وُظِف الحيوان في المرويات التراثية كثيراً، ولم يكن الغرض في العموم الدفاع عن هذا الكائن، بل هو التخييل المحض في التعبير عن حاجات الإنسان الحياتية المختلفة. وقد عبّرت الحكاية الخرافية عن الحاجات الإنسانية بشكل مباشر؛ فإشباع الحاجة يعني القدرة على البقاء على قيد الحياة عبر مغالبة الواقع والتنبؤ بما هو آت من وراء المجهول. وهو ما تدل عليه الحكايات السومرية، ومنها الحكاية التي تسرد كيف نشر الإله «أنكي» الحظائر وعيّن لها الرعاة، ورسم أدوار كل حيوان من الحيوانات الأليفة والوحشية، وزوّد المستنقعات بالطيور والأسماك، وجعل منها غذاء كل ما هو حي. ودون هذا الإله: (لن تلد البقرات في الزريبة/ وفي الحظيرة لن تضع النعجات حملانها/ والبشرية هذه الجموع العاجة لن تستمر/ولن تسعى الحيوانات المفترسة ورباعيات القوائم/ على إطعام صغارها/ ولن تقبل حتى التسافد في ما بينها).
ويسرد نص آخر قصة السماء والأرض، وكيف جعلت الآلهة الحيوانات تظهر إلى الوجود (عندما قام الآلهة المجتمعون في مجلسهم/ بتكوين السماء والأرض/ وتشييد القبة الزرقاء وتثبيت التربة/ أظهروا إلى الوجود الحيوانات/ الحيوانات الوحشية والحيوانات البرية).
واستمر الحال على هذا المنوال في تصوير الحيوان حتى اضمحلت المباشرة تدريجياً، وحلت محلها الرمزية، وغدا سرد الحيوان محملاً بشيفرات رمزية ومحمولات شعرية، فيها دلالات مجازية كبيرة. مما نجد أمثلته على طول العصور الأدبية وصولا إلى كتابة القصة القصيرة والرواية. والنماذج العالمية في هذا المجال محددة ومعروفة. وأغراضها أيديولوجية، وفيها تكون للشخصية الحيوانية مركزية داخل البناء الفني وهي مؤنسنة بالعموم كما في رواية «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل و»التحول» لفرانتز كافكا، وفيها المكان ضيق ومغلق وليلي، يضغط بشدة على كريكور سامسا فيفقد إحساسه بإنسانيته. ودون سابق إنذار يجد نفسه في الصباح وقد صار حشرة هائلة الحجم، وعليه أن يواجه العالم بهذه الصورة الحيوانية.
وفي ما يخص السرد العربي المعاصر، فإن قلة من الكتّاب سعوا إلى توظيف الحيوان رمزياً، ومن هؤلاء سركون بولص في قصته «قطار الصباح» وتدور حول سارد ذاتي لا يكشف عن نفسه إلا في شكل ظل يسقط على السقف هو عبارة عن كلب. واستعمل القاص طريقة المونولوج غير المباشر لجعل الحيوان ناطقاً في حين استعمل الحوار المباشر للشخصية الآدمية. وهو ما أعطى للتداعي الحر مركزية، وجعل الحيوان فاعلاً سردياً كما أن استعمال التوليف السينمائي أضفى واقعية على الحدث القصصي الذي فيه يتمازج الشكل البشري بالحيواني (قلت له: اضحك.. وكان ينظر إليّ) وتتكرر الجملة أكثر من خمس مرات خلال ستة سطور، وتتصاعد الحبكة وقد صار الكلب هو السارد الذاتي: (وخطر لي أن أهرب كانت حاسة نشيطة للركض تتأكلني) ثم يعود السارد الآدمي للقول: (لقد نظر إليَّ كان خاصا جدا ذا عينين كالفلفل مثلما قلت، ولسان يقترب من طول ذراع، مقطوع يتدلى إلى حافة الماء.. وركزت على لسانه، بدا كجزء من أخطبوط مسلوخ، يرتعش في الظل. ولم انتبه إلى أنني في العراء وسط الكلاب) والمفارقة أنّ جمع الكلاب الذي يراه، لم يثر خوفه بقدر ما أخافه هذا الكلب (لأنه كان يريدني، لأنه عرفني، لأنه رآني أخرج إلى العراء من القلب القذر للمدينة، من الدائرة ذات النافذة الواحدة). وتنفرج الحبكة وقد التقط السارد حجرا صقيلا، ووضعه في أصابعه، فنظر إليه الكلب وهو (يعوي من أغواره المائعة) وبالمونتاج الزماني يتوقف المكان، ويصير العالم كله ضيقا، وقد تحول إلى مخالب وأصوات ونظرات وارتعاشات.
