخيه عاصي الرحباني – كما صرح مرارا في مقابلاته ـ في الثنائية الرحبانية المُتناغمة قَلْبا وقالِبا «الأخويْن رحباني» بحيثُ لا يتأتى معرفة هوية مؤلف النص، الممهور باسميْهما والعصي على فك شيفرات مؤلفه. إنهُ موسيقارٌ من اللبنة الأولى، وملحن ومؤلف مسرحيات غنائية operetta، وشاعرٌ حداثي سباق، في كتابة صور شعرية فلسفية وجودية، تتعالق وسونيتات شكسبير في رسم الزمن «كل شيءٍ زائلْ/ عيناكِ/ والأطفالُ/ والقوافلْ/ الزهرُ لا يرجعُ مرتيْنْ» كما يتماهى منصور مع التناص الديني المسيحي، ويحرفُهُ ليوظفَهُ في سياقٍ شعري، واضعا اسم الحبيبة في علبة النذور داخل الكنيسة، عوض المتبع من الفضة والذهب، تعبيرا عن صفر اليديْن في المجوهرات، وتمردا على الناموس الثابت، وتمجيدا للحبيبة «جاؤوا من الظهيرهْ/ فدخلوا الكنيسهْ/ وركعوا وصلوا/ وقدموا نُذورهمْ/ وأحرقوا البخورْ/ إلا أنا!/لا فضةَ ولا ذهبا/ كانَ معي اسمكِ/ وضعْتُهُ في علبةِ النذور» والمرأة الحبيبة الغريبة في أشعاره، حين يكتب اسمها على الأجراس، يصبح رنينُ الأجراس أحلى بشهادة راهبة.
أنا الغريبُ الآخرُ
يشي العنوان الثلاثي للديوان «أنا الغريبُ الآخرُ» بشعر ذاتي، متكئٍ على أنا المبتدأ، والغريبُ الخبرُ والآخرُ النعتُ. هذه القارورة الشعرية، تسكبُ طيبَ كلامٍ تضوعَ بين الأعوام 1965 و1977، مَنْتجتُهُ غريبةٌ، فقد طُبع الديوان بلا فهرسة، ودون ترقيم صفحات، إيغالا في التجريب، وترميزا للوصل بين الـ27 قصيدة اللامتناهية، التي تحمل عناوينَ مختلفة، والمُزدانة برسمة فحمية متكررة (لازمة) ثُلثاها غيومٌ سوداءُ تفتر عن شمسٍ غائبة، وثُلثُها الباقي بحرٌ أزرقُ.
منصور الرحباني في «أنا الغريبُ الآخرُ» مُحترفا الغربة المكانية والزمانية، بصور سريالية كما يبوح في (امرأة الليل) «في بيتنا/ ترتعشُ المسافهْ/ تستوطنُ الأبعادْ/ ما بينَ كرسيين فيهْ/ نهرٌ/ وغاباتُ/ وعمرٌ ضائعٌ يسافرْ/ فللثواني خبَبُ الوحشِ/ وللصمتِ/ على العنقِ أظافرْ» هل يتماهى مع امرئ القيس الذي ماتَ غريبا والقائل: «أجارَتَنا إنا غريبانِ ها هُنا / وكل غريبٍ للغريبِ قريبُ/.. وليسَ غريبا مَنْ تناءَتْ ديارُهُ/ لكنْ مَنْ وارى الترابَ غريبُ».
