قطعت الرواية العربية أشواطا عدة لوصولها للمكانة التي تتبوأها الآن، وتربعها على عرش الأجناس الأدبية، علما أن ظهورها سابق للتنظير والتأصيل مع المنظرين الغربيين الأوائل (جورج لوكاتش، ميخائيل باختين)، وذلك راجع لعدة عوامل وتحولات عاشتها، وما زالت تعيشها معظم المجتمعات الإنسانية، سواء الغربية منها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفقدان للإنسان الأوروبي كرامته وإنسانيته وثقته في السياسة، وعند العرب بدرجة أخص، نظرا لتعدد واختلاف حدة الأوضاع السياسية والاجتماعية التي بدأت شرارتها منذ سنة 1948، سنة نكبة فلسطين التي سترتفع حرارتها مع النكسة والاستعمار وحرب أكتوبر/تشرين الأول، ولا شك أن الأدب في شخص الرواية متأثر بهذه التحولات ما سيغير من بنيته شكلا ومضمونا، وجعل من هذه التحولات منطلقا للتحول، فما مظاهر التحول السردي في الخطاب الروائي التجريبي المعاصر؟ وإلى أي حد حاول تكسير قواعد نظام السرد الكلاسيكي؟
عبد الكريم غلاب
سنحاول من خلال مقالتنا هذه رصد أهم مظاهر وتجليات التغيير الذي لحق الخطاب الروائي العربي، في ما بات يصطلح عليه بالتجريب الروائي الذي يعتبر، حسب صلاح فضل «قرين الإبداع لأنه يتمثل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة»، وهذه الأساليب مست أساسا نمط الحكاية، وطبيعة اللغة وحضور الزمن والمكان، ثم خطية السرد والحوار، وأخيرا الشخصيات وطريقة حضورها، وغيرها من التقنيات، التي تؤسس منطق الحكي، فضلا عن العوالم الدلالية وتنوع مرجعيات النص الروائي، التي تتشكل تارة من المذكرات والسيرة الذاتية والمقامة والرسائل، الضاربة جذورها في تاريخ التراث الشعبي، وتارة أخرى من الواقع وقضاياه وتناقضاته التي تختلف درجتها، حسب كل مجتمع على حدة، وهو الأمر الذي سيؤثر في شكل الكتابة ومنظومة السرد، من خلال إدراج ذات المؤلف لإعادة تأمل أفكاره ومساره، زمن مكاشفة ومواجهة الذات ومحاكمتها لتصريف أفكاره، ومن ثمة ظهر تعدد الساردين بتنوع الأفكار وأنماط الوعي والتغييرات التي يعيشها، بدل تحكم السارد في مسار الحكاية التي كانت أفقية تتميز بهيمنة ضمير الغائب، واعتماد السارد الكلي للمعرفة والاهتمام الكلي بالحمولة الروائية، أما الشخصيات فقد كانت شخصيات نمطية تكون تمثيلا لفئات اجتماعية داخل المجتمع، وتلازمها صفات كالاسم الشخصي والوصف الداخلي والخارجي، وهي شخصيات تدخل إلى النص السردي بامتلاء دلالي وهي تكون إما تاريخية أو أسطورية أو واقعية محضة، وهذه الشخصايت يختارها الروائي بناء على طبيعة الصراع القائم بين تلك الشرائح، كونها تعكس في جوهرها تيارا فكريا، كما عبر ميشال بوتور بأن الرواية «تعبير عن مجتمع يتحول، وتصبح أيضا تعبيرا عن الوعي بالتغيير». أما النسبة للمكان فكان لا يتعدى وظيفته البعد الفضائي، إذ يحضر بشكل مفصل عبر تقنية الوصف ويكون واقعيا بأوصاف المدن والأزقة والشوارع، الأمر نفسه نلمسه في الزمان، كونه زمنا كرنولوجيا مستقبليا لأن النص الروائي الكلاسيكي عبارة عن حكاية، والحكاية تقوم على الانسجام والتطور، هذا على مستوى الخطاب الروائي الكلاسيكي الذي جسدته مجموعة من المؤلفات حملت مشعل بدايات التأليف الروائي مع نجيب محفوظ، حسين هيكل، أحمد أمين، محمد زفزاف، مبارك ربيع، محمد شكري، عبد الكريم غلاب، عبد المجيد بن جلون وآخرين.
غسان كنفاني
أما إذا ما عرجنا صوب مظاهر ومواطن التحول السردي في الرواية التجربية، فنلمس هذا التمايز بدءا بالعنوان الذي كان بطاقة هوية لتحديد مضمون الرواية الكلاسيكية، كالعناوين الموضوعاتية، ما يجعله يؤدي وظيفتين، حسب رولان بارت، وهما وظيفة الإرساء أو الترسيخ ووظيفة الوصل، في حين أن دوره اقتصر على التعتيم الدلالي وإذكاء الغموض لدى المتلقي، فضلا عن أنه لا يمثل أبدا مضمون الرواية، كما نجد أن هناك تكسيرا لبنية السرد، فعلى مستوى الحكاية أضحت متشظية ومجزأة من خلال التقطيع الذي يعرفه النص، إلى متواليات لا يرتبط بعضها ببعض، إلا التجاور النصي أو الفضائي، بالإضافة إلى تقليص حضور السارد الكلي للمعرفة، وتكسير خط السرد عبر توظيف الأحلام والكوابيس، وعنصر التخييل الذي يستدعي تنويع الرؤى السردية، ثم تنويع المحكيات، ما يجعل القارئ والمتلقي ينتقل من مجرد مستقبل إلى مشارك رسمي، وظيفته إعادة ترتيب القصة وجمع شتاتها ولم شملها، وهنا بالذات تبرز لنا أهمية ودور نظرية التلقي الألمانية مع ياوس وايزر، التي جعلت القارئ يتفاعل مع العمل الأدبي، في إطار استراتيجي الإنتاج والتلقي مع جون مولينوفي، فضلا عن إسهامها بشكل أو بآخر لتطور حقول معرفية متعددة أهمها: التفكيكية التي تدعو إلى إعادة القراءة وتشييد المعنى، ثم سيميائيات كريماص، وبرس، وأمبرتو إيكو، وفي هذا الصدد يقول يوري لوتمان «إن النص الفني يقدم معلومات مختلفة لقراء مختلفين، كل حسب فهمه، كما أنه أيضا يقدم للقارئ لغة يستوعب من خلالها الجزء الموالي من المعلومات خلال القراءة الثانية».
صلاح فضل
وهذه اللغة أيضا شكلت مدار بحث مضن في إطار اللسانيات الخطابية أو السردية، ليس باعتبارها لغة مختزلة في مفاهيم ومصطلحات ومفردات وحسب، وإنما في كونها وعاء حاملا لأنساق فكرية وحضارية، تمثل تعبيرا عن عادات وتقاليد جماعة مختلفة التوجهات والوضعيات الاجتماعية، ما أكد على ضرورة تعدد الأصوات والشخصيات، بتنوع أنماط وعيها، التي أشار إليها ميخائيل باختين، ومن ثمة تعدد الساردين الذين ساهموا في تشظي منظور الحكاية وتفكيكها، ما نتج عنه سرد عمودي بدل الأفقي المهين في الخطاب الروائي الكلاسيكي، لا سيما أن الروائي التجريبي عرف بهمينته لعناصر التكثيف الدلالي والتعبيري، وحضور تقنيات كانت غائبة سابقا مثل (التناص، المسرحة، التقعير، الاسترجاع، الاستباق، التغريب، الإيجاز، العجائبية، تداخل الأزمنة)، ما سمح بالتقاء النصوص السردية وانفتاح الرواية على باقي الأجناس الأدبية، إلى حد حاول البعض تغيير اسم الرواية إلى المحكي، أو المحكيات، فضلا عن التقائها بشكل خاص بالسير ذاتي عن طريق الجمع بين ضمير الغائب والمتكلم، والتعبير عن الفرد بدل الجماعة وغيرها، كما هو الأمر بالنسبة لنص عز الدين التازي «امرأة من ماء»، وبالنظر للشخصيات نجدها لم تعد مختزلة قيمتها السردية في الفرد الإنساني، بل تجاوزت ذلك لتشمل عناصر الطبيعة، بما يسمى بألسنة الطبيعة، أو تشخيص الجمادات، كما الشأن بالنسبة لرواية «ما تبقى لكم» للكاتب غسان كنفاني الذي وظف (الصحراء، الساعة) كشخصيات لعبت دورا مهما في بناء الحكاية، التي تتحدد من موقعها السردي (ذاتا، موضوعا، معيقا، مساعدا)، وتكون هذه الشخصيات متناقضة وقلقة تشوبها الحيرة، وما يعبر عن ذلك في النص الروائي الجديد هو المحكي النفسي، واعتماد الحوار الداخلي الذي يستلزم حكيا بضمير المتكلم والارتباط بالعوالم الداخلية للشخصية، كشخصيات وحيدة نتيجة صراع قائم مع نفسها من جهة، ومع العالم الخارجي من جهة أخرى، ولا وجود لشخصيات رئيسة وأخرى ثانوية في النص الحديث، أمام غياب أوصافها إلا مع بعض الإشارات التي تزكي الغموض لدى القارئ إذ حتى الاسم العائلي الذي عبّر عنه آرت بأنه سيد الدوال ينتفي في معظم النصوص التجربية، إلى جانب أنها قد تغيب وتحضر بدون أن يؤثر ذلك في سيرورة السرد، في حين أن المكان نجده إلى حد ما ظل محافظا على ما هو عليه، إلا مع بعض التغييرات أهمها التناقض والتعدد واختلاف دلالته ورموزه بين الفرح والحزن والوحدة والهجرة، وعموما أمكننا القول أن الفضاء الروائي لم يحظ من أبحاث النقاد بنص وافر من الأهمية، علما بأنه يلعب دورا مهما في التأثير على الحكاية وبنائها « فالمكان يكون منظما بالدقة نفسها التي نظمت بها العناصر الأخرى في الرواية، لذلك فهو يؤثر فيها ويقوي من نفوذها كما يعبر عن مقاصد المؤلف»، فالمكان في الخطاب الروائي التجريبي غالبا ما يكون مكانا عدوانيا يشي بالاختلاف، أما الزمان فهو غامض ومبهم ينعدم فيه التطور الكرنولوجي للأحداث، لأن الحكاية فقدت انسجامها وتماسكها، ويتضح كل ذلك من خلال المفارقات الزمنية، سواء أكانت استرجاعا أو استباقا بنوعيهما الداخلي والخارجي، التي تحدد في العمق الفرق الجوهري بين القصة والخطاب، فعلى سبيل المثال فالسرد الاسترجاعي يمنح «أفقا للشخصيات كي تستعيد ماضيها، وتستدعي ذاكرتها، بما يهيئ للقصة أن تتطور، وللقارئ أن يشيد العوالم والشخوص، ويرمم ثقوب الحكي ويتعرف على أسباب تموقع الفواعل في الهنا، والآن…. ويحرر ذات الرواة في علاقتهم بالزمان والمكان». وبالانتقال إلى المضمون نجده هو الآخر لم يسلم من هذا التغيير، إذ أضحت النصوص التجربية تستمد شرعيتها واستمراريتها من التحولات السوسيواجتماعية والفكرية والسياسية التي يعرفها المجتمع، بل أضحت تغذي وتخصب نظام السرد الروائي بأشكال من الوعي والرؤى، ويمكن ذكر على سبيل المثال لا الحصر مجموعة من الأقلام العربية التي استجابت نصوصهم لهذا الاتجاه وهم: غسان كنفاني، واسيني الأعرج، طارق بكاري، ياسين عدنان، محمد برادة، الميلودي شغموم، حسن أوريد، محمد بنميلود، أحمد المديني، صنع الله إبراهيم وغيرهم.
عموما شهدت الرواية العربية المعاصرة جملة من التحولات مست الشكل والمضمون، ما يتحتم على النقد الروائي المعاصر مواكبة هذه التغييرات، عبر تجديد علاقته بالإبداع الروائي وتطوير طرائق اشتغاله، وتوظيف مناهج معاصرة تستجيب لخصوصية الإبداع العربي وإدراك كهنه، وعلى الرغم من تطور هذه التجربة إلا أنها حسب سعيد بنكراد «مازالت في حاجة إلى رعاية وتقويم من خلال تسييجها بكل الضمانات الفنية والفكرية حماية لها من الترهل المبكر أو السقوط في أحضان عفوية سردية قد توهم كل من يحكي وقائع أنه يكتب رواية».
٭ كاتب مغربي