ويخترق المشهد مونولوج صامت، يسترجع السارد من خلاله زمناً كان ينقذف في القتال، فيحتشد الناس حوله، وقد أشرف على الهاوية وصار مذعورا، ثم يعود السرد إلى الكلب، وقد عاد إلى الناس الذين عرفهم والكلبة التي أحبها. وحين علم أنها تخونه، أراد قتلها لكنها هربت بقطار الصباح مع غريم قوي. وبهذا الشكل من المتخيل الحيواني أصبح الكلب معادلاً موضوعياً للإنسان المهزوم الذي يرى في داخله وضاعة حاله. ولقد برع سركون بولص في توظيف تيار الوعي داخل القصة القصيرة، وهو أمر قلما نجده عند القصاصين العرب، إذ الغالب هو استعمال تيار الوعي في الرواية بالعموم. وثمة شكل آخر للمتخيل الحيواني يقوم على توظيف الاستحالة في السرد؛ لا من ناحية خرق المألوف بما هو غير مألوف عبر توظيف أساليب التغريب والعجيب والفنتازيا. فهذه كلها المقصود منها الواقع، بل المقصود بالاستحالة اللاطبيعية في توظيف ما لا يتوافق مع العقل والمنطق عبر استراتيجيات وسيناريوهات مستحيلة واقعياً، لكنها محتملة سردياً.
وسواء أكان الحيوان ساردا أم كان مسرودا، فإن فواعل السرد غير الواقعي هما الإنسان والحيوان في ما يشعران به من عواطف وأفكار وما يمران به من أزمات ومشكلات. وعادة ما تكون الشخصية الحيوانية غير مؤنسنة كما في قصة «الهجين) لكافكا وفيها تربط السارد الذاتي علاقة حميمة بحيوان هجين نصفه قط ونصفه حمل، لكنه أليف يشارك أفراد العائلة بيتهم الصغير. ومن شدة تعلق السارد به أصبح قادرا على فهم طباع الكائن والشعور بما يشعر به تجاهه من حب وكره (إنه فرد من العائلة، ينتمي بالفعل للعائلة التي نشأ وسطها. هذا ليس بإخلاص عادي، لكنها الغريزة الطبيعية للحيوان. يرجع تاريخه لأسلاف عديدة، لكنه ربما لا يمت بصلة لأي منهم، مما يجعل وجوده في بيتنا حماية له). وتراود السارد فكرة التخلص من الحيوان بسكين الجزار، لكنه يطرد الفكرة التي أشعرته بالألم، ويستبدلها بفكرة مغايرة وهي أن ينتظر حتى يلفظ الكائن نَفَسَه الأخير في إشارة رمزية إلى حالة التصالح والسلام بين الإنسان والحيوان. ويؤدي المكان دوراً سلبياً في قصة (أقصوصة خرافية) لكافكا أيضا، فيكون ـ أي المكان- سبباً في هلاك الفأر بسبب ضيق المساحة التي يتحرك فيها. وما كان له من مخرج سوى أن يتجه إلى المصيدة. والمفارقة أن القط اقترح عليه أن يغير حركته. وما أن قال الجملة حتى افترس الفأر، في إشارة إلى ضآلة الفرص المتاحة أمام الإنسان المعاصر في مواجهة الحياة والتغلب عليها. وفي قصة (النسر) للكاتب نفسه يتمركز النسر فاعلاً سردياً ينهش قدم السارد الذاتي، حتى إذا عرف النسر بما يدبره له الإنسان من مكيدة، غرز منقاره في فم السارد. والمفارقة أن الأخير شعر بالتحرر في حين غرق النسر بدمائه وهلك.
ومن القصص القصيرة التي فيها توظف العواطف غير الطبيعية قصة (تقشير التفاح) لعلي عباس خفيف. وبطلها الفأر وهو يحكي يوميات بحثه في القمامة ومقاتلة القطط (أنا أحب براميل القمامة.. غضبي كان له سبب يجب أن تكون تلك القطعة من نصيبي، وربما لأصبحتْ من نصيب صغاري في هذا الصباح). ومثلها قصة (حتى الموت) وهي عن فأر صغير يشعر بالجوع فيجتاحه (ضجيج الجوع بين أضلاعه.. همس له الخوف.. شعر بمذاق الجوع.. دب الوهن إلى مفاصله.. ثم فجأة حين لم يعد يشعر بألم جسده وهو ينسحق بين المكنسة ومجرفة الأوساخ، ارتجف، غفا مرة أخرى حتى الموت). وجمعت قصة (يمين العدم يسار النفي) 2005 لحيدر موسى الخيال المحض بالمنظور البايولوجي، فكانت المحصلة سرداً غير واقعي، بطله كائن مجهري، يحكي معاناته مع أخواته بضمير جمع المتكلمين (من قارات نائية في الجسد نأتي نحن الإخوة الثلاثين المستوطنين مستنقعات الكيس اللزجة، حيث الظلام والدفء سابحين فيها برؤوسنا الكروية وأذنابنا الخيطية لا يتوقف حراكنا وانزلاقنا على بعضنا بعضا، عالمنا مزدحم بنا). وتارة أخرى حين يتحول الضمير إلى الأنا بلسان الأنثى، وتغدو الأفعال مضارعة، في إشارة إلى دوامية المعاناة وضنكها (تبرق في ذهني ومضات حادة.. أبصر عمق القناة غير مبال.. ألف نفسي واقفة في شرك نداءات غامضة) وتصل البطلة إلى بيت الأخوات، وتعرف دروب الإغواء في قنوات ذات انسياب وانعطاف، باحثة عن رسائل الذكر (طوال الأيام المنصرمة، وها أنا ككرة من اللين أطفو فوق سيول الدم الآسن، أهبط عبر المجاري الآسنة، ابتلع المزيد أغوص، أغرق، أغيب) وفي اليوم الحادي والعشرين من شهر الحياة يحصل الاقتران ويكون التخليق (هو أنا وأنا هي، لوحدنا نستلقي في بياض أمومي) وتنفرج الحبكة وقد تحول المتكلم من المؤنث إلى المذكر، كدلالة على الغلبة داخل جوف القناة. والمفارقة التي بها تختتم القصة أن صوت السارد تحول من «أنا» الشخص الأول إلى «هو» الشخص الثالث، واستحال المكان مقبرة إسفنج، وغدا الزمان عدميا، ومات الإخوة والأخوات (حملتهم سفن اللزوجة، ذابوا في ملوحة الأقمشة، ظلوا يتلوون، ويشكلون لطخة بيضاء في السراويل السرية، ماتوا على حدود الجسد الآخذ بغفوته اللذيذة) وبهذا تكتمل الرحلة من العدم/ الولادة إلى النفي الأبدي/ الموت.
كاتبة عراقية
الأخت نادية هناوي، شتان بين «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل و«التحول» أو «المسخ» لفرانتز كافكا –
الأولى تطرح فكرات رئيسية عن تمثيلات كمثل الطبقة والمساواة واللامساواة والقوة والهيمنة في إطار تعليمي المبنى والمعنى.. وهذه الفكرات يتم اكتشافها تبعا من خلال الشخصيات الحيوانية برموزها الإنسانية واللاإنسانية ومن خلال الأحداث التي وقعت في المجتمع الروسي (السوفييتي) بدءا من العام 1917..
أما الثانية، «التحول» أو «المسخ» لفرانتز كافكا، فتعمل على اكتشاف فكرات رئيسية مغايرة من مثل الاغتراب الوجودي وعبثية الحياة والتحول المسخي من خلال تشابك العلائق العائلية وتعقيداتها – فالرواية عبارة عن تتابع مجازات ورموز وجودية تدور حول مفهوم “العزلة الإنسانية” في العصر الحديث تحديدا..
هدف د.هناوي الذي كريست له فقرات مقالتها الطويلة ليس الاهتمام بجريية الفرق بين روايتي كافكا واروويل المعروف حتى للقراء العاديين بل هدفها استجلاء طرائق توظيف الحيوان في اساليب السرد