لا أحسب أن كِبار السنّ، وحدَهم، هم الذين يعصِف بهم الحنين إلى الماضي: الجميل أو الزاهر أو الذهبي، كلٌّ حسبَ هواه. فجميعنا يهرَع بخياله إلى ماضٍ يراه أفضل مما يَجده في حاضره إذا ما جاحت جائحةٌ اجتماعيةٌ أو سياسيةٌ أو دينية. وقد يكون الدافع إلى هذه الحالة الذهنية خَبرُ تعيين شخص في مركز حسّاس في المجال العلمي أو الثقافي أو السياسي من دون أن يكون لذلك الشخص مؤهِّلات تناسب ذلك المنصب، سوى أنه محسوبٌ على الجهة الفلانية أو العلاّنية. ولم يَسلم من ذلك تعيين شخص قليل الخبرة أو الكفاءة أو عديمها في منصب رئيس الجامعة مثلا. كيف لا يَعصف الحنين بالمرء إلى تذكّر رئيس جامعةٍ مثل الأستاذ الدكتور عبد الجبار عبد الله، خريج أبرز المعاهد العلمية في أمريكا، وهو «معهد مَساشوستس للتكنولوجيا «والتلميذ المفضّل لدى عبقري الزمان آينشتاين الذي أهداه عند التخرّج قلم حبر نفيس كان يستعمله، وهو مصنوع من حجارة كريمة حمراء قانية، بقي الدكتور عبد الجبار يستعمله معتزّاً به، كما يعتزّ بالرجل وقلمه كلُّ من كان يعرف الرجل.
أمّا كيف عصفت جائحةٌ سياسيةٌ واقتلعَت هذا الرجل اللاّيتكرّر مثله من منصبه العلمي وقذَفت به في السجن فهذه عِلمُها عند ربّي، لأن الرجل لم يكن له أي نشاط سياسي أو حزبي أو تجمّع ديني أو مذهبي. وفي السجن تسلّط عليه حارس من الطغامة وانتزع منه ذلك القلم الأثير. ويروى عن الدكتور عبد الجبار أنه قال: الذي آلمني أكثر من السجن هو خسارة ذلك القلم الهديّة من أستاذي عبقري زمانه.
كيف لأي عقل يَستطيع أن يفهم كيف لبلدٍ يُحاول السير على طريق النمو ثم يفرِّط بشخص من خيرة أبنائه عِلماً ومعرفةً وخُلقا؟ ألا يُذكِّرنا هذا بقول الشاعر الجاهلي:
تبقى الأمور لأهل الرأي ما صَلُحَت
فإن تولّت فبالأشرار تَنقادُ!!!
سمعتُ مرّةً أحَدَهم يقول: الثورةُ تأكلُ أبناءها! فقلتُ في نفسي: هذا كلامٌ مأفون. ولكني تذكّرتُ لاحِقاً رجُلا ًعبقريّا آخر، جرى له مثل ما جرى لنابغةِ فيزياء ورياضيات قبله، هو الدكتور حِلمي سَماره، الذي جاءنا إلى بغداد مع الطوفان الأول من فلسطين وبدأ التدريس في مجال التخصص النادر، وهو خرّيج جامعة كمبرج: بكالوريوس مزدوج في الرياضيات والفيزياء، ودكتوراه في هذين العِلمين النادرين. وأنا أعرف الرجل من قريب، وهو لم يكن له أي اهتمام بالسياسة ولا بالتجمّعات والتعصّبات من أي نوع. وسرعان ما اختَطفَته من جامعة بغداد شركة نفط العراق وتعيّن مدير الحقول النفطية في كركوك، وهو أول عربي على الإطلاق يتسنّم مثل ذلك المركز الحسّاس. واستمر الرجل مُبدعاً في عمله والجميع مُعجبٌ كيف لشركة نفط عراقية إسماً وبريطانية فعلا تستقطب هذا العربي الفلسطيني اللاجئ، إلاّ لِكونه صاحب كفاءات علمية يندر وجودها في غيره. وما لبثت جائحةٌ سياسيةٌ أن عصفت بالبلاد وإذا بهذا العبقري العالِم يودَع في السجن دون تهمة سوى أنه في منصب كبير في شركةٍ أجنبية. لكن الرجل لم يتوقّف عن التعليقات الساخرة والضحك المستمر. وقد حكى لي في آخر مرةٍ التقيتُ به بعد أن خرج من السجن «لعدم توفر أسباب الإدانة» وقد تلقّفته شركة نفط في الشارقة.