تفتتحُ الديوانَ قصيدةٌ تصويرية سوداوية، بلا عُنوان، كتبت مع إطلالة عام 1970 مقترنة برسمة – وليس كلمة ـ لأفق شاحب، القسم الأعلى منها والذي يشكل غالبيتها لونه أسودُ فاحم، والنزر الباقي أزرق، وهذه الصورة الشاعرية مطبوعة من جهتيْ الورقة، والشمس في القسم الأعلى بيضاء وسط سواد طاغٍ، إيذانا بالفناء. لغة القصيدة مائية مبنية بالتثليث الرومانسي، وهي مسكونة بثنائية الأنا والآخر، فهناك غريبان الأنا الشاعرة والمرأة، بين ثُلاثية من الآخر: غريب آخر وعام آخر ومكان آخر. كما تتكئ القصيدة، على ثلاثية الزمن والموت والغربة «حين رنين الساعة / يعلنُ أن بعض ما نحنُ/ يموتُ نصفَ الليلْ/ وتُطفأُ الأنوارُ/ نصفَ الليلْ». مناخ القصيدة حزين وتراجيدي، السفن في الميناء، تتشح بالسواد والعويل، حُزنا على رحيل عام غرقا. بعد انتهاء سنة وبداية سنة جديدة، تُطفأ الأنوار وتُطفأ الوجوه والأسماء.. يطلب من امرأة غريبة أن تتذكرُهُ (تذكريني../ يا امرأة غريبة، إلا معي غريبة/ يا امرأة../ تسهر في عيني/ وفي مكان آخر/ تذكريني../ أنا../ الغريب الآخر). والشاعر الغريبُ، يحب مجالسة الغرباء
حيثُ لا يحزنُ لرحيلهم، «أحب أن أجالس الأغراب لأنهم يمضون/ لا يتركون حزنهم».
الزمن الهارب وتمجيد الحياة
منصور الرحباني مُحتفيا بالحب (يا حبيبي- 1970) يُمَوْسِقُ نداء الحبيبة المُقيمة في عينَيْ الحبيب بصور بحرية «يا حبيبي / كل ما في الصمتِ نادى/ ومضى الموجُ وعادا/ وأنا في موجِ عينَيْكَ/ شراعٌ يتهادى/ سقطَ الليل عليا../ وتمادى/ كادَ أنْ يجعلني الليلُ سوادا/ يا حبيبي..» والحبيبة مسكونةٌ بالقلق والخوف من هروبِ العمر والتلاشي، لذا تتمسك بشغف، بتلابيب الزمن للقاء الحبيب « فتعالْ/ قبل أن ينهزم الليلُ/…/ قبل أن أغدو محالْ/ قبل أن أهربَ من عَيْنَيْ حبيبي/ يا حبيبي» كما أن الحبيب واعٍ لهروب العمر، فعبثا يتمنى أن يؤجل الموتَ ليسكنَ في عَيْنَيْها يوما آخر «لوْ كانَ لي / أؤجلُ الذهابَ يا صديقتي/ أسكنُ في عيْنَيْكِ يوما آخرْ/ يجمعُنا المكانُ يوما آخرْ/ ننسى..». ويبدعُ الشاعر في استحداث صورة شعريةٍ أرساها الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد بقوله «لعمرُكَ! ما الأيامُ إلا مُعارةٌ» في تمني تسول الزمن، ليعيشَ أكثرَ وليهربَ من الزوال «أواهُ يا صديقتي/ لوْ أن للزمانِ أدراجا/ لوْ أن للأيامِ أبوابا/أجلسُ/أستعطي عليها/ أشحدُ ساعاتٍ/ هُنيهاتٍ/ ألُم الزمنَ المُحالَ/لأختبي فيهِ/ ولوْ حينا /من الزوال». لكنه يعرفُ في قرارة نفسهِ، أنهُ من المُحال مراوغة الزمن وهزمه، كما في (اعترافات في بار البيكادللي) «كي لا يجيء الوقتْ/ جعلتُ حُراسا على المداخلْ/ أوصدتُ أبوابي/ كسرْتُ في بيتي المرايا /حَبسْتُني في الداخلْ لكنني ما زلتْ / أكبرُ في الداخلْ/ أنهارُ في الداخلْ». كأنهُ يختفي وراء قناع الشاعر الجاهلي الحارث بن عباد، بما قال في حرب البسوس «كل شيءٍ مصيرُهُ للزوالِ/ غيرَ ربي وصالح الأعمالِ».
القصيدة الوجيعة في الحرب الأهلية
في الديوان صورٌ ومشاهدُ تراجيديةٌ، مؤرخة زمن الحرب الأهلية اللبنانية حيثُ الرصاصُ مثل زخات المطر، منها «مطر الرصاص» (1977) المتماهية مع مسرحية «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت، في انتظار مَنْ لا يأتي تعبيرا عن الفقدان والقتل واليأس «مَن تطلبينَ لم يَعُدْ هنا/ يعود؟/ لا ندري متى يعودْ/ قدْ رحلتْ أشياؤهُ الثمينهْ/ ضحكتُهُ الحزينهْ/ فانتظري/ مسيحَ عينَيْكِ الذي/ يأتي إلى قيامةِ المدينهْ».
كما أن الوطن منهارٌ، فالمدينةُ ميتة، وصور القنابل والحواجز والجنود والقناصة هي المُهيمنة، «ما بينَنا/ الرجالُ والحواجزْ/ ما بيننا/ يزوبعُ القناص» كما أن وجه الحبيبة المنهار يحمل وجه الوطن «رأيْتُهُ وجهَكِ/ تحتَ رايةٍ مُنهارةٍ / يا أنتِ/ يا وطني المُنهارْ».
المرأة الفرح
يحتفي الشاعر بالمرأة عامة ويخبئها في قلبه شُعاعا للفرح، ويصبغها بالقداسة والعجائبية، وهي الملاذُ، كما أنهُ يريدُ العيشَ وتأجيل الموت ليسكنَ في عيْنيْها أكثر، ففي (امرأة البراءة) يبوح بهويتها الكونية «امرأة لا اسم لها/ امرأة سرقتها/ هربت كالنوم بها/ خبأتها في لعب الطفولة/ خبأتها في قلبي/ خبأت فيها قلبي/ يا فرحا يعصف بي/ يا حبي». لكن هذه المرأة الرمز، تسترد اسمها في ما بعد، وتكبرُ في عينَيْهِ أكثر، لتغدو نُسغَ الحياة ومحفز البقاء والديمومة: «كتبته اسمك../ على شبابيك النحاس الأبيض/ على البحيرات التي يولد فيها فرح الأطفال/ على الثمار والنبيذ والخبز كتبته/ لأجل أن يؤكل مثل الخبز/ لأجل أن يشتاقه من هم بلا رجاء/ من هم بلا خبز/ غير أسماء» وفي قصيدة (قُبل) يتجمدُ ويقفُ الزمان في قبلة
من شفتيْها «أهاجرُ في شفتيْكِ وأنسى/ كتابَ حياتي/../تجمعَ في قُبْلتيْنِ الزمانْ/ فلا هو ماضٍ/ ولا هو آتٍ». والمرأة في قاموسه الشعري هي والحياة سيان، بل إن الحياة منوطةٌ بها ومُشتهاةٌ لأجلها.
كاتب فلسطيني
العزيز الدكتور سمير،
مقالك هذا يدلّ على “موسوعيّة” معلوماتك وعلى أفق بحثيّ عميق، إذ تنقّلت بِنَا وبحرفيّة عالية من امرئ القيس مرورًا بطرفة بن العبد لغاية صموئيل بيكيت. إلى جانب إبراز جانب أساسيّ من مصادر الشعر لدى الرحابنة ألا وهو الموروث المسيحيّ.
شدّتني في مقالك جزئيّة جوّ الوحدة والغربة ما قبل الموت لدى منصور الرحباني، تلك الغربة التي شعر بها امرؤ القيس بجانب جبل عسيب.
اضع قطرة واحدة فقط تحت ظل هد ا الموضوع الفني الثقافي الجامع لكن ادا سمحثم وكدالك كاتب السطور المحنرم شكرا لكم وله كدالك قلنا الموضوع بلغة الفن وبلغة الثقافة وبلغة الموسيقى وبلغة الشعر هد ا لاخير واضح بوجود شاعر متميز عن الشعراء عاش حياة مختلفة بعض الشيء فامرئ قيس من احسن الشعراء وأسبقهم كدالك بين قوسين يتميز شعر امرئ القيس عن غيره من الشّعراء العرب بقدرته على ابتكار المعاني، والتّعبير عنها بطرق لم يسبقه أحدٌ إليها، فقد كانت بداية شعر الغزل على يديه، فأكثر في الوصف فيه وأبدع في التّصوير والتّشبيه، كما كان شعره صورة واضحةً عن حياته
كانت قراءة ممتعة في ظل هذه السياحة الجميلة في فضاءات النص و المعرفة الموسوعية للشعر …لشاعر حتى السطر الاخير ….تحياتي دكتور سمير لهذا الانتقاء و العرض الشيق بلغة جميلة أنيقة