من الحرب الأوكرانية إلى المواجهة الشاملة

التطور الحديث في مسار الحرب الأوكرانية، والمتعلق بسماح الولايات المتحدة باستخدام الأوكرانيين لصواريخ بعيدة المدى، لا ينفصل عن التصعيد العام في هذه المنطقة الملتهبة الممتدة من الغرب الآسيوي إلى الحدود الأوروبية والعربية. في المنطقة المسماة بالشرق الأوسط، تبدو الصورة وكأن الكيان وحلفاءه الأمريكيين أرادوا أن يفرضوا حقيقة الاحتلال بأي ثمن، وإن كان تجاوز ما كان ينظر إليه كسقوف محرمة. يدخل في هذا تسريع تهويد القدس واعتراف الأمريكيين بها كعاصمة إسرائيلية، كما يدخل فيه الاستهداف المكثف لكل قيادات المقاومة السياسية والعسكرية، هذا غير الاستمرار في إبادة شاملة ومكشوفة لم يعد التذكير بهجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول يكفي لتبرير وحشيتها.
لا يمكن فصل هذا التصعيد، الذي يعد بمثابة تدخل مباشر في الحرب ضد أوكرانيا، بعد فترة من التدخل غير المباشر عبر تقديم أنواع من الدعم وممارسة ضغوط اقتصادية، عن كل تصعيد آخر يتم فيه استفزاز إيران أو عموم الفاعلين في المنطقة عبر الهجمات المباشرة، أو عبر إجراءات توضح حجم التنسيق، كما حدث مؤخراً من تعيين سفير أمريكي صهيوني في تل أبيب.

المحبط في الأزمة الأوكرانية أن حلها يبدو صعباً، فحتى لو أجبر الروس والأوكرانيين على الجلوس للتفاوض والقبول بتنازلات مشتركة، فإن ذلك سيكون ترحيلا وتأجيلا للصراع بشكل تكتيكي