قال أدخلوني إلى غرفةٍ كبيرة حديثة البناء ولم يسمحوا لي باصطحاب أوراق أو أقلام. ولكني وجدتُ باب الغرفة الداخلي لم يَجُفّ طلاؤه بعد، فوجدتُ أرضية الغرفة تمتلئ بعيدان الكبريت المستعملة، فبدأت بالتقاطها ورحتُ أكتب بها على ظهر الباب طريّ الطلاء معادلاتٍ رياضية وفيزياوية. وفي اليوم الثاني دخل عليّ اثنان من الحرس واستغربا ما وجداه «منقوشا» على ظهر الباب، فقال أحدُهما للآخر: «هذا لو مخبّل لو ديسَوّي سحر». واستمر الحال أربعة أيام حتى أطلقوا سراحي وسرّحوني من الوظيفة!
الآن السؤال الذي لا بد منه: كيف يمكن التعويض عن مثل هؤلاء الأفذاذ الذين هم ثمار عُقود طويلةٍ من التعليم والتخصص، وهو ما لم يعد موجوداً في بلادنا منذ سنين طويلة؟
وفي مجال الثقافة والشعر بخاصة، كيف يمكن لنا أن ننسى شعراءنا الكبار مثل الجواهري وخليفته عبد الرزاق عبد الواحد! لا أحسب أن الزمان سيَجود بمثلهما لأن ظروفنا الثقافية والتعليمية لا تُبشِّر بظهور مبدعين في الثقافة والشعر. لا أحسب شاعراً قد تغنّى بحُب العراق مثل عبد الرزاق الذي عرَفتُه منذ سنتنا الأولى في الكليّة، وبقيتُ على تواصل معه، وبخاصة في سنوات الشتات، إلى يوم دخوله المستشفى في باريس في8/11/2015 لإجراء عمليةٍ في قلبه المُرهَق بحُبِّ العراق، وبما ثقُل عليه من أحداث في العقود الأخيرة، وهو الشاعر الذي لم يَنتَمِ إلى أية جماعةٍ سياسيةٍ أو دينية، فقد أحبّ العراق وغنّى له منذ قصيدة «عام الفيل» وصوَّر عَراقة البلد منذ «عندما كُوِّرَت» الأرض وخلق الله العراق أوّلاً. وبقي يهتف: «باسم العراق/ أكسِّر الأختامَ عن صوتي المُدمّى/ بي ما أنوءُ به/ وقد سمَّيتُ حتى الغيب/ لكنّ الذي بي لا يُسمّى» وهكذا إلى آخر ما نظم من شعر، قصيدةً قصيرة بعنوان «ياعِراق» وقد تلاها عليّ بالهاتف من المستشفى بباريس قبل دخوله إلى العملية: «خوفاً على قلبك المطعون من ألمي/ سأطبقُ الآن أوراقي على قلمي. ياما حَلِمتُ بموتٍ فيك تحمِلني/ على الجنازة أصواتٌ بلا كَلِم… أموت فيكم ولو مقطوعةٌ رئتي/ يا لائمي في العراقيين لا تَلُمِ».
ومن العراقيات الماجدات غابت أميرة الشعر العراقي بالعربية الفصيحة وبالعامية العراقية كذلك. بدأت لميعة عباس عماره «بنت عمّتي» كما كان يقول عبد الرزاق عبد الواحد، بدأت تتألق في أواسط الخمسينات وقد عرفتُها في «العالية» حديقة الشعر الغنّاء، يوم تعرّفتُ على عدد من شعراء الدار الذين كانوا الماهدين لحركة الشعر الحديث التي بدأت في العراق وامتدّت إلى بقية الأقطار العربية. لا يقصِّر ذوّاقة الشعر عن الإشادة بشاعرية لميعة، ولوأن بعض الكتّاب يرى أن شهرة لميعة إنما تعود إلى إعجاب الشاعر الكبير بدر شاكر السيّاب بها. ولكن الواقع أنه لم يكن بين شباب العالية من لم يكن مُعجبا ًبلميعة. هذه شاعرةٌ قد ازدهرت منذ بداية الستينات واستمرّ تطوّرها وازدهارها في مُغتَرَبها الاختياري في سان دييغو في كاليفورنيا. وقد بقيتُ على تواصل معها بالرسائل والهاتف منذ بداية الثمانينات بشكل خاص. وكانت ترسل إلي إبداعاتها بالفصيحة وبالعامية مما جعلني أفكر كثيراً بأن دانتِه اليكَييري قد طوّر اللاتينية الفصيحة إلى اللاتينية العامية التي صارت تدعى الإيطالية وكتب بها أهم قصيدةٍ في العصور الوسطى وهي «الكوميديا الإلهية». فلماذا نستغرب أن تكتب لميعة شعراً جميلاً بالعامية العربية العراقية؟ وهذا لا يعني للحظة واحدة أن تقوم العامية مقام الفصحى، فعند الشاعرة روائع من نوعين. ومثل «ابن عمتها» بقيت لميعة تغنّي للعراق: «لأنّ العَراقةَ معنى العراق/ وأن التبَغدُدَ عِزّاً وجاها».
ولكنّ الموت أفقدَنا شاعرةً فذّة يوم 18/6/2021.
هل يكون غياب سعدي يوسف، الشاعر الذي برز في خمسينات القرن الماضي، آخر أحزان الشعر العراقي الحديث؟ عرفتُ سعدي في العالية كذلك، وقد جاء بعدي بسنتين، ولكنني عرفته شاعراً في قسم اللغة العربية الذي أنجب نازك والسيّاب والبيّاتي وشاذل طاقة، وقبلهم جميعاً الشاعر العربي السوري سليمان أحمد العيسى. والمؤسف أن غالبية من كتب عن سعدي لا يستطيع الفكاك من الإشارة إلى ميوله الاشتراكية، بل الشيوعية في الفكر والثقافة، وكأن الشاعرية ناتجٌ عرَضي، وهذا يُجانب الإنصاف. ففي الواقع كان كثيرٌ من شباب المثقفين في خمسينات القرن الماضي في العراق يميلون إلى الفكر الاشتراكي بل الشيوعي، مثل ميل كثيرٍ من المثقّفين في العراق إلى النازيّة في أربعينات القرن الماضي، والدافع المُحرك هو الشعور العام بكراهية المُستعمِر الأوروبي والأمريكي لاحقا، والأمل أن يكون غيرُه مخلِّصا من المستعمر الغربي، وهو أمل سُرعان ما بان زيفه لاحقاً، فوجدنا شاعراً كبيراً مثل السيّاب قد سارع في الابتعاد عمّا حَسِبه سابقاً أملاً في الخلاص مما كان العراق يرزح تحته. ومهما يمكن أن يقال عن أفكار سعدي في السياسة فإنه بقي حتى أخريات أيامه يتغنى بحب العراق:
«أهوَ العراق؟ مُباركٌ من قال إني أعرف الطرُقَ التي تُفضي اليه/ مباركٌ من تَمتَمَت شفتاه أربعةَ الحروف: عراقُ عراقُ ليسَ سوى عِراق».
لكن الموت غيّب آخر العناقيد في12/6/2021 وقد نامت نواطيرُ العراق عن ثعالبها.
أولئك آبائي فجِئني بمِثلهم / إذا جَمَعتنا يا (زمانُ) المجامِعُ… مع الاعتذار عن هذا التحريف من روح الفرزدق.
رائعة للاستاذ الكبير الدكتور عبدالواحد لؤلؤة