لكي تكون البطولة خالدة كان عليها أن تتجسد في كلمة أو حجر. بقيت دماء المحاربين على الأحجار والأتربة والحصى وضفاف الأنهر، كما بقيت تتدفق في المراثي والمناحات والأغاني الحزينة.
كان المنفى يتقلص باتساع الوطن.. والغزوات التي كانت تعبر حدود دويلات المدن، كانت تفتح الطريق لنمو امبراطوريات، المنفى فيها أبعد من أن تعبر حدوده قدم إنسان، حتى الثغور أصبحت أوطانا بالتقادم. وغلغامش الذي اصطحب صديقه أنكيدو إلى غابة الأرز اضطرا أن يعبرا البحر ليقتلا خمبابا الرهيب. هل كان هذا الوحش، خمبابا، رمزا للمنفى؟ فبعد أن قتلاه عادا إلى الوطن.. وبعد أن مات انكيدو بكاه غلغامش عبر الحدود هذه المرة بحثا عن الخلود. خاض في مياه الموت ليصل إلى جده أوتونابشتم ليسأله عن عشبة الخلود، وحين أراد العودة إلى الوطن حمل معه عشبة الخلود، لكنه قبيل أن يصل الأرض التي ولد عليها فقد العشبة إلى الأبد. فالخلود هو العودة إلى الوطن والإقامة فيه.
ملحمة غلغامش كانت ضد المنفى، لم تنس الملحمة أن توصي غلغامش بنفسه وبلاده على لسان سيدوري صاحبة الحانة، التي في الطريق. كان المنفى إذن ضد الكتابة، كما كان الموت ضد الخلود. ولو لم يكن أبو فراس الحمداني أسيرا لدى الروم ما كان شعر بغربته وهو يسمع نوح الحمام في المنفى، بعد أن كان هديلا في الوطن :
أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
المنفى ليس مسرحا للمغامرة بقدر ما هو مسرح للآلام، والكتابة في المنفى هي كتابة عن صناعة الآلام وتطورها، وإذا كان البعض يعتقد أن هناك مفهوما يسمى «أدب المنفى» فهذا الاعتقاد ليس أكثر من توصيف عشوائي لأثر المكان. فالفلسطيني مثلا لا يعيش في المنفى، وإنما في وطن مشتت يكتب عن أجزائه لتجتمع، الكاتب ليس كاتبا بالمكان، والمكان المتحول في الخريطة هو قبل ذلك مكان دائم التحول في الكتابة، وإذا كان المتنبي قد حول الأمكنة شعريا فإنه فعل ذلك لأنه كان يشعر بأن الأمكنة تتحول دائما في الكتابة، وأمكنته كلها لم تكن مكانا له، ولذلك فقد نفى المنفى في الكتابة :
وخالفت قوما فارقوني فشرقوا وغربت أني قد ظفرت وخابوا
لكنه كان يكذب من أجل ممدوحه، فقد خاب هو الآخر لأنه حاول جعل الأمكنة مكانا خارج الكتابة. أما امرؤ القيس فقد صعّد حدود الجزيرة إلى الروم، ليعود إلى المكان الذي قتل فيه أبوه، لكنه لم يعد، وظل مقيما قرب جبل عسيب مؤشرا على تحول الأمكنة الدائم في الكتابة :
أجارتنا أنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيبُ
المكان لعب الدور الأبرز في الشعر الجاهلي، وكان أثره تعبيريا حادا. كل طلل، وكل دمنة، وكل فَيْفاة كانت تتحول في الكتابة. والوقوف على الأطلال نوع من الكتابة، الكاتب هو الكاتب بالمكان ولا اثر للكتابة دون المكان.
يتوسع المنفى ويضيق كما تتوسع وتضيق رئة بفعل الهواء، الذين يصطلحون باستمرار بحثا عن تمايزات بين أدب وطن وأدب منفى لن يجدوا في اصطلاحاتهم أثرا لرائحة متبخرة فأدب المنفى المقصود هو خطأ ذهني، لأنه يكتب بعقل الوطن وقلبه. إذا كان للمنفى أدب ما فليس أكثر من أن يكون مثل هذا الأدب محمولا في صناديق، كما تحمل البضاعة في مثلها. المنفى كائن داخل الكتابة، وإذا حررته من داخلها سيتحول إلى اصطلاح خاو نختلف على مقدار ترديد موجاته الصوتية.
بفعل الأمكنة المتغيرة في الأرض، قايض رامبو الشعر بتجارة الأسلحة في الحبشة واليمن. لكن بفعل الأمكنة المتغيرة في الكتابة نطق كفافي بالمعنى التالي
«إن أنت خربت حياتك في هذا الركن الصغير من العالم. فهي خراب أينما حللت».
لكل شاعر وكاتب منفاه. الخناجر والطعنات نفسها ترحل معك حيثما ذهبت. المنفى يرحل معك إلى منفاك بكل خرابه الذي كان في الوطن. أشعر بأنني في منفى داخل منفى داخل منفى مثل صناديق ألعاب السحر، الذين صنعوا لنا منفانا يصنعون من وجودهم فيه منفى آخر لنا. أشعر مثل شعور سبارتكوس الذي كان يقاد إلى المكان الذي يقتل فيه عبر طريق طويل طويل من جثث رفاقه المعلقة على الجانبين.
حين كانت الكتابة في الوطن تتحدث عن منفى فيه، صارت الكتابة تتحدث منفية عن وطن. في مثل هذه الكتابة تتجمد المواد والأشياء والأشكال ويتجمد البشر. الريح الباردة لفجر كانوني تجمدت هي الأخرى، كما تجمدت تلك المرأة في ذلك الفجر في الضوء الرمادي وظلت إلى اليوم :
على هيئةِ تمثالٍ من العذابْ
تركتها راكعةً فوق رصيفِ الدارْ
لربما ظلتْ على هيئتِها تلك إلى الآنَ،
يراها الجارْ
وربما شكا هيئتَها، تلكَ
إلى الوالي
فتمَّ نقلُها لمتحفِ الآثارْ
هل هناك منفى أوسع من تحجر كل ما هو في الوطن ليبقى كما تركته، وأنت بعيد عنه. تحاول أن تمسك بروح الأشياء التي غادرتها وتركتها، ولا تريد تحويلها إلى اصطلاح. لكن ها هي الأشياء والمواد والبشر تتحول إلى اصطلاحات هنا وهناك. كأن الأيديولوجيا قدرنا، منفانا. كأن التاريخ المكرر غل في أعناقنا. كأنهم هم، في الوطن والمنفى، من يشق صدرك بكسرة من زجاج.
الكتابة أشلاء. شلو في وطن. وشلو في منفى. وشلو آخر جاف ويابس يتفسخ. أراه في بعض الليالي صاعدا سلم الأسوار الحجرية ليقف في الأعلى. ناظرا إلى كل الجهات، مبتسما شاعرا بالفرح والخوف وهو يتمتم: لقد أخذت كل هذا الوطن.
شاعر عراقي