في هذه الأجواء لا يمكن القبول بفكرة التوريط، التي يستخدمها البعض قائلين، إن الرئيس الأمريكي جو بايدن، المنتهية ولايته، إنما يريد بهذا الإعلان أن يحرج ترامب، الذي وعد بإنهاء الحرب الأوكرانية. المفارقة في هذا التحليل هي أنه، لو صح، فهذا يعني انقلاب تقييماتنا للحزب، لأن ذلك يعني أن الديمقراطيين يسعون لاستمرار الحرب، بعكس الجمهوريين، خاصة ترامب، الباحثين عن السلام. الخطورة في الإعلان عن تقديم صواريخ وألغام مضادة للأفراد، تكمن في أن الحرب، التي كنا نطلق عليها اسم «الحرب الأوكرانية»، سوف تتحول لمواجهة شاملة قد تمتد مساحتها لتشمل جميع الأراضي الروسية والأوكرانية، كما قد تدفع روسيا، التي لم يعد لديها ما تخسره، لمهاجمة أوروبا، خاصة أن معظم دول القارة، المنخرطة في تحالف عسكري مع الأمريكيين، لم تتأخر في تأييد الخطوة الأمريكية، وإن أعلنت بعضها رفضها لضرب العمق الروسي، والاكتفاء باستخدام السلاح البعيد المدى في نطاق حلبة الصراع. هذا لا يعني أن دولاً بعيدة جغرافياً قد تكون في مأمن، لأن المواجهة الشاملة قد تشمل في أجزاء منها صراعاً على النفوذ في بعض مناطق الجنوب، كما يحدث اليوم من منافسة شرسة لكسب الحلفاء والأراضي في افريقيا. هذه المواجهة الشاملة يمكنها أن تفسر لنا التصويت الروسي ضد مشروع القرار البريطاني، المدعوم من الغرب والمرفوض من الخرطوم، بشأن السودان الأسبوع الماضي. القراءات، التي فسرت الأمر بكونه تعبيرا عن عمق العلاقة بين البلدين، لا تبدو كافية لفهم الموقف القوي، الذي لم يكتف بالامتناع عن التصويت، بل تجاوز ذلك لاستخدام الفيتو. على مر السنوات الماضية كانت لروسيا حساباتها في ما يتعلق بصورتها ومواقفها الدولية، كما كانت تتعامل بحذر، حتى وهي تلجأ لمناهضة بعض القرارات الأممية، وهو ما يظهر لنا في تمريرها في وقت سابق لقرارات ضد إيران، التي ينظر إليها الجميع كحليف للروس. أكثر من ذلك فإن روسيا لم تعترض التصويت، الذي قاد لنقل ملف الانتهاكات في السودان للمحكمة الجنائية الدولية. الأمر، الذي كان يعني آنذاك توريط البشير، الذي كان يتمتع بعلاقة جيدة مع موسكو، وإحالته لاحقاً للملاحقة والمحاكمة.
الحذر الروسي، الذي كان يقابل الانخراط الغربي الواضح في الحرب الأوكرانية بالتجاهل، والحرص على الابتعاد عن المواجهات المباشرة، كان يعود لعدم الرغبة في خسارة الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، لأسباب من بينها الوعي بعدم التكافؤ، الذي يحدث اليوم هو وضع روسيا في الزاوية بشكل يجعلها مجبرة على الدفاع عن نفسها، ضد تكتل غربي لا يخفي رغبته في إضعافها وتفكيكها. بهذا فإن كل الخيارات تظل ممكنة، وهو ما يجبر على التعامل مع التلويح باستخدام السلاح النووي بشكل جاد. تفسير آخر للخطوة الأمريكية يربطها بمحاولة مساعدة أوكرانيا على إحكام سيطرتها على مقاطعة كورسك الروسية، ومناطق أخرى حدودية من أجل استخدام ذلك كورقة ضغط ومقايضة يمكن التلويح بها لاستعادة الأراضي، التي تعتبرها كييف محتلة، بما يشمل إقليم القرم. بعد ساعات من تسريب الإعلان الأمريكي شن الطيران الروسي هجوماً وصفه الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأنه الأعنف منذ بداية الحرب، حيث تم استهداف مناطق استراتيجية على رأسها محطات طاقة. تلا ذلك الهجوم هجوم آخر فريد من نوعه بالصواريخ الباليستية، القابلة لحمل رؤوس نووية، على مدينة دنيبرو الأوكرانية. كان في ذلك رسالة مفادها أن التصعيد الغربي لن يقابل بتراجع من طرف الروس.
أيلون ماسك، اللاعب السياسي الجديد في الساحة الأمريكية كتب معلقاً على منشور الرئيس زيلينسكي، الذي قال فيه، أن لا أحد يستطيع إجبارهم على الجلوس إلى مائدة تفاوض، بأن زيلينسكي يمتلك حس دعابة. ماسك، الذي يمثل الواقعية المادية، التي يشترك فيها مع صديقه ترامب، كان كأنه يقول، إن الرجل لا يدرك أن كل ما يعينه حالياً على الوقوف هو العصا الغربية، التي لو سحبت، لما استطاعت بلاده أن تصمد ولو لأيام. يذكر ماسك بأن الدعم الأمريكي، وهو أهم أنواع الدعم الغربي، معرض للتوقف، حسبما لوح الرئيس المنتخب ترامب، الذي ظل يؤمن بأن الأموال المقدمة لكييف هي أموال مهدرة. في أوكرانيا، التي تندم على ثقتها في الغرب، الذي جردها عقب انفصالها من الاتحاد السوفييتي من سلاحها النووي، وظل سياسيوها يطالبون بأنواع من الأسلحة المتقدمة، التي لم يحصلوا منها إلا على أنواع دفاعية متوسطة القوة، فإن سؤالا يظل مطروحا وهو: هل يمكن لهذه الصواريخ فعلاً أن تغير كفة المعركة، وأن تجبر الروس على الاعتراف بالهزيمة أو الاستسلام، خاصة في ظل التعهد، الذي لا يمكن خرقه، باستخدامها في نطاق محدود؟ إجابة هذا السؤال مهمة، لأنها لو كانت بالنفي، فهذا يعني أن أوكرانيا ستواجه مجدداً غضباً روسياً غاشما قد تكون الاستعانة الروسية بمقاتلين من كوريا الشمالية وبتدخل صيني، كما حدث من قطع كيبلات أوروبية في بحر البلطيق، وفق ما ذكر قبل أيام، مجرد مظهر من مظاهره. هذه التطورات، إذا تزامنت مع حياد عسكري أمريكي متوقع في زمن ترامب، فإنها ستقود، على العكس، لدفع الأوكرانيين إلى التفاوض، بل إلى تقديم تنازلات قاسية وهو ما سيكون أمراً مؤلماً وإهانة وطنية يصعب ابتلاعها.
المحبط في هذه الأزمة هو أن حلها بشكل مرض لجميع الأطراف يبدو صعباً، فحتى لو تم دفع الروس والأوكرانيين وإجبارهم على الجلوس إلى التفاوض والقبول بتنازلات مشتركة، فإن كل ما سيحدث سيكون ترحيلا وتأجيلا للصراع بشكل تكتيكي. من المستبعد أن تضحي أوكرانيا بمناطق تعتبرها ضمن حدودها، كما أن من المستبعد أن تتخلى روسيا بشكل دائم عن أراض تابعة لها. هذا يجعل أي سلام مفخخا وأي وقف لإطلاق النار هو مجرد اتفاق مؤقت. إلى ذلك الوقت، الذي يتم فيه الجلوس إلى طاولة التفاوض، ربما تحت ضغط الرئيس القادم ترامب، فإن المعارك ستستمر بشكل قاس من أجل تثبيت النفوذ، كما أن المواجهات الشاملة في ساحات خارج جغرافيا الصراع سوف تستمر أيضاً.
*كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية